تشاؤم العقل والإرادة
محمد المعوش محمد المعوش

تشاؤم العقل والإرادة

عدة أسباب تدفعنا للكتابة مجدداً عن «مناظرة العصر» (قاسيون 912). أهمّها: إبراز أكثر للجوهر السياسي، وعن تصوره: «في أي عالم نعيش اليوم؟ «لمن اعتبر أنه الطرف «الماركسي» فيها، وأهمية ذلك في الصراع السياسي. وثانياً: بسبب إدانة البعض للهجوم على «جيجك» واعتباره «ماركسياً أصيلاً».

المناظرة الهزلية
لماذا استهجن البعض عندنا نقد «جيجك»؟ الانطباع حول المناظرة في الصحافة العالمية يكاد يكون متقارباً. في الشكل، اعتبرت المناظرة هزليّة، واستعراضاً مسرحياً ضعيفاً، ولم تعبّر عن عنوانها الذي كان حول «السعادة: بين الرأسمالية والماركسية». واعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة كامبريدج «بنجامين ستودبيكر» في مقاله: «كيف كان يجب أن يرد جيجك على بيترسون؟» في «الكورينت أفير» أنه: من «سوء الحظ المرور بتجربة معاناه مشاهدة المناظرة» وذلك لسطحية الطرف المحافظ فيها، أي:«بيترسون»، وضعف الطرف «الماركسي» الذي كان يجب أن يواجهه، أي:«جيجك». واعتبر «ستودبيكر» أن «جيجك» لم يعرِّ افتراءات خصمه ولم يستغل ضعف إلمام بيترسون وجهله بالماركسية. والأهم: أن «جيجك» لم يطرح على «بيترسون» الأسئلة حول ما العمل لحل القضايا الراهنة من جهة الرأسمالية. ولم يقدِّم حتى تصوره، وذلك ربما لأن «جيجك»: «يبدو حزيناً ومهزوماً لكي يحاول». إذاً ما «الفائدة من اشتراكي يظن أن الإيديولوجيا الرأسمالية تحاصرنا ولا نقدر على الإفلات؟». ويكمل: «جيجك ظهر مشغولاً بمسائل الهوية وموقعه هو في الأكاديمية... إنه مثال عن المنسحب الذي يكبر في العمر، الذي تتمنى كلنا ألًا نكونه» بينما «ستيفان مارش» في «الغادريان» قال: إن المناظرة أظهرت العديد من القواسم المشتركة بين الطرفين، وبأنها عبرت عن ظاهرة في المجال الثقافي، هي: البروز من خلال معاداة الغير أو التمايز، فليس لدى الطرفين ما يقدمانه، وليس لديهما إجابات عن الأسئلة التاريخية المطروحة. و«جيجك» لم يعالج مسألة السعادة والماركسية، بل تخبّط منتقلاً من موضوع إلى آخر. ويقول «مارش»: إن المناظرة احتاجت «عدواً فكرياً» للمتناظرين، لأنهما «في وحدتهما كان لديهما القليل ليقدمانه»، ولا يملك كلاهما إجابات عن الأسئلة المطروحة على البشرية، وتحديداً عنوان المناظرة «السعادة»، بل عبّرا عن روحٍ تشاؤمية عالية بانتظار الانهيار. بينما «جون سيملي» في «تورونتو الآن» أكد على التشاؤمية وغياب أية إجابات خصوصاً لدى «جيجك» ممثلاً الطرف «الجذري»، وأضاف: إن «جيجك» أظهر طرحاً نحو «الزّهد المضاد للسعادة» في اعتباره أن السعادة الإنسانية هي غاية غير نبيلة في ذاتها، وما الحياة إلا أزمة وجودية مستمرة، وكل إرضاء للسعادة ليس إلا بؤساً آخر. أما «سام ميلر» و«هاريسون فلوس» في مقالهما «المغفّل والمجنون» (في إشارة لجيجك وبيترسون) في «جايكوبيان»، اعتبرا أن «جيجك» يعبّر عن الحضيض الذي وصلت إليه التشاؤمية الليبرالية، وعن الحاجة إلى ماركسية تحاجج بصراحة من أجل الحرية والعدالة. وقالا: إن الطرفين المتناظرين توحّدا ضد السعادة وكانا كالـ «الأصدقاء الأعداء»، ولم يتطرق «جيجك» تقريباً إلى ماركس، بل عبّر دائماً عن تشاؤميته وعن لاعقلانية الإنسان، وبأن وجوده هو مأساة بحد ذاتها، وأن جيجك تبّرأ من صفة «الشيوعي»، وعبّر عن أنّ الطبقة العاملة والحشود لا تملك غالباً وعياً بما تريده، وبأنه عبَّر فلسفياً عن عدم القدرة على حل التناقض التاريخي.
«وما ظلمناهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون».
في أغلب محاضراته الكثيرة، وبالرغم من توصيفه للرأسمالية كمدمرة ومهددة للبشرية ومولدة للمآسي، يعبّر «جيجك» عن منطق واحد، ويقول حرفياً: «أنا لا أملك إجابات، بل ما أقوم به هو إثارة الفضول لكي تفكروا خارج الصندوق». والطبقة العاملة كما عبر عنها ماركس: «لم يعد الفقراء الذين يعانون ويشكلون الأغلبية، وبالتالي إن ظروف ثورتهم لم تعد موجودة»، وعند اقتباسه من ماو أو لينين أو ستالين يحذّر الجمهور: أنه لا يقصد الترويج لتلك الأنظمة الدكتاتورية الحمراء التي قتلت وقمعت. وفي تناقض مع نفسه يرى أن الحل اليوم هو في دول قوية قد لا تعود إلى استشارة شعبها، إذا وجدت طريقة ما للحل. وبأن الحرب العالمية الثالثة قادمة والثورة وحدها ستمنعها، وأمثلة عن صعوبات الاتحاد الأوروبي: إن روسيا والولايات المتحدة تتلاقيان في إضعاف الاتحاد، وبأن الصين مثال على نجاح الرأسمالية في دولة غير ديمقراطية، وأنّه لتقديم الأسلحة من قبل الناتو لـ «ثوار ليبيا» كان ليكون جيداً، لأنهم قد يستخدمون هذه الأسلحة ضد التدخل الغربي نفسه! وبأن نظرة ماركس للاشتراكية هي: «رأسمالية دون أزمات». وتشاؤمه يقترن باقتباسات من الظاهرة الجديدة «الفيسلوف الإسرائيلي: هراري» صاحب النظرة التشاؤمية الأكبر والمروّج لعجز الإنسان ضد الحل (قاسيون-893). ويرى أن حل المسألة الزراعية- البيئية هي عبر «اغتراب أكبر» للناس، أي: «تركيز أكثر للناس في مدن كبرى، حتى لو كانت ملوثة. والانسحاب من المناطق الباقية لكي تتعافى الطبيعة». وبأن تروتسكي: هو من نصح لينين بالسيطرة على سكة الحديد والهاتف والبريد، فلينين «ثوري تقليدي» نظر للثورة كعملية احتجاج جماعي في الشوارع. وبأن اليسار التقليدي المأزوم ككل، لم يفكر بمرحلة ما بعد السيطرة على الدولة ولهذا هو لا ينتمي إليه.
الاكتفاء بتوصيف العالم
لا يمكن لمقال تغطية إنتاج «جيجك» الغزير والمهم. هو نفسه يعلن ماركسيته حيناً، وينفيها حيناً آخر. لا يستند لتحليل اقتصادي- سياسي شامل للعالم اليوم، ولا «يعلم» عن التوازن العالمي وإمكاناته، وبأن الحرب «العالمية الثالثة» تحصل مكبوحة، والشعوب التي تحترق تسقط أمامها السيطرة الإيديولوجية، وألاعيب الفكر التي تُغري «جيجك». وقبول تصوراته عن تعميم التردد واللايقين يتعارض مع الفعل السياسي المتاح والواضح، فـ «لا يكفي توصيف العالم» من موقع المتفرج اليائس.

معلومات إضافية

العدد رقم:
913