التخلي و الجمود العقائدي والجديد التاريخي..
محمد المعوش محمد المعوش

التخلي و الجمود العقائدي والجديد التاريخي..

الاتهام بـ«الجمود العقائدي»، أو أحياناً يقال «المدرسة الأرثوذوكسية في الفكر الماركسي»، هو اتهام دارج جداً. ولكن مهلاً، من هو الجامد عقائدياً؟ يبدو أنه العكس تماماً. فملامح أساسية من فكر من يُطلق هذا الاتهام يمتاز بالجمود العقائدي الفعلي.

«حركة عقائدية» أم «تخلٍّ»؟

يُطلَق الاتهام تحديداً في وجه من ينطلق من فكر ومفاهيم ودروس تاريخية أُرسيت في تاريخ الحركة الثورية العالمية، وتحديداً أرقاها، أي التجربة اللينينية- السوفييتية. وإذا كان «المتهم» أقل ذنباً، أي ذاكراً فقط لها، فإنه يُتّهم لهذا الذكر وحفظه له. وعلى الرغم من وجود الاتجاه «المدرسي» التكراري من تمجيدٍ لمقولات وأحداث دون الولوج إلى عمقها التاريخي في حركتها، ما يُعبر عن جمود عقائدي ما، إلا أنه ليس كل من يستند إلى ثوابت عامة تاريخية وفكرية وسياسية هو بالنهاية يظهر هذه «التكرارية». ولهذا فإن أصابع الاتهام هنا تشمل كل من يظهر التزاماً في ظواهر تاريخية ما. ولكن هل هذا يعني الجمود؟
في الواقع، هناك اتجاهان من مُكيلي هذا الاتهام، الأول هم أصحاب التيار الليبرالي الصريح من ذوي الملامح اليسارية الداعي إلى القطيعة مع التاريخ، وبأن كل من لا يزال متمسكاً به وبرموزه فهو لا شك جامد عقائدياً. هذه الدعوة الليبرالية الصريحة في جوهرها معادية للعلم والفكر العلمي. فكما في الطبيعة وكذلك في المجتمع، فإن إنتاج قوانين حركة المادة لا يلغيها الزمن إذا ما كانت ناتجة عن دراسة وتطبيق أثبت قدرة الدراسة. ففكر الجاذبية النيوتونية لم يتم التخلي عنها في إطارها. عمل آلية الجسد والاستقلاب. تعاقب الفصول ودوران الأرض. ليس كل الأفكار العلمية بقيت مع الزمن وهذا صحيح، ولكن قسم أساس منها بقي صالحاً. هل من يقول اليوم بفكرة الجاذبية أو الدورة الدموية هو جامد عقائدياً؟ مع أنها أفكار أقدم من ظواهر تاريخية حديثة نسبياً في عمر البشرية. يبدو أن الضمني في هذا الاتجاه هو التخلي الفعلي عن العلم في مجال علم الاجتماع السياسي، وهو اتجاه مميّز للفكر الاجتماعي السائد في العقود الماضية خاصة. فما المبرر من التخلي عن قوانين علميّة لم يتخطاها المجتمع البشري، بل العكس هو يثبت صحتها يومياً؟ أي فكرة عمل الرأسمالية وقوانينها واتجاهها إلى الأزمة بثبات والتوسع التدميري للحياة.
هذا الاتجاه الليبرالي العلني الداعي إلى التخلي، وليس إلى «الحركة العقائدية»، فإن الحياة وأزمة المجتمع الإنساني الراهنة كفيلة بتكذيب أصحابه، المعادي في جوهره للعلم، فإن الاتجاه الآخر مُطْلق هذا الاتهام هو من ضمن التيار الثوري نفسه، أي غير معادٍ للفكر الماركسي في طرحه، ولكن هو نفسه يعاني من «الجمود العقائدي».

عدم الانتباه إلى الجديد هو مميز الجمود العقائدي اليوم

إن أصحاب الاتجاه الثاني هم أيضاً قد يتفرعون إلى اتجاهين أو أكثر. منهم مثلاً من يعارض «الجمود العقائدي» على المستوى «التاريخي»، ومنهم من يعارضه على المستوى «الفكري». وكلاهما لا ينفصلان عن محور النقاش الفكري السياسي في المرحلة التاريخية الراهنة، وحول خط التمايز هذا يتموقعون. أي الموقف من طبيعة المرحلة العالمية الراهنة. المقصود بـ«الجامدين» على المستوى التاريخي، حسب هذا الاتجاه، هم من ينطلقون اليوم من دور روسيا والصين التقدمي في العالم. والتهمة أن روسيا والصين ليستا لا الاتحاد السوفييتي، ولا صين «ماو» الاشتراكية. أما الاتجاه الآخر، أي المعارضون للجمود على المستوى الفكري، فيكمن موقفهم في رفضهم أن الرأسمالية تعيش أزمتها العميقة والأخيرة، لا بل إنهم يعلنون بنوع من العدمية أنّ المرحلة الراهنة هي «ما بعد الرأسمالية»، أو مثلاً كما يقول بعضهم «ما بعد، ما بعد الحداثة!!».
إن الاتجاهين المذكورين لا يظهران انتباهاً للجديد الاقتصادي- السياسي ومعناه التاريخي. فمن يعتبر روسيا والصين رأسماليتين، وهكذا يحسم موقفه على هذا الأساس هو جامد عقائدياً لسببين أساسيين، فانطلاقه في موقفه من الطبيعة الداخلية للنظام الاقتصادي فقط (أي كاقتصاد رأسمالي بالرغم من كونه يمتاز بخصائص مكبوحة)، وعدم أخذه لموقع هذه الدول في المنظومة الإمبريالية، فهو ينظر إلى هذه الدول كعناصر قائمة بذاتها، وليس ضمن البنية الكلية للنظام العالمي. وهنا تخلٍّ عن فكرة الإمبريالية القائمة فعلاً، والتي على أي صراع ضمنها أن يتحدد بها وبضرورة حركتها كبنية واحدة. وهنا السبب الأول للجمود. لا بل هو عودة إلى ما قبل لينين نفسه. أما السبب الثاني فهو تثبيت التاريخ وعدم رؤيته في حركته. فكلامهم عن روسيا والصين لا يتم في تطورهما التاريخي السابق والقادم، بل يقوم بتجميد التاريخ واقتطاع المرحلة من سياقها الذي يحددها.
أما من يعلن أن الرأسمالية تحتمل تجديد نفسها، وبأنها لا تعيش أزمتها النهائية، فهو ينكر أن البشرية والطبيعة لم تعودا تحتملان بقاء الرأسمالية وجودياً. هذا الاتجاه جامد عقائدياً لأنه ينطلق من إحداثيات مرحلة الرأسمالية في طور توسعها سابقاً، حيث فيه تمكنت من تجديد نفسها (على الأرض وبشرياً، حيث فتحت مجال المعنوي الإنساني للتحقق). هل بوصولها إلى حدود هذا التوسع لا زالت تحتمل إمكانية تجديد نفسها؟ فالتوسع لم يتم ولا يتم خارج الصراع. والذي هو اليوم على حساب التدمير الشامل.

وجهان لمضمون واحد

الاتجاهان المذكوران يعبران عن الجمود الذي يتهمان به «الخصم»، عبر اتكائهما على فكرة مشتركة، هي عدم التقاط الجديد وحركته واقتطاع وتجميد التاريخ وتكراريته، دون النظر بجدلية إلى أزمة البنية الإمبريالية وصراعها، فهي منبع الحركة، والباقي هو الجمود.

معلومات إضافية

العدد رقم:
933
آخر تعديل على الإثنين, 30 أيلول/سبتمبر 2019 14:50