عائدات وتكاليف الإستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط (2)

عائدات وتكاليف الإستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط (2)

روسيا تعود إلى المسرح العالمي بزخم شديد، ومن ضمن هذا المسرح منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لا تقتصر تحركات الروس على التدخل في سورية وحسب، بل تمتد إلى الحفاظ على ما حققته في المنطقة والبناء عليه للمزيد من التأثير، والمزيد من تحقيق المصالح الروسية عبر زيادة التعاون والتنسيق مع دول المنطقة، وخصوصاً لاعبيها الرئيسين.

مجلس الشؤون الخارجية الروسي
تعريب: عروة درويش

تحدثنا في القسم الأول: عن كون أدوات السياسة الروسية للتأثير في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأدوات العسكرية والتعاون التكنولوجي- العسكري.
الأدوات الاقتصادية: النفط والقمح والمفاعلات النووية.
الأدوات السياسية وتسوية النزاعات.
وسنتابع اليوم في القسم الثاني من الأدوات الاقتصادية: القمح والمفاعلات النووية.

الأدوات الاقتصادية «ب»، القمح والمفاعلات النووية

إنّ الأمن الغذائي لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعتمد بشكل متزايد على روسيا، وذلك بشكل خاص فيما يتعلق بصادرات القمح. إنّ مصر هي أكثر الأمثلة وضوحاً في هذا الخصوص. في نهاية عام 2017، كانت مصر هي أكبر مشتري قمح روسي باستيرادها 7,8 مليون طن. يشكّل هذا الرقم ثلثي كامل واردات مصر من القمح. تبلغ قيمة هذه الواردات أكثر من 1,4 مليار دولار. لقد كان النمو في عام 2017 عند نسبة 44%. إنّ الطلب المصري على القمح الروسي مرتفع منذ 15 عاماً إلى الآن. يتوقع أن يحصل هبوط في الطلب على صادرات الحبوب الروسية بسبب التزايد السريع على أسعار الحبوب، وهو الأمر الذي ساهم بدوره في التوترات الاجتماعية التي أدّت إلى «الربيع العربي». تلعب روسيا دوراً كبيراً دون شك في سوق القمح المصري، وانسحابها منه قد يكون له عواقب وخيمة. ولهذا فليس من قبيل المصادفة أن تتم مناقشة استقرار عمليات التسليم في كلّ اجتماع بين القادة الروس والمصريين.
وهناك سبعة بلدان أخرى من المنطقة على الأقل هي من أكبر مستوردي الحبوب الروسية: الإمارات العربية المتحدة وإيران ولبنان وتركيا واليمن وعُمان والعربية السعودية. ومن المهم أن نلاحظ بأنّ المملكة السعودية هي المستورد الأكبر للشعير الروسي: ففي نهاية موسم سوق عام 2017/2018، تخطت صادرات الشعير الروسي إلى المملكة السعودية 2,7 مليون طن.
بالإضافة إلى مبيعات الحبوب، يمكن لروسيا أن تصبح أحد موردي التكنولوجيا الإستراتيجية الهامّة. كمثال، يمكن للطاقة النووية أن تصبح عنصراً هاماً في أمن الطاقة في الدول غير الغنية بالنفط. وتبعاً لهذه المعطيات تقوم شركة «روسأتوم RosAtom» الروسية العامّة بتعزيز منتجاتها بنشاط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك على مستوى تعاون ينمو بشكل مطّرد. وتكمن أفضلية روسيا في قدرتها على تمويل مشاريع إنشاء محطات توليد الطاقة النووية.
في تشرين الثاني 2015، وقّعت روسيا ومصر اتفاقية لإنشاء وتشغيل أوّل محطّة توليد طاقة نووية مصرية. ستقوم روسأتوم بتوريد الوقود النووي وستدرب الطواقم وتقدّم المساعدة في تشغيل محطّة الضبعة لتوليد الطاقة النووية. يتوقع أن يتم الانتهاء من البناء في 2028-2029. تقدّر كلفة المشروع بحوالي 21 مليار دولار، ويتوقع أن تقدّم روسيا لمصر قرضاً ممولاً بشكل حكومي. نشر الإعلام المصري تقارير عن قرض بقيمة 25 مليار دولار. كما ستقوم روسأتوم بمساعدة شركائها المصريين على تطوير بنية تحتية نووية وستساعد على زيادة مستوى التوطين المحلي.
في أيلول 2014، توصلت الجزائر وروسيا إلى اتفاق تعاون في الاستخدام السلمي للطاقة النووية. قد يصبح بناء مفاعل نووي مصمم روسياً في الجزائر هو مشروع التعاون الرئيس. في تشرين الأول 2014، أعلن رئيس روسأتوم في حينه للصحافة: أنّ روسيا بدأت المفاوضات مع الجزائر لبناء محطّة توليد طاقة نووية. في 2017، وقّعت روسأتوم مع هيئة الطاقة النووية الجزائرية مذكرة تفاهم للتعاون في تدريب الطواقم النووية.
الأردن مهتم بدوره في التعاون مع روسيا في مجال الطاقة النووية. ناقش كلا البلدين في البدء بناء محطة توليد طاقة نووية بقيمة تقريبية 10 مليارات دولار. لكنّ الأردن قرر بعد ذلك أن يهجر المشروع تبعاً لصعوبات مالية. في كانون الأول 2017، وقعت روسأتوم مع الأردن مذكرة تفاهم على مفاعلات نووية صغيرة. وافق الطرفان على إمكانية إجراء دراسة جدوى تكنولوجية واقتصادية من بناء نموذج مفاعل صغير مصمم روسياً في الأردن.
في تشرين الأول 2017، وقعت روسأتوم مع «مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة» السعودية اتفاقاً على برنامج للتعاون في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. في شباط 2018، قدمت روسأتوم طلب اشتراك في مناقصة بناء وحدتين نوويتين في المملكة السعودية. سيتم الإعلان عن نتائج المناقصة في 2020.

  • الأدوات السياسية وتسوية النزاعات:

لقد أصبح اشتراك روسيا في حلّ النزاعات في الشرق الأوسط وسيلة لتعزيز تأثيرها في المنطقة. لا تتمتع المبادرات الروسية دوماً بالموافقة والدعم من جميع القوى الإقليمية والعالمية، وهو أمر يمكن توقعه بالتأكيد. تقدّم روسيا مقترحاتها بشأن النزاعات التي تقسّم المجتمعات والدول، والوسيط في مثل هذه الحالات يتلقى عادة الانتقادات والاتهامات بالانحياز.

فبما يتعلق بسورية، يجب علينا أن نذكر كلاً من صيغة أستانا التي أدّت إلى إمكانية إيجاد مناطق خفض التصعيد، ومؤتمر الحوار الوطني السوري الذي عقد في سوشي في 2018. لقد كانت هذه هي المحاولة الأولى لإطلاق عملية حوار وطني عام، ورغم رفض عدد من المجموعات أن تتواجد في المؤتمر، فقد كان له تأثير إلى حدّ ما. على الأقل، كانت هذه المنصة هي الوحيدة التي استطاعت من خلالها عدّة قوى سياسية ومجموعات إثنية أن تلتقي بعضها ببعض.
وفي الصراع الفلسطيني- الصهيوني، حاولت روسيا، وهي واحد من «رباعي الشرق الأوسط» لسنوات عديدة أن تصالح ما بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحماس من أجل ضمان موقف تفاوض أقوى للفلسطينيين. ويجب أن نلاحظ بأنّ قوى إقليمية «مصر والسعودية» قد حاولتا ذلك وفشلتا في الوصول إلى اتفاق ما بين اللاعبين الفلسطينيين الرئيسين. لم تتخلّ روسيا عن جهودها بالرغم من أنّ الاهتمام العربي بالمشكلة الفلسطينية يتضاءل، ويتم دفعه إلى الهامش من قبل نزاعات أخرى في المنطقة.
كما أنّ روسيا لاعب هامّ في الصراع الليبي، وتسعى أطراف الصراع بشكل اعتيادي إليها. وفقاً لرئيس مجموعة الاتصال الروسي للمصالحة الليبية الداخلية ليف دينغوف: «وضعت القيادة الروسية هدفاً هو التواصل مع جميع أطراف النزاع الليبي. علاوة على ذلك، تتواصل روسيا مع اللاعبين الدوليين الرئيسين المهتمين في تسوية هذا النزاع، وهم تحديداً إيطاليا وفرنسا، وكذلك مع الدول الإقليمية». كانت البعثة الروسية حاضرة في المؤتمر الدولي للتسوية الليبية الذي عقد في باليرمو في تشرين الثاني 2018. تدعم روسيا قرار الأمم المتحدة بتسوية الوضع في ليبيا عبر الحوار الوطني الذي قد يقرّب مواقف الأطراف المتنازعة من بعضها البعض.

الصعوبات في التأقلم مع الواقع في الشرق الأوسط

حالما عادت روسيا إلى الشرق الأوسط، أدركت على الفور بأنّ رغبة النخب في المنطقة باستعادة توازن مقبول بين القوى الخارجية لا تعني بالضرورة بأنّهم مستعدون ليأخذوا في حسبانهم مواقع ومصالح شركائهم الدوليين، بغض النظر عن الروابط السياسية والاقتصادية وحتّى الاتكال عسكرياً عليهم.
لقد غرست التأثيرات الخارجية سلوك المستهلك في اللاعبين المحليين تجاه شركائهم الأجانب، وهم الذين كانوا يتهمون بشكل تقليدي بأنّهم غير فاعلين وغير جاهزين للدخول في حرب من أجل أصدقائهم في سبيل حماية مصالحهم. يمكن رؤية هذا الامتعاض في رغبة هذه القوى بحفظ ماء وجهها بسبب اعتمادها غير المشروط على شريك أقوى وبمحاولاتها توريط هذا الشريك في النزاعات الإقليمية. لطالما وجدت هذه النزعة، وكان على الاتحاد السوفييتي أن يتعامل بشكل متكرر مع محاولات حلفائهِ استخدام النفوذ والموارد السوفييتية عند التشديد على الأهمية الخاصة لوجود ردّ مناسب من قبل موسكو. وكانت النتيجة لذلك وبشكل متكرر، أن ترى القيادة السوفييتية الأوضاع من خلال أعين مصر أو سورية.
اليوم، ليس لدى روسيا أيّ حلفاء في الشرق الأوسط، ولم تعد سياساتها تعكس وجود قواعد إيديولوجية. تقوم روسيا اليوم بشكل سريع بتوسيع دائرة شركائها، سواء اللاعبون من الدول ومن غير الدول. وبما أنّ التكتيك أهم من الإستراتيجية بالنسبة للاعبين الإقليميين، فقد باتت التحالفات مرحلية، وبات سلوك اللاعبين يتحدد بإحساسهم العالي بأدوارهم. لقد أصبحت المغالاة بالأهمية الذاتية والرغبة باستخدام الموقف لصالح طرف ما واضحة أكثر فأكثر في المشهد في الشرق الأوسط. يظهر مثال سورية كيف أنّ أهداف كلّ من تركيا وإيران بضمان استمرار تأثيرهم على سورية في حقبة ما بعد الحرب قد هدد بدفعهم إلى نزاع مع بعضهم البعض أو مع دول عربية أخرى، وهذا يصعّب على روسيا توجيه سلوكها في سورية. إنّ العمل المشترك ضمن صيغة أستانا ومحاربة داعش وجبهة النصرة وأفعال خفض التصعيد واللجنة الدستورية المستندة إلى اتفاق سوتشي، جميعها ذات أهمية في إبقاء «الروابط» بين الحلف الثلاثي قائمة. لكن ومع انخفاض مستويات التصعيد وتدعيم موقف الحكومة السورية، فمن الحتمي أن تزداد الخلافات بين ثلاثي أستانا بسبب التفاوت في المصالح.
على سبيل المثال، لدى روسيا وتركيا مقاربات مختلفة بالنسبة للوضع في شمال-شرقي سورية، فتركيا تطالب بإنشاء منطقة عازلة تستطيع من خلالها «كما تعتقد» أن تحمي نفسها من الخطر الكردي. وقد أعلنت القيادة التركية بأنّها مستعدة لإطلاق عملية شرقي الفرات، وفي منبج، ضدّ وحدات حماية الشعب ما لم تسحب الولايات المتحدة هذه الوحدات. لكن في وقت لاحق أعلنت تركيا بأنّها قررت تأجيل العملية.
أعلنت سورية بأنّها تؤيد نقل هذه المناطق إلى سيطرة قوات الجيش السوري. كما دعت لعقد اتفاق بين ممثلي الحكومة وممثلي الإدارة الذاتية. في ظلّ هذه الظروف، تخرج فكرة العودة لاتفاق أضنة عام 1998 إلى العلن. نصّ ذلك الاتفاق على أن تحافظ تركيا على سيطرتها على شريط صغير على طول الحدود «حوالي 5 كلم»، بينما تتوقف الحكومة السورية عن تقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني. بالرغم من ذلك، تصرّ تركيا على أن تتسع المنطقة العازلة لمسافة 32 كلم. وحتّى لو تمّ تخطي هذا الخلاف، فهناك اختلافات أخرى واضحة تعقّد قدرات المناورة الدبلوماسية الروسية.
كما أنّ العلاقات الروسية مع بعض الأطراف المتشددة في الحكومة السورية ليست جيدة. فبعد مساعدة روسيا للجيش السوري باستعادة السيطرة على أجزاء كبيرة فقدها من البلاد، يجعل الشعور بالانتصار هؤلاء بلا حافز للموافقة على المساومات السياسية التي قد تؤدي لحل النزاع

معلومات إضافية

العدد رقم:
918
آخر تعديل على الإثنين, 17 حزيران/يونيو 2019 12:39