التكنولوجيا أيضاً بين عالمين
يزن بوظو يزن بوظو

التكنولوجيا أيضاً بين عالمين

قيل مرة عن أحد رجالات الغرب في الإعلام، مارك غودمان: «اذا تحكّمت بالسطر البرمجي، فستتحكّم بالعالم، هذا هو المستقبل الذي ينتظرنا». إلّا أنّ هذه العقلية المبنية على «التحكّم» والسيطرة والاستغلال في الأرض، وبجزء منها، عِبر التكنولوجيا، تتساقط اليوم فضلاً عن كل ما مضى.

إن الانعطاف التاريخي الذي يجري اليوم في تغيّر موازين القوى الدولية، لا يتعلق فقط بجوانبه السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، بل ينسحب على كل شيء في مستقبله، بما فيه من العلوم، التكنولوجيا، البيئة، الفضاء... وإلخ. حيث المُتغيّرات التي بدأت ولا تزال بطور التبلوّر والظهور قُبيل أن تصبح سائدة، يمكن رصدها ليس من اليوم، بل وحتى منذ عشر سنين. وكما الحال بالمعنى السياسي في ردع الغرب عن التدخل بشؤون العالم ونهبه بآليات الاحتكار والتبادل اللا متكافئ، وصولاً إلى التبعية، فضلاً عن تراجعه موضوعياً أيضاً، الأمر ذاته الذي يجري فيما يخصّ التكنولوجيا باستخداماتها وإنتاجاتها وتطورها.

بين تيارين

يمكن القول: إنّ ما كان سابقاً، حول «احتكار المعرفة» ومن ضمنها التكنولوجيا، بأيدي الغرب وحده، لم يعد ممكناً... وإنّ ما جرى احتكار بحثٍ، أو تقنية أو مُنتج تكنولوجي ما، فلم يعد باستطاعة محتكريه إدامة تسلّطهم عليه لسبب بسيط، وهو أن «الدفّة قد كُسرت»، حيث باتت «المعلومة» في متناول الجميع، إن لم نقل بسبب تغيّر موازين القوى اليوم كأحد الدوافع، فبسبب التقدّم العلمي والتكنولوجي نفسه مع ما رافقه من «عولمة» بدافع النهب، أدت في نهاية المطاف إلى انتشارها، وما «الإنترنت» بمواقعه ووسائله إلّا مثال بسيط يتعلق بالشعوب... أما على مستوى الدول، فذاك حديثٌ آخر يصل إلى مستوى الحرب، بين تيارين بمصلحتين مختلفتين، بين من يؤمّن نفسه عِبر الاحتكار والنهب، ومن يؤمّن نفسه عِبر التكافؤ ورفع نسب النمو في العالم.

التعاون والتكافؤ «التكنولوجي»؟

إن الميزان الدولي الجديد الناشئ، يقوم في أحد جوانبه، كما بات واضحاً من التصريحات المباشرة نفسها حتى الآن على الأقل، على آلية التعاون والتكافؤ الاقتصادي، لتحقيق أفضل استقرار وأعلى نمو، لكن وكما ذكرنا سابقاً، فإن هذه الآلية لا تقف عند حدود الاقتصاد فقط، علماً بأن التكنولوجيا إحدى ركائزه ضمن العملية الإنتاجية، إلّا أن ما نقصده هو «احتكار التكنولوجيا، كمعرفة ومعلومة» يُمكن استثمارها لاحقاً ليس من البلد المُنتج لها فقط، بل ومن الآخرين، دون «تبعية». وها هي روسيا بتقدّمها العسكري، آخرها الصواريخ الفرط الصوتية، وتلك الصين في تكنولوجيا اتصالات الجيل الخامس- على سبيل المثال لا الحصر- موضوعتان يحتاج الغرب تقديرياً نحو عشر سنين من الآن لإنجازها، إذا ما كُنّا نتطلع للأمر بعقلية الميزان القديم، فالمقصود هنا، أنْ لا مانع لدى هذه الدول بتقدّيم هذه التكنولوجيا لآخرين سوى الاعتبارات السياسية والأمنية، لا الربحية والنهب. وفي هذا الإطار يمكن ذكر منظومة «إس-400» الروسية كمثال، بالمقارنة مع «باتريوت» الأمريكية، بالحالة التركية... بين منظومة تُعطى وللدولة المعنية حرية التصرف بها ولها كامل السيادة عليها، وأخرى مشروطة ومرهونة بقرارات «صاحبها». لكن ماذا عن تكنولوجيا تصنيع «إس-400» أو الأفضل منها؟ وصولاً إلى صواريخ فرط صوتية واتصالات G5؟ الأمر مماثل، حيث الاعتبارات التي قد تؤخر وصولها ليس من منطلق النهب من مُنتجيها الأوليين، وإنما يصبح مُحددها سياسة الطرف الآخر بدواعٍ أمنية أولاً، والمقصود هنا بشكل أساس، روسيا والصين، والولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها الأوروبيين.

فرصة تاريخية

لكن ماذا عمّا تسمى دول العالم الثالث، التي تُشكل أكثر من ثلاثة أرباع دول العالم؟ إن التكنولوجيا، مهما تطورت وتقدّمت، ومهما تنوّعت، تبقى في جوهرها «أداة عمل وإنتاج» ترتبط مباشرة وأوّلا بالقوى المنتجة في العالم، بالطبقة العاملة نفسها، وكما بالشكل التقليدي المستمر، بأن تُنهب القوى المنتجة عِبر إعطائها فُتات الإنتاج بما يكفيها لتجديد قوتها بالحدّ الأدنى، فإن لعملية إنتاج التكنولوجيا نفسها وما ينتج عنها الأمر نفسه، بتأثيره على قدراتها وتطورها... وتلك الآلية الاحتكارية للتكنولوجيا عملياً هي إعاقة مباشرة لتطور القوى المنتجة، والذي يعني لتطور المجتمعات ككل، وجعلت بالإضافة إلى عوامل وجوانب أخرى، شعوباً كاملة عديدة تابعة ومنهوبة لصالح دولٍ قلّة، تقف عند عتبة يحددها «المُحتكر»، أي: الإمبريالية، ويروّج لها بالـ«متخلفة». إنّ هذه الدول اليوم، ومع هذه المتغيّرات الدولية ومستقبلها، تمتلك جميعها دون استثناء فرصة تاريخية للقفز خُطا عديدة للأمام بتطورها، تُحددها العوامل الذاتية في كلٍ منها، عِبر الدفع باتجاه «توطين التكنولوجيا وإنتاج التكنولوجيا نفسها» عوضاً عن استيراد منتجاتها بعلاقة ناهب ومنهوب، فرصة تتيحها اليوم وأولاً هذه الدول الصاعدة بمصالحها المتعارضة تماماً مع الغرب، كالصين وروسيا أولاً.

ليس سوى استمرارٍ لمنجزات مضت

إنّ هذا الخرق التكنولوجي الذي وُجد في هاتين الدولتين، لم يجرِ حقيقةً في عقدٍ من الزمن، بل عمره قرنٍ، حيث كان لمدة حوالي سبعين سنة من الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، أن تنتقل تلك الدول بشعوبها وقواها المنتجة من حالة «متخلفة» إلى متقدمة ومصنّعة للتكنولوجيا نفسها توازي وتجابه به أكثر الدول تقدّماً في الغرب، بالإضافة إلى فرضه الاتحاد على الرأسمالية بأن تقدّم تنازلات عدّة وعديدة لصالح طبقتها العاملة منها: التعليم المجاني، الذي باتت اليوم تتراجع عنه بحكم أزمتها. إنّ هذه الإشارة هنا لا يُقصد منها الوقوف وتمجيد منجزات الماضي، على العكس، فهذه المنجزات لا تزال ثمارها مستمرة إلى اليوم، بل ما نُريد التأكيد عليه هو التجربة ذاتها، التي تمتلك شعوب «دول العالم الثالث» فرصتها منها في القرن الحادي والعشرين، وسورية اليوم أحدها، الأمر الذي يجب أن يكون نقطة أساسية ضمن خطة «إعادة الإعمار» بين مَن يُقيم اسثمارات ويقدّم معها التكنولوجيا لتوطينها، ومن يقيمها بعلاقة «التبعية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
923
آخر تعديل على الجمعة, 26 تموز/يوليو 2019 14:40