الفصام الجماعي: وباء الهاوية العقلية للرأسمالية
محمد معوش محمد معوش

الفصام الجماعي: وباء الهاوية العقلية للرأسمالية

0المشهد اليوم مليء بمظاهر الفوضى والجنون، وخلف السطح يكمن قانون الحركة المحدد لهذه «الفوضى». وإذا كان الخراب العالمي والحرب المتنقلة و«الفوضى» في الطبيعة، تعبيراً صارخاً عن قانونية وأزمة الرأسمالية (الفوضى الخلاقة)، فإن نوعاً آخر من الفوضى يظهر في هيئة البشر أنفسهم، في ملامحهم وأجسادهم وعواطفهم، وفي انفجارهم وهدوئهم، وفي فوضى السلوك. هذا النوع من الفوضى الذي يصدم البعض ويستغربُه، ويعلن بأخلاقوية وإنسانوية: «الإنسانية ماتت والعقل مات أيضاً»، تكمن خلفه أيضاً قانونية الرأسمالية وأزمتها. فكما يقول «بولونيوس» في مسرحية هاملت لشكسبير: «هناك طريقةٌ لجنونه»، ويقول عالمٌ في الإنسان: «حتى الجنون ليس بكامله بلا معنى»، و«خلف لوحة الفوضى الفاقدة للمعنى هناك معنى كامن وضمني».

العوارض المبكرة لمّا صارت وباءً

عند نشوء الظواهر الاجتماعية الجديدة تاريخياً فإنها بداية تكون محدودة التوسع، غير عامة في حضورها، تكون وقتها دليلاً على الجديد. وهذا سببه أن البنية التي نشأت على أساسها هذه الظواهر تكون أيضاً في طور نضجها وتثبّتها، ومن ثم تتوسع. ومتى ما صارت هذه البنية عامّة ومهيمنة فلا بد وأن الظواهر المرتبطة بها ستصير عامة أيضاً. هكذا حصل مع الرأسمالية في مرحلة تثبّتها كبنية تاريخية، ومفرزاتها على المستوى الفردي. فإذا أخذنا الجانب النفسي، فإن ما سمي بأمراض المجتمع البورجوازي ظهرت مبكراً في إطار المجتمع البورجوازي والبورجوازي الصغير تحديداً، والفئة المتوسطة. هذه الأمراض التي شكلت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ومن ثم بداية القرن العشرين، موضوعاً لتيار التحليل النفسي، ونقصد بها الهستيريا والاكتئاب والإحباط والفصام. ومن ثم على إثر التنازل التاريخي التدريجي للرأسمالية (تحديداً بسبب تشكل الاتحاد السوفييتي والثورات ومحاولة الثورات المختلفة) أمام الطبقة العاملة حصل توسع للهامش النفسي تاريخياً ليشمل هذه القوى الاجتماعية. وعلى إثر ذلك كان لا بد للأمراض «الروحية» للمجتمع البورجوازي أن تشمل هذه الفئات الدنيا والمقهورة، نتيجة دخول الذات المقهورة مباشرة على خط الصراع الطبقي، بعد أن كانت الذات تظهر تاريخياً من خلال وسيط فقط، أي قمع الجسد (جوعاً، مرضاً، قمعاً). وخلال القرن العشرين كله كان توسع البنية الرأسمالية مصاحباً لتوسع هذه الأمراض (محمولة على الليبرالية وفكرها وعلاقاتها). وهذا ما عبرت عنه مختلف المدارس «الماركسية الإنسانية» في الغرب كمدرسة فرانكفورت والتيار الوجودي... وهكذا صارت العوارض النفسية للمجتمع البورجوازي وباءً عاماً. والكلام عن هذه العوارض ليس جديداً. بل نجده في مختلف الكتب والتحليلات عن الأزمة النفسية التي تعيشها البشرية متمثلة بهذه العوارض.

الوباء في مرحلة الأزمة

لم يعد غريباً الكلام عن هذا المستوى من المعاناة النفسية، بل صار حاضراً في الفضاء الفكري عالمياً، بغض النظر عن عمق تناول الظاهرة، أو تحديد آليتها، ومن ثم وضع حلّ لها، الذي يبقى عاماً أو إصلاحياً وأخلاقياً حتى. الحل الذي هو إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية بشكل يزيل الاغتراب والاستغلال نحو مجتمع الإدارة الجماعية، حيث جميع الأفراد يساهمون في إدارة المجتمع فيلقون اعترافاً ضرورياً بهم كأفراد، في قيمتهم. عبر الترجمة المباشرة للينينية التي يمكن أن تكون: لا يكفي التوزيع العادل للثروة، بل التوزيع العادل للإدارة أيضاً. ولكن اليوم أمام الأزمة العميقة والشاملة للرأسمالية هل ما زلنا أمام العوارض التي يجري الكلام عنها في هذه التحليلات والتقارير؟ هل نحن اليوم أمام انغلاق أفق المجتمع الرأسمالي وعلاقاته أمام عوارض هذا المجتمع في مرحلة تثبته وتوسعه؟ بالطبع لا. نحن اليوم أمام مستوى حاد من الأزمة النفسية والعقلية، حيث أخلَّت العوارض «العادية» (اكتئاب، برود، قلق...) مكانها لعوارض أكثر عمقاً وحدة. وهنا يفعل القانون التاريخي فعله أيضاً، فالذي كان جديداً (المستوى النفسي) وقتها صار عاماً، بينما اليوم يجري تعميم جديد للعوارض التي كانت محدودة، لكي تصبح هي المهيمنة ضمن العوارض الأخرى، ونقصد بها: الفصام.

الفصام كتعبير حقيقيّ عن التفكك والاغتراب

الفصام، هو نوع حاد من الاضطراب، حيث يتضرر فيه الأداء العقلي والعلاقة مع الواقع ككل. هو تفكك في البنية النفسية والعقلية، وانهيار العلاقة مع الواقع من حيث القدرة على أداء الوظائف الحياتية اليومية حتى. حيث «تفقد فيه الشخصية أساسها المتين»، وتمتاز ردود أفعالها بتمحورها حول قطبين متقابلين: البرود والانفجار. وكما أكدت الاتجاهات المادية التاريخية في دراسة الفصام، فإن الجانب الاجتماعي هو المحدد الأبرز لتطور الفصام كأزمة في تطور الشخصية والتفكير، عكس التيار «البيولوجي» البحت، الذي ينظر للمسألة كاضطراب في وظائف الدماغ وحدها. إن الفصام كما غيره من الاضطرابات العقلية والنفسية هو: أزمة في التأقلم مع الواقع. هو «رد فعل على المنغصات الاجتماعية تجاه ما يطال «الذات» وتقديرها لذاتها».
ونظراً لانهيار الواقع الاجتماعي اليوم (في بلاد «السلم» كما في بلاد «الحرب»)، وتحطم دور الفرد فيه (حتى لو كان هذا الدور سابقاً وهمياً- ليبرالياً) واتساع الهوة بين الرغبة والهدف من جهة والواقع من جهة أخرى، وانهيار سردية الفرد ومعانيه (الليبرالية عامة) عن العالم وعن نفسه، وانفصاله عن الممارسة الحقيقية التي هي المحدد الأساس لتماسك الوعي، وفي ظل غياب سردية نقيضة قادرة على سد الفراغ الناشئ (فدور السردية أساس في تنظيم البنية العقلية ككل)... لهذا كله فإن الفصام هو المستوى المتعاظم القادم من الوباء النفسي- العقلي للبشرية، بعد الهستيريا التي هي الوباء المهيمن اليوم (انظروا فيسبوك، وشوارع العالم، وأماكنه).
والمواجهة تبدأ بالسردية المقابلة (عن مجتمع الإدارة الشعبية المباشرة، مجتمع الإنسان الجديد)، ونقلها إلى حيز التنفيذ، وإلّا فالجنون الشامل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
935
آخر تعديل على الأربعاء, 23 تشرين1/أكتوير 2019 12:59