المساهمة السورية في تطور الديالكتيك
لؤي محمد لؤي محمد

المساهمة السورية في تطور الديالكتيك

أشار إنجلس في أعماله إلى أن الديالكتيك قد اتخذ في تطوره التاريخي أشكالاً أساسية هي: الديالكتيك العفوي في الفلسفتين اليونانية والعربية الإسلامية، والديالكتيك المثالي في الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والديالكتيك المادي في الفلسفة الماركسية.

ومن بين أشكال الديالكتيك الانتقالية كان ديالكتيك الديمقراطيين الثوريين الروس في القرن التاسع عشر، ووضعوا أرفع شكل من ديالكتيك ما قبل الماركسية. كما تبلورت مصطلحات الديالكتيك خلال أكثر من 2000 عام من تطور الفلسفة.

تفسخ العبودية الرومانية

أدى الاستثمار الوحشي لعمل العبيد إلى احتدام التناقض الرئيس في دولة روما– التناقض التناحري بين مالكي العبيد والمنتجين «العبيد» - وازدادت انتفاضات العبيد، مثل انتفاضة سبارتاكوس 74-71 ق.م.
جاء في كتاب «عرض اقتصادي تاريخي، جامعة الصداقة في موسكو1960»: تدهور الاقتصاد الزراعي الكبير، ونشأ الاقتصاد القائم على التأجير، وأصاب الخراب الفلاحين الصغار والحرفيين الأحرار وتعاظمت أزمة النظام العبودي، وقامت الحركة الزراعية بتوزيع الأراضي التي استولى عليها مالكو العبيد نهاية القرن الثاني للميلاد. وأصبح العبيد والفلاحون والحرفيون يناضلون سوية ضد مالكي العبيد، وقاد عبيد الباوغاد «المناضلون» انتفاضة كبيرة في إسبانيا وفرنسا في القرن الثالث، واشتعلت الحروب الأهلية في كل مكان، وانتهت بالتفسخ النهائي لأسلوب الإنتاج العبودي في روما القديمة، وبدأت العلاقات الإقطاعية بالظهور منذ القرن الرابع للميلاد.
رافق تفسح العلاقات الاقتصادية الاجتماعية العبودية، تفسخ وتراجع الفلسفة التي ازدهرت في اليونان وروما القديمة، ولكنها لم تختفِ في هذا الصراع، وتجلّت بأشكال مختلفة في الأدب الجديد الذي بدأ يظهر منذ القرن الثاني للميلاد، حاملاً بين صفحاته المسألة الأساسية للفلسفة، والصراع المتواصل بين تياري الفلسفة في نصوص الأدب نفسه.

المفكر لوقيانوس السميساطي

يعتبر المفكر السوري الساخر لوقيانوس السميساطي واحداً من الفلاسفة الذين كانوا على صلة مع الأوساط المعارضة للإمبراطورية الرومانية من طبقة أسياد العبيد، ولد في سميساط الواقعة على نهر الفرات شمال سورية، عمل في طفولته مع عمه النحّات، إلّا أنه كسر- لسوء حظه- يوماً ما لوحاً رخامياً، مما جعل عمه يضربه ويعود إلى البيت، وهناك راوده حلم بامرأتين تمثّلان النحت والأدب، وكانت كل واحدة تعرض مزايا حالتها الفنية.
سار في بداية طريقه على مثال ديموشينيز في عرض الفضائل، وكان على معرفة جيدة بمدارس الفلسفة المتنافسة في عصره، إلا أنه نفض يديه من المدارس الرسمية واتخذ الأدب النثري الساخر طريقاً.
يحتل لوقيانوس في الأدب النثري- كساخر ظريف- المكانة الفريدة التي يحتلها أرستوفان في الشعر الإغريقي، إذ سلَّط نصوصه الساخرة على الميثولوجيا، والفرق الفلسفية المنتشرة في عصره، وكان يوجه تهجمات قاسية ونعوت ازدراء بحق دجالي الفلسفة بالأخص، كما جاء في كتاب «أعمال لوقيانوس السميساطي، المفكر السوري الساخر، في القرن الثاني الميلادي» ترجمة سعد صائب ومفيد عرنوق 1987.

حوارات جدلية

إن لوقيانوس ككاتب، بليغ، سهل وغير متكلّف، ومتابع دقيق لأفضل النماذج الإغريقية وأسلوبه أبسط، وخاصة في مؤلفاته: «حوارات الآلهة»، «الآلهة البحرية»، «حوارات الموتى» التي تعتبر نماذج للإنشاء الإغريقي البارع الدقيق المتهكم على الميثولوجيا الشعبية.
كان يستخدم أسلوب الحوارات في نثره، ومحادثات مبنية على الدراما وسرعة البداهة المازحة، وهو الأسلوب الذي لم يعرفه الفلاسفة اليونانيون لأنهم اعتبروه أدنى منزلة من «الحقيقة الفلسفية المطلقة».
وهكذا تمثل «مبيعات الحيوات» مزاداً يعقده زيوس كبير الآلهة عند الإغريق، ليرى أي ثمن ستجلبه حيوات عدد من ممثلي الفرق الفلسفية المتنافسة، ويجتاز فيثاغورثي يتكلم لهجة أيونية الاختبار، فيتم تقييمه بمبلغ 75,6 درهم، يتبعه ديوجينيوس بطل الحقيقة المطلقة لأنه مواطن عالمي وعدو المتعة، ويحصل سقراط على سعر طالنين وهي عملة إغريقية قديمة، فيشتريه ديون طاغية سيراكوس بـ 100 باوند، بينما يحصل بيرهو الشكوكي الذي يقر بأنه «لا يدري شيئاً» على أربعة باوندات لأنه ممل وغبي، وليس لديه من الإحساس أكثر مما لدى الدودة.
والحقيقة، أن الحوار والجدل قد تحسن على يد لوقيانوس، في ذلك العصر، وكان لعلم البلاغة تأثيرٌ كبيرٌ، ذاك العلم الذي كان مولعاً بالكلام فقط، وقد جاهد لوقيانوس لأن يكون الجدل «Dialectic» موجوداً في حواراته كلها للدحض باستخدام الأجوبة والأسئلة بأوجز شكل.
انطلق لوقيانوس في صراعه ضد التيارات الفلسفية التي سادت في عصر تفسح دولة روما القديمة، وتفسخ الفلسفة السائدة حينها، في حواراته ذات النزعة الديالكتيكية، ويظهر تمكّناً رائعاً باللغة ومفرداتها ومن يقرأ صفحات لوقيانوس اليوم يجدها سهلة وممتعة، مثل رواية معاصرة، مستخدماً تعابير ومصطلحات لاتينية سادت في ظل الحكم الروماني. وقد ساعده عمله في مكتب قانوني تجاري في مصر أن يطلع على القانون الروماني، والثقافة المصرية الفرعونية، بالإضافة إلى أنه تشرب الفلسفة الإغريقية والتراث الشعبي السوري والمصري، وأن يكتب نصوصاً لاذعة ادعى أنها ليست فلسفية، ولكنها تحمل الفلسفة في طياتها كلّها.
يعود كره لوقيانوس للفلاسفة إلى كرهه «للفلسفة المطلقة والحقيقة المطلقة»، متسائلاً ما هي الحقيقة؟ ومن هم معلموها الحقيقيون؟
كان فلاسفة ذلك العصر يدَّعون امتلاك الحقيقة المطلقة، لذلك قال لوقيانوس: إن الفلسفة غير جديرة بالمتابعة والاهتمام، وهذا رأي خاطئ، لكنه وهو صاحب هذا القول وضع الأفكار الفلسفية التي تقول بعدم وجود الحقيقة المطلقة، وظهرت فكرة «الحقيقة» في أعمال لوقيانوس ليس كشيء جامد مطلق، وإنما متحرك متعدد الأشكال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
930
آخر تعديل على الأربعاء, 11 أيلول/سبتمبر 2019 15:18