الصين تستحضر أبطالها
محمد المعوش محمد المعوش

الصين تستحضر أبطالها

صادف الأسبوع الماضي ما يسمى في الصين بِعِيد أو يوم «مسح القبور». العيد عمره آلاف السنين، وكان تاريخياً مرتبطاً بزيارة القبور في فترة بداية الربيع من كل عام، وذلك لتقدير أرواح الموتى والاهتمام بالضريح. هذه العادة متشابهة بالعادات لدى الديانات السماوية أيضاً، من خلال الزيارة السنوية لقبر الراحل، إمّا في أول يوم من الأعياد كالفطر مثلاً لدى المسلمين، أو في النهار الذي يصادف تاريخ الرحيل.

ولكن هذا العيد لدى الصينيين تحول مع التاريخ لكي يصير أوسع من مجرد تقدير واستحضار ذكرى أفراد العائلة، بل توسع ليشمل أفراداً لهم مكانة ودور اجتماعي في حياة الشعب ككل. وكونه صادف هذا العام مرور 70 عاماً على تأسيس جمهورية الصين الشعبية، اكتسى عيد «مسح القبور» بمضمون مضاعف أيضاً، حيث تم استحضار العديد من الأبطال الوطنيين في الصين، إمّا خلال مرحلة الحرب الوطنية ضد الاحتلال الياباني، أو أولئك الذين ساهموا في نهضة الصين الصناعية الأولى، ومن ثم النهضة العلمية اللاحقة في مرحلة ما سمي بـ «الانفتاح».
وفي المناسبة أضاءت شبكة التلفزيون المركزي الصيني على الحدث، مقدمة تقريراً يتضمن شهادات مصورة لمواطنين من مختلف الأعمار وهم في زيارة لأضرحة الشهداء أو العمال الذين حصلوا على لقب بطل الصين، إضافة إلى أضرحة بعض العلماء المهمين في نهوض البلاد. وتضمنت الآراء تقديراً لأرواح الأبطال الذين دافعوا عن مستقبل الشعب الصيني، والذين لولا تضحيتهم بأنفسهم لما كان الحاضر «الآمن والمزدهر ودور الصين تجاه السلام العالمي». وقدم القسم المكتوب من التقرير عرضاً للعديد من الأفلام الصينية التي تدور أحداثها حول حياة وشخصيات الأبطال الذي يرقد أغلبهم في مقابر السلام.

«من أجل صين جديدة»

أحد هذه الأفلام «من أجل صين جديدة» المنتج في العالم 1955 يدور حول حياة الجندي الشيوعي في جيش التحرير الشعبي اسمه «دونغ سوينروي» (1929-1948)، واسم الفيلم مقتبس عن جملة تضمنتها رسالة الجندي الأخيرة قبل استشهاده. دونغ ضحى بحياته من أجل تدمير تحصين للعدو كان يرمي بنيرانه على القوى المهاجمة، ففجر نفسه بالتحصين. والفيلم كونه يقدر 100 من أهم الرموز الوطنيين قَدَّم له ملصق سوفييتي كذلك.

«معركة حول جبل شانغ غانلينغ»

يعود الفيلم للعام 1956 والذي تدور أحداثه حول الحرب الكورية وتضحيات المتطوعين الصينيين في تلك الحرب جاعلاً من أغنية «الأرض الأم» في خلفيته الموسيقية. ويظهر الفيلم نكران الذات، وروح التضحية التي أسميت بـ «روح شانغ غانلينغ (الجبل)». ومن الشخصيات المركزية التي يقدم لها الفيلم هو الشهيد «هوانغ جيغوانغ» (1931-1952) والذي رمى بنفسه في وجه نيران رشاش العدو لكي يحمي رفاقه، ومات عن عمر 21 عاماً، وأعطي لقب «بطل معركة، درجة مميز» من قبل الحكومة الصينية وأصبح رمزاً للتضحية ونكران الذات في الجيش الصيني لاحقاً.

«الأخت جيانغ»

الفيلم مبني على أحداث رواية «الصخرة الحمراء»، يتتبع حياة البطلة الصينية ذات الرمزية الواسعة «جيانغ جوينيوين» (1920-1949). البطلة كانت عضواً في الحزب الشيوعي الصيني، وصارت قائدة لمجموعات حرب العصابات بعد مقتل زوجها، واستشهدت (عن عمر 29 عاماً) تحت تأثير التعذيب بعد وقوعها في الأسر ورفضها الاعتراف على رفاقها في المجموعة. ورسالتها الأخيرة معروضة اليوم في متحف في شونغسينغ والتي تعبر فيها عن إصرارها على القتال وحبها لابنها.

«جانغ سايد»

يظهر الفيلم أيضاً قيم التضحية بالذات والشعور العميق بضرورة المقاومة من أجل المستقبل، وتدور أحداثه حول حياة القائد العسكري في الحزب الشيوعي الصيني «جانغ سايد» (1915-1944)، وهو فيلم حديث نسبياً أنتج في عام 2004 عن فترة الحرب الصينية- اليابانية. استشهد «جانغ» عن عمر 29 عاماً أثناء حفر كهف لاستخدامه كفرن للفحم، حيث حصل انهيار مفاجئ في الكهف ما جعل جانغ يبقى للنهاية من أجل تأمين خروج الجميع. وكتقدير لذكراه ألقى القائد الصيني المؤسس «ماو زيدونغ» خطاباً «في خدمة الشعب»، الذي اعتبر من خطاباته المؤثرة، مبرزاً فيها قيم النبالة ونكران الذات، وقال في الخطاب: إنّ موت «جانغ» «هو أثقل بالفعل من جبل تاي».

قيم نقيضة من أجل المستقبل

إن جوهر هذه الأفلام هو إبراز القيم والسلوك والأخلاقيات التي قدمها أناس عاديون في ظروف غير عادية، استجابة للضرورات التي أملتها المهمات عليهم، كونهم ربطوا موضوعياً حياتهم بحياة المجتمع المحيط بهم ومستقبله ومصيره المشترك. ولهذا هم اليوم يعودون لدائرة الضوء من جديد، وذلك لأنه «دون تقدير الدروس من الماضي لن نستطيع تقييم الحاضر وشروط الدفاع عنه» كما عبر أحد المواطنين الشباب في التقرير. هذه القيم التي تم تحطيمها في ظل منظومة القيم ونمط الحياة الذي أسرته ثقافة التسطيح والتسليع والاستهلاك وتدمير الروابط العميقة بين الإنسان والقيم الإنسانية الكبرى، التي هي ليست إلّا تعبيراً عن ضرورات التقدم الاجتماعي نفسها، وليست فقط تعبيراً عن اختيار إرادي يمكن رميه جانباً. هذه المنظومة الليبرالية التي في تعظيمها من النمط الفرداني في الحياة، حيث كل شيء «ممكن» الحصول عليه بالشكل الفردي من الممارسة (وهو انعكاس لنمط الحياة الاستهلاكي مثلاً في الصين اليوم والذي يشكل خطراً على الوعي الجمعي الصيني الوطني في مواجهة مهام الدفاع عن المجتمع وتقدمه)، قتلت كل روح إنسانية اجتماعية في الوعي، وهو ما جلب المآسي عكس ما تم الترويج له. مآسي سلب الإنسان إنسانيته، التي انقلبت عليه سلباً لقدرته على تقريره مصيره.

معلومات إضافية

العدد رقم:
909
آخر تعديل على الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2019 12:21