تقييد حركة الأموال.. اتجاه قادم في أمريكا!

تقييد حركة الأموال.. اتجاه قادم في أمريكا!

 

الحرب التجارية لن تهدأ بالمفاوضات بل ستتصاعد، فهي تعبير عن سياسة الانكفاء الحمائية الغربية، الاتجاه الموضوعي المتبنى بقوة من أحد أطراف المركز الغربي ممثلاً بترامب... ليرتد عن العولمة، وعن شعارات (الحرية الاقتصادية) التي فرضتها الولايات المتحدة تاريخياً وفي المرحلة النيوليبرالية، حرية حركة: البضائع والأموال وجزئياً الأشخاص، إذ ستشتد القيود الغربية حولها جميعاً.

إن كان تقييد حركة الهجرة وتقييد حركة البضائع واضحاً اليوم، فإن تقييد حركة الأموال يظهر تدريجياً. في العقد الأخير من القرن الماضي أصبح تحرير حركة رؤوس الأموال وتدفقها عبر الحدود نقطة التركيز الرئيسة للاقتصاد المعولم، وهذا يتغير اليوم.

السبعينات وإطلاق حركة رؤوس الأموال

تمّ منذ السبعينات وضع أسس للنيوليبرالية بجانبها النقدي وتحديداً عام 1976 في مؤتمر جامايكا، إذ تضمن: رفض سياسات تثبيت سعر صرف العملات، وتحرير حركة رؤوس الأموال، وكان هذا المؤتمر شرارة إطلاق هذه السياسات عالمياً، وقد التزمت به دول مجموعة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD. ونتجت عنه حركة وتدفق هائل للأموال بين الدول، على شكل التدفقات المباشرة أو المحافظ الاستثمارية، والقروض وغيرها، وكان لإطلاق هذه الحركة الدور الأهم في هيمنة المنظومة البنكية الغربية على اقتصاديات العديد من بلدان العالم.
32 تريليون دولار (ألف مليار) هو الرقم العالمي التراكمي لتصدير رؤوس الأموال عبر التدفقات الاستثمارية المباشرة FDI (وهي إحدى أدوات تصدير الأموال فقط): وهذا المبلغ كان 7,38 تريليون دولار في عام 2000، و19,75 تريليون في 2010، وفق آخر تقرير لمنظمة UNCTAD- 2019.
وكانت الوجهة الأساسية لهذه التدفقات الاستثمارية: الولايات المتحدة، حيث تراكم فيها في عام 2000: 2,69 تريليون، في 2010: 4,81 تريليون، وصولاً إلى6,47 تريليون في 2018.
بينما لم تتلقَ روسيا على سبيل المثال أكثر من 11 – 366- 344 مليار دولار في أعوام 2000- 2010-2018 على التوالي.
تصدير رؤوس الأموال اشتد عبر العالم في التسعينات، ولكن هذه العملية كانت تمرّ باستثناءات، كما في أزمة النمور الآسيوية عام 1998 عندما قيّد مهاتير محمد في ماليزيا حركة الأموال الدولية، وبعد الأزمة المالية في 2007-2008، عندما قيّدت أيسلندا حركة تداول العملات الأجنبية وحركة الأموال بعد أن أفلست بنوكها الثلاثة الكبرى إثر الأزمة. ولكن الاتجاه العام كان نحو إلزام الدول بإلغاء تقييداتها على دخول وخروج رؤوس الأموال.

تقييد حركة رأس المال الصيني أولاً

سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، كانت دليل الدخول في مرحلة جديدة في هذا السياق، حيث يريد ترامب تغيير قواعد اللعبة، ولن تتوقف المسألة عند القيود الحمائية على البضائع التجارية، بل تمتد وستمتد نحو توسيع تقييد حركة رؤوس الأموال، والتحكم بسعر صرف الدولار للمرة الأولى منذ تحوله لعملة عالمية.
إذا ما استثنينا الصين التي لطالما وضعت قيوداً وضوابط في حركة دخول وخروج رؤوس الأموال إليها، ونظمت سعر صرف عملتها. فإن الولايات المتحدة تتجه بهذا الاتجاه.
تبدو هذه المعركة ضد الاستثمار الصيني تحديداً، حيث توضع قيود على دخول رؤوس الأموال الصينية إلى الدول الغربية. في مطلع عام 2019 وبناء على دراسة لشركتي Baker & McKenzie، وRhodium Group  للاستشارات والدراسات، تبين أن الاستثمارات الصينية المباشرة في اقتصاديات أوروبا وأمريكا الشمالية قد شهدت تغيُّراً عاصفاً، فمن مستوى 94 مليار دولار في 2016، إلى 111 مليار دولار في 2017، لتنخفض بعدها إلى 30 مليار دولار في 2018، بتراجع بنسبة تفوق الـ 70% خلال عام واحد. أما في الولايات المتحدة فقد تراجعت الاستثمارات الصينية من مستوى 46 مليار دولار تقريباً في 2016، إلى 29 في 2017، وصولاً إلى 5 مليارات دولار فقط في 2018.
الولايات المتحدة تهيء لإجراءات حمائية لتقييد حركة رؤوس الأموال، فمثلاً وسّع الكونغرس منذ عام تقريباً صلاحيات لجنة الاستثمار الخارجي التابعة لوزارة الخزانة الأمريكية المصممة للتحكم برأس المال الأجنبي وتدفقه للاقتصاد الأمريكي التي تقيدها بناء على الأمن الوطني الأمريكي. واعتبرت الصين أن هذه الخطوات تستهدفها، وبالفعل ارتبطت هذه الإجراءات بتقييد النشاط الاستثماري لشركة هواوي في الولايات المتحدة.
ولا يقتصر هذا التوجه على الولايات المتحدة، فأيضاً وفق تقرير UNCTAD- 2019 يتبين أن التوجه نحو تقييد حركة رؤوس الأموال يتوسع عالمياً، ففي 2018: 34% من إجراءات الدول المتعلقة بحركة رؤوس الأموال كانت تقييدية وليست تحريرية، وثلثا إجراءات تقييد حركة الأموال كانت في الدول المتقدمة. بينما في مطلع الألفية 90% من الإجراءات المتخذة كانت نحو تحرير حركة الأموال.

تخفيض سعر الدولار


الولايات المتحدة لا تأخذ هذه الإجراءات بدافع أمنها الوطني فقط، بل إن تقييد حركة رؤوس الأموال يرتبط بسعر صرف الدولار، الذي يتحول إلى نقطة تركيز وصراع أساسية في السياسة الأمريكية. إذ إن تقييد تدفق الأموال يمنع ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي من المطلوب أن يتم تخفيضه لتزيد منافسة البضائع الأمريكية عالمياً.
منذ حوالي الشهر تقريباً قدّم سينا توران أمريكيان (جمهوري وديمقراطي) مقترحاً حول ضريبة لتنظيم الدولار، بمثابة تعرفة أو رسم للوصول إلى السوق المالية الأمريكية للأجانب، يفرض على عمليات شراء الأسهم والسندات وغيرها. معتبرين أن هذه الضريبة ستخفف الطلب على منتجات الدولار المالية التي ترفع قيمته، وتحفّز الاستثمار في أسواق الأعمال الاقتصادية الأمريكية، وتزيد تنافسية الصادرات عبر العالم.

*عن مقال فالنتين كاتاسانوف: (الحمائية الاستثمارية تعاود الظهور في الولايات المتحدة).

الولايات المتحدة قادت منذ السبعينات عملية فرض الانفتاح الاقتصادي، والتحرير على دول العالم بأشكال مختلفة، لتصبح التجارة حرة وحركة الأموال الداخلة والخارجة بلا حدود، بينما حركة الأشخاص انتقائية ومدروسة. وهذه الإجراءات التي ارتبطت بمرحلة الهيمنة الأحادية الأمريكية، ترتبط بالعمق بتنافسية الولايات المتحدة، وبطبيعة التقسيم الدولي للعمل حيث كانت أمريكا المركز الأعلى إنتاجية وتمتلك أعلى أدوات: الإنتاج- المال- السلاح. اليوم اختلفت هذه المعادلة، ويتغير التقسيم الدولي للعمل بالشكل الذي يجعل الولايات المتحدة غير قادرة على المنافسة في إطار عالمي مفتوح. لذلك ترتد عن (الحرية الاقتصادية)، فتمنع دخول بضائع وأموال المنافسين لتقيد نموهم وتوسعهم وتحمي مساحة نفوذها الاقتصادية... وفي هذا إجراء متكرر تاريخياً لمواجهة أزمات الركود العميقة، ولكن نتائجه لا تستطيع أن تكون مكررة في اقتصاد أصبح عالمياً بشكل لا يمكن الرجوع عنه، وتتوزع فيه القوى الاقتصادية والمعارف بشكل كبير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
931
آخر تعديل على الإثنين, 16 أيلول/سبتمبر 2019 12:38