يوتوبيا «الوباء العادل»  والتهويل المُسَوَّق كـ«عِلم»

يوتوبيا «الوباء العادل» والتهويل المُسَوَّق كـ«عِلم»

يميل كثير من الناس، وربما بمشاعر صادقة لمشاركة الإنسان أخاه الإنسان في البلوى، إلى فكرة رائجة بأن الأوبئة، وربما الأمراض بشكل عام، لا تميّز بين «أبيض وأسود». فما صحة هذه الفكرة علمياً؟ ورغم عدم جواز التهوين من الخطر الصحي لوباء كورونا الجديد، لكن هل هي مصادفة أن تسود فكرة «الوباء العادل» توازياً مع التهويل المبالغ به (حول آفاق الانتشار والشدة)، على الطريقة الأمريكية- الغربية، ولا سيما في السياق الخاص الذي جعل الضرر الاقتصادي على الصين أضعافاً مضاعفة من الضرر الطبّي المباشر، وبشكل غير متناسب؟

الـ«أنتي- مؤامرة» كشكل من العلم الزائف

قبل نهاية الشهر الأول من هذا العام، عُرِفَ أنّ مستقبل فيروس كورونا المستجد– الذي صار اسمه الرسمي الآن COVID-19– ليس سوى مستقبِل SARS نفسه، أي ACE2 (مستقبل الأنزيم القالب للأنجيوتنسين2). ومستقبل الفيروس هو المركب الكيمائي العضوي الموجود على سطح الخلية البشرية المستهدفة التي يتطفل عليها الفيروس عبر نشب أشواكه البروتينية فيه، والذي تبين أنه ليس سوى مستقبل السارس نفسه. خلال الأسابيع الماضية نُشِرَت دراستان حول ما إذا كانت كثافة توزع هذا المستقبل ACE2 على سطح خلايا الرئة تجعل أعراقاً معينة أكثر عرضة للإصابة بالفيروس مقارنة بغيرها، أم لا.
الدراسة الأولى، لفريق من ستة باحثين من 3 جامعات ومشافٍ صينية (Yu Zhao et al. 26/01/2020)، خلصت إلى أنّ كثافة المستقبلات ACE2 في خلايا رئة المتبرع الآسيوي الوحيد المشارك في العينة المدروسة كانت أكبر بشكل ملحوظ مقارنة بالمشاركين السبعة الآخرين من أعراق أخرى (بيض وأفارقة- أمريكيين)، وبالمقابل نوهت الدراسة بشكل صريح بأن عيبها الرئيس طبعاً هو الصغر الشديد لحجم العينة، وبالتالي أنْ يكون الآسيويون مؤهَّبين للإصابة بالفيروس بسبب كثافة مستقبله لديهم، تبقى فرضية ممكنة وتتوافق مع نتيجة هذه الدراسة، لكن ليست دليلاً كافياً. بالمقابل سرعان ما ظهرت بعد ذلك دراسة أمريكية (باحث واحد من جامعة ساوث كارولينا Guoshuai Cai 14/02/2020) بنتيجة مخالفة جزئياً؛ إذ إنه استنتج «عدم وجود فروقات مهمة بين العرقين الآسيوي والقوقازي من حيث كثافة التعبير عن مستقبل الفيروس»، أمّا عند اجتماع عامل التدخين الحالي مع العِرق، فإنّ «المدخنين الآسيوين الحاليين قد يكون لديهم تعبير أكبر عن مورثة ACE2 من المدخنين القوقازيين الحاليين»، لكنه اعتبر «الفرق غير مهم إحصائياً». ورغم حجم العينة الأكبر، لكن الباحث يقرّ بالعيب الرئيس التالي في دراسته وهو أن «البيانات المحلَّلة أُخِذت من جزء طبيعي من النسيج الرئوي لمرضى لديهم سرطانة غدية رئوية، والذي قد يكون مختلفاً عمّا لدى الناس الأصحاء». هذا فضلاً عن أن الباحث، بخلاف الدراسة الصينية، لم يفحص بنفسه العينات النسيجية بل جمع المعطيات المخزنة مسبقاً، في قواعد بيانات جينية إلكترونية وأدخلها للمعالجة الحاسوبية وفق خوارزميات خاصة.
بطبيعة الحال، عدا عن تاريخ التجارب العسكرية الأمريكية، على الأقل منذ تخزين «الجمرة الخبيثة» و«الذيفان الوشيقيّ» (البوتوكس) في حزيران 1944، فإنّ شفافية النوايا في بعض الأدبيات السياسية والعسكرية الأمريكية تفتح مجالات واسعة لفرضية «السلاح البيولوجي الانتقائي عرقياً». كالمقاطع التالية مثلاً (من تقرير «إعادة بناء دفاعات أمريكا، لمشروع القرن الأمريكي الجديد»، أيلول 2000):
«هناك تساؤل عن الدور الممكن أن تلعبه الأسلحة النووية في ردع استخدام أنواعٍ أخرى من أسلحة الدمار الشامل، كالكيمائية والبيولوجية، والتي حنثت الولايات المتحدة بوعودها بشأن تطويرها واستعمالها»... «فنّ الحرب جواً وبراً وبحراً سيختلف كثيراً عن حاله اليوم، ويرجَّح أن يجري الصراع في أبعاد جديدة: في الفضاء، والفضاء السيبراني، وربما في عالَم الميكروبات»... «إنّ أشكالاً جديدة من الحرب البيولوجية القادرة على استهداف أنماط جينية محدَّدة قد تحوِّل الحرب البيولوجية من مجال الإرهاب إلى أداةٍ مفيدة سياسياً».
لكن ما يهمنا لفت الانتباه إليه أكثر هنا، حتى لِمَن يغض النظر عن هذه الفرضية، هو أنّ التطرّف في اتخاذ موقف «مؤامرة» معكوس، أي اتهام جميع أنصار نظرية المؤامرة بأنهم «مهووسون» بالمؤامرة، من جانب مَن على المقلب الآخر، والذين يمكن تسميتهم أصحاب نظرية الـ«ضدّ-المؤامرة» Anti- Conspiracy Theorists إذا جاز التعبير، فإنّ هؤلاء الأخيرين، في الحقيقة، إنما يرتكبون، بقصد أو بغير قصد، تعميةً وتضليلاً مؤذياً من الناحية العلمية الموضوعية. لماذا؟ لأنّهم ببساطة، وحتى بعيداً عن العلوم الاجتماعية، يتجاهلون معطيات مهمة حتى من العلوم الطبيعية، أو على الأقل يتخذون موقفاً انتقائياً تجاهها، وبذلك يكون «عِلمهم زائفاً». مثلاً، ماذا يقول علم الوبائيات جواباً عن السؤال التالي: هل توجد فيروسات مُمرِضة لمجموعات عرقية أو ديمغرافية دون أخرى، أو أنها– إذا أصابتها– تتفاوت خطورتها حسب المجموعة المصابة؟

فيروسات «متعصِّبة»

ضمن مراجعة علمية بعنوان «الاختلافات الاثنية في قابلية الإصابة بفيروس إنفلونزا A(H1N1) [الخنازير]: باراميتر وبائي يشير إلى فوعة فيروسية ضعيفة»، والمنشورة في المجلة الإفريقية للتقانة الحيوية (29 كانون الأول 2009)، كتب مؤلِّفو الدراسة (ستة صينيين C. L. Chen et al.) ما يلي:
«إنّ نظام التقارير التقليدي الذي يقدم بيانات عن عدد الإصابات والوفيات لا يعطي معلومات كافية لتقييم شدة الفوعة المستقبلية، وهو محدود القيمة في توجيه الوقاية... لذلك يجب قدر الإمكان تضمين الاثنية والعمر والجنس وكل المعلّمات الأخرى في نظام التصنيف ونشره من أجل دراسة وبائية رصينة. أما في الفاشية العالمية الحالية من إنفلونزا H1N1 فإنّ تمييز الاستعداد الأعلى للإصابة بالأعمار الفتية والحوامل يذكرنا بضرورة تركيز المراقبة الطبية على هذه القطاعات من السكان. ولو نُشرت المعلومات الاثنية رسمياً خلال المراحل الباكرة من وباء إنفلونزا الخنازير العالمي الحالي، لربما كنا تجنّبنا المبالغة في رد الفعل، واستخدمنا الموارد الثمينة بفعالية أكبر من أجل المجموعات الخاصة المعرضة؛ الفتية والنساء الحوامل من مجموعات اثنية محددة... إنّ الاختلافات الاثنية ليست مفهوماً مجرداً. بل يمكن تمييزها كمّياً في عدد من باراميترات علم الوبائيات. ولا شك بأنّه عندما يظهر تفاوت في قابلية الإصابة بفيروس معين بين المجموعات الاثنية المختلفة، فإنّ هذا معناه أنّ شدة فوعة الفيروس منخفضة نسبياً. وبالتالي، لا يشكل خطورة عالية على الكائنات البشرية. إنّ تمييز هذه الظاهرة ضرورة ملحّة للحصول على تصنيف للفوعة، يضاف إلى نظام تقارير الأمراض في منظمة الصحة العالمية. إنّ التضمين المقترَح لقابلية الإصابة الفيروسية المعتمدة على العِرق التي ناقشتها ورقتنا أقل من أن تلبي هذه القضية المهمّة، لكن حَسْبُها أن تفتح الطريق للاقتراب من الهدف». ومن المعروف أن إنفلونزا الخنازير كانت تفضل ضحاياها من بين السود ثم البيض ثم اللاتينيين.
ماذا عن الإيدز؟ في مقال بعنوان «أنماط التنوع الاثنيّ للمورثات المؤثرة على الإيدز»، والمنشور في 1 نيسان 2004 بمجلة «علم الوراثة الجزيئية البشرية» Human Molecular Genetics الصادرة عن جامعة أوكسفورد البريطانية، ورد ما يلي: «لقد تمّ إثبات الدور الحاسم لتميم المستقبِل CCR5 في عدوى فيروس الإيدز HIV-1 عبر سلسلة من الأبحاث عامَي 1995–1996... والتي بيّنَت دور عوامل الدخول إلى الخلية المتعلقة بعدوى وإمراضية هذا الفيروس، إذْ اكتُشِفَ أنّ CCR5-delta32 (طفرة حذف 32 زوجاً من الأسس الآزوتية من مورثة مستقبل الكيموكين) قد أمّنت وقاية شبه كاملة من الإصابة بفيروس الإيدز في الأفراد متماثلي اللواقح، وتأخيراً في تَرقّي المرض في متخالفِي اللواقح... إنّ تواتر تواجد الألّيل CCR5-delta32 [الطفرة الوراثية الحامية أو المخفِّفة من الإيدز] له توزُّع متناقص من الشمال إلى الجنوب عبر أوروبا [وبالتالي احتمال متزايد لإصابة والخطورة بالترتيب نفسه] حيث يكون عالياً لدى الإسكندنافيين 15% [أيْ أنّهم محميّون أكثر من غيرهم] وبنسبة 10% في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، و5% في إيطاليا واليونان وتركيا، و0% في شبه الجزيرة العربية [أيْ إن الأخيرِين هم الأكثر عرضة للخطر جِينيّاً]».
أما بالنسبة لاثنيّات المصابين بفيروس كوفيد-19 (كورونا المستجد 2019-nCoV) كان الإحصاء الأوضح الذي عثرنا عليه، هو (للأسف) صفحة ويكيبيديا بعنوان Wuhan coronavirus outbreak by country and territory وحتى هنا لا يدرجون لك أية بيانات مباشرة عن أعراق المصابين، فعليك أن تحصيها بمشقّة من بين السطور، والتي تصبح مهمة أعقد مع ازدياد عدد الإصابات، لذلك نكتفي بنموذج من لحظة زمنية سابقة (منذ حوالي أسبوعين)، إذْ أحصينا: من خلال 229 إصابة مؤكدة خارج الصين يتبين أنّ 114 منهم (حوالي النصف) صينيّون بشكل مؤكّد، علماً بأنّ هناك غموضاً بشأن الاثنيّات الدقيقة لمعظم المصابين خارج الصين، إذْ لا يمكن الوثوق بإحصاء على أساس «الجنسية القانونية» لأنه لا يعكس بالضرورة «الجنسية الاثنية»، أي الأصل العرقي، فمثلاً في فرنسا 6 مصابين، منهم 5 صينيين وُصف أحدهم في الإعلام بأنّه «رجل فرنسيّ من الصين» (؟!). ولاحظنا بأنّ على رأس البلدان التي كانت الأكثر التباساً وغموضاً حيال اثنيات المصابين عند نشرها إحصائياتها هي الولايات المتحدة (11 مصاباً) وكندا (5) وألمانيا (12) وأستراليا (13) وبلجيكا (1). وسجلت اليابان أكبر عدد– حتى ذلك الحين– (33 مصاباً، تأكّدَنا أنّ 4 منهم صينيّون).

تهويل وإرهاب رقميّ

عدا عن تغييب الإعلام السائد للمقارنات مع إحصاءات الأمراض التنفسية العادية، مثل الإنفلونزا الموسمية التي تتفوق على الفيروس المستجد من حيث عدد الإصابات والوفيات عالمياً (وحتى في بلد كأمريكا مثلاً لهذا الموسم وحده: 15 مليون مصاب و10 آلاف وفاة)، فإنّ هناك أمثلة كثيرة عن التهويل، ونلفت الانتباه إلى أحد أشكاله الخفية: تصمت معظم النشرات الإخبارية عن ذكر عدد الحالات التي شفيت، وتكتفي فقط بـ«الاحتفاء بالموت»! (حتى صباح 16 شباط 2020: شفي 9,586 مريضاً وتوفي 1,669 من إجمالي الإصابات 69,269 والتي معظمها، 81%، حالات خفيفة حالياً. وصارت اليوم كل الإصابات في 8 دول انتشار سابقة معافاة تماماً، وتبقّى – عدا الصين – 18 دولة، على رأسها اليابان 408 حالة، وسينغافورة 72، أما الـ16 دولة الباقية فليس في أيٍّ منها أكثر من 56 حالة كحد أقصى و3 كحد أدنى. و4 وفيات فقط خارج الصين). في الحقيقة بدأت تبرز أهمية خاصة للشفاءات في اليومين الماضيين، فهؤلاء المتعافون بدأوا بنشر «عدوى العافية» إلى المرضى؛ منذ 20 كانون الثاني حتى اليوم، اختيرت عشرات الحالات الشافية وتبرعوا بالدم، واستخلص الأطباء الصينيون من بلازما المرضى الذي شفوا مضادات الفيروس التي شكلتها أجسامهم وأعادوا حقنها في بعض المصابين فتحسنت حالتهم، ويعتقد الأطباء أنّ هذه الطريقة هي العلاج الواعد الأكثر فعالية حتى الآن.
بالعودة إلى التهويل، وفي مثال آخر، انتشرت تغريدة إيريك فيغل- دينغ Eric Feigl- Ding وهو دكتور وبائيات في هارفرد، انتشاراً كالعدوى (أكثر من 16 ألف إعادة تغريد). ويقول فيها «رُحْمَاكِ يا أمَّ الربّ المقدَّسة! فيروس كورونا الجديد 3,8!!! أيّة قيمة تكاثرية R0 بهذا السوء؟ إنّها سيئة بمستوى انفجار نووي حراري لوباء عالميّ– لا أبالِغ إذا قلت إنّي لم أرَ عدوى انتشار لشيء بمثل هذه الشدة في حياتي المهنية كلها إلا في تويتر». في علم الوبائيات، يعرّف معدَّل التكاثر الأساس للعدوى Basic Reproduction Rate (ويرمز له R0) بأنّه «العدد الوسطي للأشخاص الذين تنتقل إليهم العدوى انطلاقاً من شخص واحد مصاب خلال كامل الفترة التي يكون فيها هذا المصاب مُعدِياً». فإذا كان R0 للوباء يساوي 3 مثلاً، يعني أن كلّ مصاب يُعدِي وسطياً ثلاثةً غيرَه. ومع أنّ R0 مفيد لتقييم الشدة وتوجيه إجراءات الصحة العامة، لكن لا تجوز المبالغة بشأنه لأنه قد يطمس الاختلافات بين الأفراد من حيث قدرتهم على عدوى الآخرين. بعد وباء كورونا المستجد الحالي سرعان ما ظهرت سبعة أبحاث على الأقل لتقدير R0، من بينها منظمة الصحة العالمية التي أعطته قيمة بين 1,4–2,5 واصفةً إياها بمجرّد «تقدير أوّلي»، وتفاوتت التقديرات الأخرى بين 1.,4– 5,5 حسب طريقة الحساب والنمذجة الرياضية المتّبعة. ولكن مهما تكن القيمة الأقرب للحقيقة، فإنها لا تختلف بشكل استثنائي عن أمراض إنتانية أخرى، فهو رقم يعطي دلالة عامة ووسطية عن احتمالية الانتقال. فهذا الرقم هو للإنفلونزا الموسمية العادية 1,3 ولكل من داء SARS والإيدز (2–5)، وللحصبة (12–16). تقول ناشرة أحد التقييمات لـ R0 للفيروس الجديد، وهي الدكتورة مايا ماجومدير (من مدرسة هارفرد الطبية أيضاً): «يُخطئ الناس إذ يظنون ارتفاع الرقم R0 دليلاً على حتمية التسبب بجائحة عالمية، ليس هذا ما يعنيه الرقم على الإطلاق». وشدّدت على أنّ فائدته الأهم تتعلق بالقيمة 1 باعتبارها عَتبة threshold، فإذا كان R0 أقل من الواحد يكون المرض ذا عدوى محدودة تتلاشى بسهولة. وفوق الواحد يجب أن يؤخَذ بجدية أكثر من هذه الناحية، لكن إلى أية درجة؟ الأمر لا يتوقف على الرقم لوحده بل على عوامل كثيرة أخرى. ومن جهة ثانية تحذّرنا الدكتورة مايا من التسرع باعتبار R0 نهائياً بتجريده من سياق الظروف ومرحلة تطور الوباء: «في الأماكن التي تتمتع بسيطرة جيدة على العدوى، التي يمكنك أن تعزل فيها الإصابات بسرعة عند حدوثها، سترى R0 بقيمة أقل من تلك الأماكن التي تكون فيها الجائحة نفسها قد بدأت للتوّ». وهذا يعني أنّ R0 ليس رقماً سحرياً محصوراً بخصائص الفيروس، بل يتأثر بالشروط التي ينتشر فيها أيضاً، بما فيها إجراءات الحَجْر والمكافحة. ويذكّرنا الدكتور ديفيد فيسمان من جامعة تورنتو بأنّ هذا الرقم هو معدّل وسطي إحصائياً، فإذا كان R0 يساوي 2 فهذا قد يعني بأبسط تصوّرٍ مثاليّ أن كلّ مريض ينقل الفيروس إلى شخصين. ولكن قد يعني أيضاً كثيراً من السيناريوهات الأخرى حسب الشروط الخاصة والملموسة. مثلاً: وجود 50 مريضاً يمرِّرون الفيروس إلى 100 شخص، كما يلي: (25 يُعدون 50) + (14 يُعدون 14) + (10 لا يُعدون أحداً) + (مريض واحد يُعدي 36). في سيناريو كهذا يسمّى المريض الأخير «ناشراً فائقاً» super spreader. وهذا المثال ليس بعيداً عن الواقع، وبالفعل حدث في جائحة سارس سابقاً وجود مرضى لم ينقلوا العدوى إلى أحد، كما وُجِد بالمقابل ناشرون فائقون أيضاً، أحدهم في مشفى بكين أعدى 33 شخصاً. إنّ تراكم الدروس التي تعلّمها العلماء من تجارب تاريخية لأوبئة سابقة مثل SARS قد تساعد في الحصول على نتائج أفضل وأكثر فعّالية لإنقاذ الأرواح. تقول دراسة منشورة في «المجلة الدولية للأمراض الإنتانية» (بعنوان «الناشرون الفائقون في الأمراض الإنتانية»، 16 حزيران 2010): «إنّ تطبيق الرقابة الفعالة، والحد من تنقيل المرضى بين المستشفيات، والحَجْر على المرضى الذين يمكن أن يكونوا معرّضين، تظهر بوصفها دروساً مهمة من هذه التجربة [جائحة السارس]».

بالبحث عن اسم صاحب التغريدة التهويلية، الدكتور دينغ، تَبيّن لنا بأنه أمريكي من أصل صيني، وإضافة إلى مناصبه الأكاديمية، فهو مرشح ديمقراطي للكونغرس، وعضو زمالة «جمعية بول وديزي سوروس» لمالكها «بول» الشقيق الأكبر لقطب المال الصهيوني جورج سوروس. وعلى الرغم من وجود كثير من أكاديميّي هارفارد الذين تستحق آراؤهم الاحترام لكونها علمية، أيْ موضوعية (كرأي الدكتورة مايا أعلاه)، لكن لا ندري إن كان الدكتور دينغ ينتمي إلى زمرة أخرى مختلفة من خريجي هارفارد، وتحديداً الذين سرى بينهم طقس يمارسونه قبل التخرج، وهو أن يتبوّلوا عمداً على تمثال جون هارفرد المنصوب في حرم الجامعة. نعم هذه ليست مزحة بل هي واحدة من اثنتَين من عادات حقيقية يقوم بها بالفعل عدد من خريجي هذه الجامعة الأمريكية (على الأقل حتى العام 2015 كانت هذه مشكلة من ناحية الروائح والنظافة، وسببت فضيحة اضطرت مجلة الجامعة نفسها لكتابة مقال عنها في 8/11/2015). أما العادة الثانية، الأكثر شهرة من الأولى، فهي المسح باليد على فردة الحذاء الأيسر لتمثال هارفرد من أجل جلب «الحظ السعيد». ولحسن الحظ أنّ عدد الناس غير العنصرييّن على كوكبنا أكثر بكثير من العنصريين أمثال الذين فبركوا بروباغاندا فيديو «الفتاة الصينية الآكلة للخفافيش والناشرة للأمراض»، ولولا طيبة معظم البشر، بخلاف زمرة شرّيرة معروفة، لكنّا رأينا مثلاً انتشار فيديو لطالب من هارفرد وهو يتبوّل على التمثال مع تعليق عنصريّ يقول «انظروا إلى قذارة الأمريكيين حتى في حرم جامعاتهم»!

وسواء أكانت البلايا الفيروسية المعاصرة أسلحة بيولوجية أم ناجمة عن تفاعلات «عفوية» بين الرأسمالية والطبيعة، وحتى لو استخدمت منظمة الصحة العالمية عبارات عاطفية، دون أن تقوم على الأقل بتعديل علمي على نظام تقاريرها الوبائية بإضافة صريحةٍ لاثنيات المصابين، لكن تبقى كلمات مديرها التالية تحمل مغزىً مناسباً للوضع الراهن على كل حال: «إنه وقت الوقائع لا الخوف. وقت العِلم لا الشائعات. وقت التضامن لا وصْم الآخرين».

معلومات إضافية

العدد رقم:
953
آخر تعديل على الإثنين, 17 شباط/فبراير 2020 13:17