الأجر السوري خلال خمسين عاماً من نصف كيلو إلى 7 غرامات سنوياً

الأجر السوري خلال خمسين عاماً من نصف كيلو إلى 7 غرامات سنوياً

كثيراً ما نسمع مقارنات بين وزن الأجور السورية تاريخياً وقدرتها الشرائية في عقود مضت، وبين اليوم... فالراتب السوري كان لفترات طويلة قادراً على مواكبة ليس فقط المتطلبات الأساسية، بل على تجميع مدخرات كان أغلب السوريين يخزنونها ذهباً مصاغاً وعقارات. فما الذي يمكن استنتاجه بالمقارنة بين ستينات القرن الماضي واليوم؟!

150 ليرة تفعل الكثير في الستينات

150 ليرة سورية هو الحد الأدنى للأجور في عام 1964، حيث كان العامل السوري يحصل على 180 ليرة وبارتفاع 20% عن هذا الحد الأدنى، بينما كان حملة الشهادة الثانوية يحصلون على 210 ليرة، أما راتب حامل الشهادة الجامعية فكان يبلغ: 375 ليرة.

كانت الأجور في الستينات، هي ثمرة نمو مرتفع بعد الاستقلال، وحركة نقابية وعمالية قوية، وحركة سياسية نشطة تستطيع أن تدافع عن حق الطبقة العاملة وحصتها من التقدم الجاري في حينها.
مقابل هذا الأجر كانت تكاليف المعيشة الأساسية قليلة، وكان أجر العامل الشغيل من غير حملة الشهادات قادراً على تغطيتها مع فائض.
فمثلاً كان سعر المنزل من ثلاث غرف وصالون في دمشق يقارب وسطياً: 8000 ليرة، أي يمكن شراؤه براتب الحد الأدنى بأقل من أربع سنوات ونصف!
أما بالمقارنة مع اليوم، فإن أي منزل في دمشق من ثلاث غرف وصالون لا يمكن أن يقل عن 60 مليون ليرة، ويمكن شراؤه براتب الحد الأدنى للأجور (16000 ليرة)، ولكن على مدة 312 سنة!

تضخم 10 أضعاف في الثمانينات

في منتصف الثمانينات، كانت الأزمة الاقتصادية قد اتَّضحت وانتقلت إلى العلن، ناجمة عن التراجع الكبير في النمو في السنوات الخمس بين 1975-1980 وعدم تحقيق الخطة لأهدافها، الأمر الذي ترافق مع العقوبات على سورية وتوقف المساعدات الخليجية السنوية التي كانت تصل إلى 1,5 مليار دولار سنوياً...
وبالنتيجة، كان انخفاض قيمة الليرة وارتفاع مستوى الأسعار وتراجع القيمة الحقيقية للأجور، واحداً من نتائج الأزمة الأولى والسريعة، ولكن في ذروة الأزمة لم تصل الأوضاع لتقترب حتى من سوء أوضاع السوريين وأجورهم اليوم.
في عام 1984 أصبح الحد الأدنى للأجور في سورية: 650 ليرة وتضاعف أربع مرات عن 1964، وأجرة العامل الشغيل 700 ليرة، بينما أجرة حملة الشهادة الثانوية 800 ليرة، وأخيراً، أجرة حامل الشهادة الجامعية: 1145 ليرة.
وبالمقابل تضخمت أسعار المنازل لتصل للمنزل في دمشق من ثلاث غرف وصالون إلى 200 ألف ليرة، أي: تضاعفت العقارات في دمشق 25 مرة خلال عشرين عاماً. ولكن مع هذا فقد ظلّ الحد الأدنى للأجر قادراً على دفع أقساط بيت لمدة 25 عاماً تقريباً، ليؤمن شراءه.

الأجر بمقياس الذهب

أما بالقياس إلى غرام الذهب من عيار 21 قيراط، فإن الحد الأدنى للأجر في منتصف الستينات كان يعادل: 37,5 غراماً ذهباً، وراتب الشغيل من غير حملة الشهادة يعادل 40 غرام ذهب تقريباً!
حيث كان سعر الأونصة العالمي في حينها: 35,5$، وكان سعر الدولار مقابل الليرة السورية: 3,75 ليرة، وكان سعر الغرام 4 ليرات تقريباً.
ولكن تغيرات كبرى طالت علاقة الليرة بالذهب، مع التضخم المنفجر في الثمانينات عالمياً ومحلياً، ففي عام 1984 أصبح الحد الأدنى للأجور في سورية يعادل: 1,6 غرام ذهب فقط بعد أن كان يعادل 37 غراماً! وهذا التغير الكبير هو نتيجة جملة عوامل، منها: الارتفاع الكبير في سعر الذهب العالمي في السبعينات إذ تضاعف خلال عشرين عاماً بمقدار 10 مرّات تقريباً، بالإضافة إلى التغيّر الكبير في سعر الدولار في سورية حيث سجّل في عام 1984 سعر: 41 ليرة، بعد أن ارتفع في السبعينات من 3,7 إلى 11 ليرة. وأصبح سعر غرام الذهب 21 في سورية يقارب 370 ليرة، بعد أن كان يقارب 4 ليرات في الستينات.
أما بالمقارنة مع الحد الأدنى للأجور اليوم والبالغ 16 ألف ليرة، وبين سعر غرام الذهب من عيار 21، والبالغ: 24600 ليرة، فإن الحد الأدنى للأجور يعادل نصف غرام من الذهب تقريباً، و0,6 غرام بالضبط.

 

 

 

دخل المهن العليا تراجع أيضاً

إذا ما أخذنا مهنة الطبيب وأجورها خلال الفترات الزمنية المختلفة، يمكن القول: أن المهن الحرّة وذات الكفاءات كانت قادرة على المحافظة على مستوى دخلها، ومواكبة التضخم بمرونة أعلى، على العكس من الأجور الأخرى... ولكنها أيضاً تدهورت مع الزمن.
في الستينات وفي عام 1964 تحديداً كانت أجرة الطبيب العادي غير المختص تقارب 5 ليرة سورية، بينما ارتفعت في الثمانينات إلى 35 ليرة، أي: أن أجور الأطباء قد تضاعفت سبع مرات بالمقارنة مع أجر العمال والموظفين الذي تضاعف 4 مرات فقط. ولكن كلا الأجرين تضاعف بمعدل أقل من مستوى الأسعار الذي تضاعف 10 مرّات بين الستينات والثمانينات.
أما من الثمانينات وحتى اليوم فإن أجرة الطبيب قد تضاعفت 85 مرّة تقريباً، إذا ما أخذنا كشفية الحد الأدنى 3000 ليرة، ولكنها أيضاً تراجعت بالقيمة الفعلية.
وإذا ما قسنا كشفية الطبيب السوري مقيّمة بالذهب أيضاً، فإنها قد تراجعت إلى حد بعيد، فبينما كان الطبيب يعاين المرضى بأجرة تبلغ أكثر من غرام ذهباً في الستينات، فقد أصبحت اليوم تعادل 0,1 غرام ذهب، ويمكن القياس عليها للقول، بأن الدخل الحقيقي حتى للمهن العالية في سورية، قد تراجع بمقياس الذهب بنسبة 90% بين الستينات واليوم!

الدخل الوسطي  الفردي السوري ذهباً

وإذا ما أخذنا مؤشراً أعم من الأجور، وهو مؤشر الدخل الفردي الوسطي، الذي يشمل الحصة الوسطية لكل مواطن سوري من الناتج الإجمالي، فإن هذا الدخل أيضاً قد تراجع بمقياس الذهب بمستويات كبيرة. أي: أن عملية التراجع لم تقتصر على الأجور بل شملت كل السوريين وسطياً.
فكل فرد في سورية عام 1964 كان يحصل وسطياً على 975 ليرة سنوياً، وهذه كانت تعادل 260 دولاراً، وتعادل 243 غراماً ذهباً، وقرابة ربع كيلو سنوياً، وكان أصحاب الحد الأدنى للأجور قادرين على الحصول على مقدار أعلى من الوسطي وقرابة 450 غراماً سنوياً! أي: أن جزءاً هاماً من الدخل كان يذهب للأجور.
أما في الثمانينات فقد ارتفعت حصة الفرد من الدخل الوسطي، وأصبحت تقارب 1700 دولار، وحوالي 70 ألف ليرة، ولكنها أصبحت تعادل 188 غرام ذهب بتراجع بنسبة تفوق 20%. بينما أصبح أصحاب الحد الأدنى من الأجور يحصلون منها على 19 غراماً سنوياً فقط، ليكون تراجعهم أكبر بنسبة 96%!
أما اليوم، وتحديداً في عام 2016، فقد أصبحت حصة الفرد السوري من الدخل تقارب: 1200 دولار سنوياً، وهي تعادل 576 ألف ليرة، ولكنها لا تتعدى 30 غراماً ذهباً، لا يحصل منها أصحاب الأجور إلا على 9,6 غرام سنوياً.
لقد كان الدخل الفعلي لعموم السوريين أعلى في الستينات، وكان الأجر الفعلي للشغيلة أعلى بما لا يقاس، وخلال العقود التالية، كان الدخل الفردي السوري بمقياس الذهب ينخفض، ولكن الأجر بمقياس الذهب كان ينخفض بحدّة أكثر.الحد

الأدنى لأجور الستينات بمقاييس اليوم

925000 ليرة 

الحد الأدنى لأجر العامل السوري في الستينات، كان يعادل 37.5 غراماً من الذهب من عيار 21، أي: بمقاييس اليوم فإن الـ 150 ليرة في حينها، تعادل: 925 ألف ليرة تقريباً!

1100000 ليرة

الحد الأدنى للأجور في الستينات كان يعادل قسطاً شهرياً لشراء منزل في دمشق من ثلاث غرف وصالون، خلال أربع سنوات ونصف. أي: بمقاييس اليوم فإن الحد الأدنى للأجور كان يقارب: 1,1 مليون ليرة، لشراء منزل بـ 60 مليون ليرة خلال 4,5 سنة!

 

خلال خمسين عاماً بين الستينيات واليوم، تغيرات كثيرة جرت على الليرة السورية، وعلى مجمل الاقتصاد السوري... ولكن الاتجاه العام كان تراجعاً في قدرة النشاط الاقتصادي على مواكبة زيادة الضرورات سواء من حيث عدد السكان، أو من حيث عموم ضرورات التنمية. لهذا الاتجاه العديد من المؤشرات، ولكن واقع الدخل الفردي الوسطي يعبر عنها بشكل محدد، فكل سوري أياً كان صاحب أجر أو ربح أو مهني، كان دخله الوسطي وحصته من الناتج الإجمالي تتراجع. وبمقياس الذهب كانت حصة الفرد في الستينيات تشتري 8 أضعاف الذهب الذي يمكن أن تشتريه اليوم. وهو ما يدل على أن كل الشرائح الاجتماعية والدنيا تحديداً قد تراجعت حصتها، سواء أصحاب الأجور أو الفلاحين أو المهنيين.
أما على مستوى أصحاب الأجور فإن التراجع أكثر حدة وعنفاً، فبينما كان أجر الحد الأدنى يستطيع أن يشتري في السنة قرابة 450 غراماً ذهب، أصبح لا يستطيع شراء 7 غرامات في السنة في عام 2016.
البعض يقول ينبغي العودة إلى مستويات ما قبل الأزمة، ولكن الواقع يقول أنه ينبغي العودة إلى أعلى نقطة في معيشة وأوضاع السوريين... عندما كان أجر الحد الأدنى قادر على شراء منزل في المدينة خلال أقل من خمس سنوات! وقادر على تغطية الحاجات الأساسية مع فائض ادخار وضمان للمستقبل... وهذا ما لم تشهده سورية منذ ستينيات القرن الماضي.
إن قراءة مسار التراجع الاقتصادي السوري القديم، ينبغي أن يجري بإطار جملة العوامل السياسية والاجتماعية التي لعبت دوراً في عدم تصاعد المسار بل تباطئه. لنستطيع القول إننا سنعود أفضل مما كنا!

هوامش:


*مصدر أرقام أجور وأسعار الستينات والثمانينات، من مقارنة سعرية أجريت في جريدة نضال الشعب أجريت عام 1984.
*سعر أونصة الذهب العالمية 1984: 35$- 1984: 320$- 2019: 1487$. كل أونصة تعادل 35,55 غرام عيار 21.
*الدخل الوسطي الفردي من أرقام world bank data.

معلومات إضافية

العدد رقم:
926
آخر تعديل على السبت, 17 آب/أغسطس 2019 15:24