التصدي لِتَركةِ الليبرالية...مهمة ضرورية
محمد المعوش محمد المعوش

التصدي لِتَركةِ الليبرالية...مهمة ضرورية

كل الوقائع تقول: إن العالم اليوم يعيش ظرفاً ثورياً عالمياً، فالعلاقات الرأسمالية لم تعد قادرة على الاستمرار، وعُمق النهب واتساعه وصل لمستويات أصبحت مدمرة مادياً ومعنوياً. ويولّد هذا الواقع تطوراً للسياسة العالمية باتجاه مواجهة هذه العلاقات حسب اختلاف ظروف كل دولة وكل مجتمع. ولأن الظرف الثوري وحده لا يكفي لتطور الحركة إلى عملية تغيير واعية تلاقي ضرورة المرحلة وقوانينها كعملية انتقال إلى الاشتراكية، فإن تشكّل الحركة المنظمة الواعية هي الشرط الذاتي للتغيير. ووعي شروط هذا التمايز في تطور حركة التغيير يساعد على تحديد آفاق تطورها، وأين يمكن أن تتركز الطاقة إذا كان هناك شح في العنصر الثوري البشري تحديداً. ولكن الأهم: إن هذا التمييز يساعد على حماية الحركة الأنضج من توقعات قد تكون مبالغ فيها.

دروس سابقة

قدمت التجربة السوفييتية الناضجة واللينينية كانعكاس فكري لها دروساً عامة بما خص الصراع السياسي في البنية الرأسمالية. من الدروس هي أن السياسة البروليتارية الجذرية تستند موضوعياً إلى قوى طبقية، هي من حيث التركيبة النفسية والاجتماعية أكثر ثورية وحزماً وجذرية. بينما تشكل القوى البورجوازية الصغيرة إطاراً لبروز عقلية التذبذب والإصلاحية، وبالتالي تكون أقل الجذرية بالمعنى السياسي، نتيجة ركونها وقبولها بجوانب تُحول موقفها إلى رافض في مكانٍ وراضٍ في مكان آخر، مما يُنتج لديها ضيق أفق طبقي بحكم ظروف حياتها المباشرة. وبالرغم من أن الواقع الاجتماعي منهار اليوم على كل القوى الاجتماعية مما يضع الجميع أمام سؤال التغيير الجذري، لا يزال التعميم اللينيني المذكور حول التمايز في الوعي بين القوى الاجتماعية يحمل أهمية حاسمة.

تأخر الوعي عن الواقع

بالرغم من أن الانهيار اليوم يحصل شاملاً على كل المستويات المادية والمعنوية، إلّا أن قانوناً ماركسياً آخر يفعل فعله هنا، وهو يمنعنا من أن نستنتج ميكانيكياً: أن الواقع المأزوم سينتج بشكل مباشر وآني حركة سياسية ناضجة. القانون، هو: أن الوعي العام يتأخر عن اللحاق بحركة الواقع العملية، ولهذا لن يكون لانهيار الوجود الاجتماعي تحولٌ مباشرٌ في الوعي إلا من حيث ردة فعله، وليس تحولاً في بنيته تلقائياً، وهو ما يحتاج مساحة من التجربة العملية التي تنقله من أرضية تعوّد عليها الوعي طوال العقود الماضية، إلى أرضية وعي متخلصة من الأوهام الليبرالية أولاً. وثانياً: تحمل قاعدة فكرية أنضج نتيجة الانقطاع النظري والممارسي السابق. وهنا يأتي دور تراكم شروط الحياة المباشرة الليبرالية خلال العقود الماضية، وتاريخ التجارب السياسية في كل بلد متميزاً عن الآخر.

تبعات سنوات الليبرالية

من الأكيد، أن لينين أولى اهتماماً بالغاً لدور الوعي والبنية النفسية كشرط من شروط تطور الحركة السياسية أو انكباحها. وإذا عدنا إلى مقولاته حول ان العقلية البورجوازية الصغيرة تكبح تطور حركة جذرية، وهي بطبيعتها أكثر مراهقة سياسية، ومنتجة لأشكال متطرفة من الوعي والممارسة، وهو ما سماه مرض اليسارية الطفولي. وبمراجعة العقود الماضية فإن سيادة العقلية الليبرالية محمولة على نمط حياة استهلاكي فردي، ما شكل قاعدة قوية للعقلية البورجوازية الصغيرة، خصوصاً عند تفتيت الطبقة العاملة في مؤسسات مشتتة من جهة، وبعض الحريات البورجوزية في العالم. كل ذلك أضعف مستوى التنظيم الموضوعي للقوى العمالية من جهة، ونقلها نفسياً إلى حالة قبول نسبي بجوانب من الواقع. هذا القبول النسبي على مستوى الوعي يؤسس لحالة انتماء إلى الواقع الرأسمالي، بالرغم من المعاناة التي قد يجابهها الفرد فيه. فالسنوات التي تقدم فيها مشروع الليبرالية عند تقديمها للحلم الفردي الأمريكي تحديداً، إضافة إلى الهوامش العملية المؤقتة التي انفتحت كالتحسن النسبي في شروط الحياة، كل ذلك أسس لاحتمالية واهمة في الوعي بامكانية التحقق الفردي الذاتي، وبالتالي، قبول الواقع الرأسمالي نفسه. ترافق ذلك مع تراجع التجربة الثورية الجذرية، خصوصاً في البلدان التي تغلغلت فيها الليبرالية بشكل مبكّر، فما بالنا إذا كانت هذه الدول أساساً شهدت تجارب تغييرية ضعيفة؟.
هذه العوامل مجتمعة تشكل تَرِكَة متميزة تاريخياً عن القرن الماضي وقت الأزمة الأكبر للرأسمالية وقتها. فحينها حصلت الأزمة ولم يكن للعقلية البورجوازية الصغيرة تأثير كما اليوم، نسبة للفروقات الكبيرة في شروط حياة الطبقة العاملة والمجتمع ككل وقتها. بالرغم من أن الفروقات بين الدول وقتها اكدت أنّ تأخر دولة ما على مستوى اقتصادها وضعف تطورها أدى إلى ضعف تجربتها السياسية (مقارنة ألمانيا بروسيا وقتها). والعامل الآخر غير العقلية والنفسية البورجوازية، هو: أن الأحزاب وقتها كانت في حالة تأسيس جديد. أما اليوم فالحركة السياسية ترث أحزاباً متشكلة، قد تشكل هي نفسها العائق أمام بروز وعي ثوري أنضج، إذا ما ربطنا أن القوى التي سادت في هذه الأحزاب طوال المرحلة الماضية كانت من الفئات المتوسطة والمتوسطة العليا وما يعنيه ذلك من بنية وعي مكبوح.

جدلية ومراكز التأثير

ما سبق لا يعني قدراً مغلقاً، فهو خاضع لجدلية تأثير الحركات الأنضج (دول لم تتغلغل فيها الليبرالية بالشكل العميق مع وراثة تجربة سياسية ناضجة) على حساب الأقل نضجاً خصوصاً في واقع شديد الترابط والتأثير المتبادل بين الدول، ومتسارع في ذات الوقت، فالعقلية البورجوازية الصغيرة واسعة السيادة تتحطم يومياً أمام عمق الأزمة، وأي انفتاح وبروز لحركة جذرية في محيطها (على مستوى الدولة نفسها أو مقارنة ما بين الدول) ستتأثر بها وستكون في نصيرها. والأهم، هو في أن تكون الحركة الأنضج ذات طرح قادر على حلّ كل القضايا (المعنوية النفسية تحديداً) التي برزت في العقود الماضية وترتكز عليها الأوهام الليبرالية، محوّلة الكوابح إلى حالة دفع للتغيير

معلومات إضافية

العدد رقم:
918
آخر تعديل على الإثنين, 17 حزيران/يونيو 2019 12:48