التيارات الفكرية  في عصور التراث العربي الإسلامي
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

التيارات الفكرية في عصور التراث العربي الإسلامي

يجري غالباً التعامل مع التراث العربي الإسلامي بوجهة نظر برجوازية؛ ففيما يتصل بالبعد الداخلي يتم فصل الإنجازات عن واقعها الاجتماعي والقوى البشرية المنتِجة ودور هذه القوى في (وضع الأساس المادي لمنجزات التراث).

أما فيما يتصل بالبعد الخارجي، فقد نظر المفكرون إلى تراثهم بمعزلٍ عن تأثره وتفاعله مع تراث وثقافات الشعوب الأخرى، ووضعوا أحياناً نظريات عنصرية فيما يتصل بتاريخ وزمن تراثهم ذلك. وبغض النظر عن أن البحث في التراث يكون حسب اعتبارات الحاضر غير أن لهذا البحث أسبابه أيضاً التي نجدها في زمن تشكّل التراث. وهذه الأسباب تتمثل في التيارات الفكرية المتصارعة في حينه وحَسْمِ الصراع ضد أحدها.
نعالج في مقالنا اليوم التيارات الفكرية في زمن نشوء وتشكُّل ما يعرف اليوم بالتراث العربي الإسلامي:
ـ1ـ
ينبغي لدى البحث في التيارات الفكرية في زمن تشكل التراث العربي الإسلامي الانطلاق من حقيقة: أنّ أشكال الوعي أو التيارات الفكرية هي الأشكال التي يتجلى فيها شكل الإنتاج المادي بشكل غير مباشر لتمتعها باستقلال نسبي في تطورها وقوانينها، وأن من الضرورة بمكان وضع هذه التيارات في إطارها الزماني المكاني المحدد تاريخياً بأسلوب الإنتاج الإقطاعي في ذروة العصر العربي الإسلامي- العصر العباسي- المتداخل مع بقايا العبودية ونشوء صناعات حرفية متوافقة مع أسلوب الإنتاج هذا وازدهار التجارة، وما تبع ذلك من تطور المعرفة في مجالاتها المختلفة المتعلقة بالعالم الموضوعي- الكون خصوصاً في القرن الرابع الهجري- العاشر الميلادي. وأنّ هذه التيارات جميعها نتاج إيديولوجي يتعلق بمواقف طبقية من الواقع الاجتماعي، وعليه فقد تنوعت المواقف من تلك التيارات في زمن تشكّلها تبعاً لمواقع الناس المشكِّلين- في حينه- لهذه التيارات في الهرم الاجتماعي السياسي، وظلَّت متنوعةً حتى يومنا هذا. ويميز الباحثون الموضوعيون اليوم ثلاثة تيارات اصطرعت في زمن التراث، تراوحت بين (عقلية مستقلة- غيبية عقلية- غيبية صرف)، نعرض لها أدناه.
ـ2ـ
أول مسألة خاض بها الفكر العربي الإسلامي منتهجاً العقل، كانت (القدَر) بمعناه المعارض للحكم، أي بالمعنى المعيّن كصراع سياسي له قاعدة فكرية تمثلُها جماعة من الناس من المجتمع. تحوّل التراث من شكله الغيبي الصرف إلى الشكل الغيبي العقلاني مع المعتزلة وعلم الكلام. أرسَت المعتزلة قواعد اتجاهات الفكر من الغيبية الصرف إلى الغيبية العقلانية بنقضها الجبرية عن الإنسان، واعتبارها حريته هي الأساس لتطبيق العدالة السماوية، وإخراجها المعرفة من إطارها الغيبي وإدخالها الإنسان ذاته بها. وعلى هذا الأساس حوربت المعتزلة لأنها بتطورها ستؤدي إلى خروج الفكر من إطاره الغيبي الصرف والغيبي العقلي، ودخوله إلى إطاره العقلاني المستقل، وما يستتبع ذلك من خروجٍ عن إيديولوجية المنظومة الحاكمة، وهو ما تم فعلاً مع الفارابي. تمت مواجهة المعتزلة في عصر نهوضها بتيارات فكرية أخرى: السلفية الغيبية الصرف، والأشعرية الغيبية العقلية اللتان تقاطعتا في محاربة الاتجاه المتقدم والمتحرر نسبياً للمعتزلة.
مثَّلت المعتزلة الاتجاه العقلي إذاً، وهو الشكل الأعلى من الصراع الإيديولوجي بين التيارات الفكرية على قاعدة طبقية مادية، وحُسِم الصراع ضدها.
ـ3ـ
غير أنَّ حسم الصراع ضد المعتزلة لصالح خصومها، دفعه إلى منحى آخر، إذ إن استشعار السلطة الرسمية ومؤدلجيها للخطر القادم من التيارات العقلية المستقلة على العقيدة الإيمانية التي تعتمدها السلطة في إيديولوجيتها بالأساس، أدى بها إلى غض الطرف عن الاتجاه الغيبي العقلي، وهكذا اتخذ الصراع وجهَين عبَّر أحدهما عن الاتجاه الغيبي المعقلَن الذي حاول أن يدفع عنه الآثار الغيبية متخذاً لنفسه ما نُطلق عليه اليوم (الفلسفة العربية الإسلامية). إذ مع تطور النظام الاقتصادي الاجتماعي في حينه في مجالات الفيزياء والكيمياء والرياضيات والعلوم الطبيعية وغيرها، كان الاضطرار الموضوعي يتجه إلى عقلَنة الفكر الغيبي الذي أصبحت علاقته جدليةً بالعلوم الأخرى. وهو ما صبغ على التراث العربي الإسلامي صبغته الحالية منذ ذلك الحين، وهو ما حدد كذلك وجهة النظر الوحيدة المستمرة حتى اليوم بالنظرة وحيدة الجانب لهذا التراث التي أوقعت الباحثين القدماء والحديثين على السواء بخطأ النظر إلى تراثهم من كونه يتعلق:
1. بعوامل ذاتية تعود إلى الحاكم أو إلى عالِمٍ وعلاقته الفردية بعاِلم سابقٍ أو من حضارةٍ أخرى، في تجاهل لحركة التاريخ والضرورات الحضارية الفكرية.
2. أو بعوامل تتعلق بالنظرة الدونية إلى العرب، وما تعنيه من تجزيء التراث وتفتيت وحدته القائمة (عربي- إسلامي).
3. أو بعوامل النقل والنسخ عن الحضارات السابقة التي عاشت أزمان العبودية في تجاهل أن العصور العربية الإسلامية كانت تعيش زمن الإقطاعية! بالإضافة إلى ما يتصل بعملية النسخ والنقل ذاتها بجهد إبداعي مستقل نسبياً عن العمل المنقول والمنسوخ، وتحريضه الفكر على الإنتاج الجديد بعد الاحتواء للقديم.
مثَّل الأشعَريون (أبو الحسن الأشعري) الاتجاه الغيبي العقلي. وفي الزمن الذي مٌنِعَ فيه الورَّاقون من نَسْخِ كتب المعتزلة والفلسفة، برز من الأشعرية مفكرون أشهرهم: الغزالي والشهرستاني ومثَّلوا الطرف الأساس في المواجهة للاتجاهات الفلسفية مستقلة الطابع. كما برز منهم في الأزمان اللاحقة مفكرون آخرون كابن خلدون اعتمدوا الجدل العقلي.
ـ 4ـ
أما التيار الفكري الثالث، فقد مثَّله السلفيون الذين حرَّموا الفلسفة والمنطق، ولم تشهد عصور تشكّل التراث معارَضَة السلطة لنشاطهم الفكري. وكان أبرزهم ابن الصلاح وبعده ابن تيمية الذي قال (كل ما ثبتَ نقله من نصوص الإسلام يجب أن يوافقه العقل لا محالة، فلا تعارض بين أحكام العقل وأحكام الشرع) وفق مبدأ (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول).
فتح السلفيون جبهات خصومتهم مع كلا الاتجاهين الفكريين السابقين، الأول: باتجاهه العقلي المستقل. والآخر: الغيبي العقلي. ومجمل معارضتهم لمنطق الاتجاهين- وتحديداً العقلي المستقل- دارَتْ حول محورَيْ: الحد والقياس. خصوصاً لجهة كون الجانب العقلي المستقل اتجه إلى أن القوة الخالقة مدركَة بالوعي لكون صفاتها داخلةً في قوامها، وهو ما ينتهي إلى إدراكها عينياً ووجودياً، وبالتالي ارتباطها بالمادة الواقعية وأزلية العالم المادي الموضوعي، وهو ما يتعارض بحدَّة مع فكرة السلفيين أن القوة الخالقة لا يمكن إدراكها بالوعي الجزئي الذي لدى الإنسان.
وفي القياس، اعتمد السلفيون في البرهان على أن تواتر الخبر يؤدي إلى صحته. وأنكروا على المفكرين في كلا الاتجاهين اعتمادهم أن العلم هو (نتاج البرهان العقلي المنطقي) وأن نتائجه كليَّة الصحة انطلاقاً منهم أن الكلِّي لا وجود له إلّا لدى القوة الخالقة.
ـ 5ـ
لا شك أن التيارات الفكرية الثلاثة المتصارعة في زمن تكوّن التراث، وحسم الصراع للتيارين الأخيرين ضد الأول، أرخى بثقله على مؤرِّخي ذلك العصر الذين رأوا الأحداث والوقائع التاريخية من وجهة نظر مثالية أحادية الجانب بسببٍ من تطبِّع الوعي بالتيارات الفكرية السائدة، وبغضّ النظر عن مآلات التأريخ التي انتهت في العصور الإسلامية المتطورة إلى إحلال الزمن عاملاً حاسماً لتأريخ الوقائع، غير أن المؤرخين عجزوا عن رؤية العلاقات الداخلية بين الأحداث والظواهر الفكرية والاجتماعية، فلم يرَوا الجذور الاجتماعية الطبقية لكثير من الهبَّات والانتفاضات والثورات الاجتماعية، وجعلوها في باب (الفتِن)، وهو ما يجد امتداداته في سبل تفسير الظواهر والأحداث الاجتماعية اليوم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
910