الحركة الشعبية بين السياسة التقليدية وإبداع الجماهير
رمزي السالم رمزي السالم

الحركة الشعبية بين السياسة التقليدية وإبداع الجماهير

نقصد بالحركة الشعبية، تلك الأشكال المختلفة من النشاط السياسي للجماهير، بدءاً من المشاركة والاهتمام بالشأن العام، وإبداء الرأي في الشأن السياسي، ومروراً بالأشكال الاحتجاجية المختلفة كالإضراب والاعتصام والتظاهر، وانتهاء بالثورة.

تشهد بلدان عديدة حركة جماهيرية نشطة منذ ما يقارب عقداً من الزمن، فتتراكم تجاربها، وتتعلم منها. هذه الظاهرة الجديدة لم تعد تخص دولة أو إقليما محدداً، بل باتت عالميّة، مما يعني أن لهذه الظاهرة قانونيتها.

لماذا بلدان الأطراف؟

كان من الطبيعي أن تنطلق الحركة الشعبية في بلدان الرأسمالية الطرفية، حيث تتعرض شعوب هذه البلدان لنهب مزدوج، من قبل المراكز الرأسمالية من جهة، والكومبرادور المحلِّي من جهة أخرى؛ إذ لم تستطع برجوازية بلدان الرأسمالية الطرفية تأمين الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي، مما أدى إلى تفاقم جميع التناقضات، وظهورها بشكل صارخ، حيث تجاور الإفقار والاضطهاد الطبقي مع ضيق هوامش الحريات السياسية، لتتكامل مع تلك القضايا المعلقة التي تراكمت عبر التاريخ، والتي لم يستطع نموذج الدولة الوطنية حلها، فأنتج وضعاً جاهزاً للانفجار.
ومع زيادة تمركز وتركز الثروة، والاستقطاب الطبقي، عالمياً وعلى مستوى كل دولة، على إثر الأزمة الرأسمالية الراهنة، ومع محاولة المراكز حل أزماتها على حساب بلدان الأطراف، ارتفعت وتيرة النهب إلى مستويات غير مسبوقة، وتفجَّرت كلُّ التناقضات دفعة واحدة في البلدان الطرفية، دون أن يعني ذلك أنَّ مفاعيل الأزمة لن تطال المراكز نفسه، بمعنى أن هذه البلدان نفسها ستشهد انطلاق حركة شعبية واسعة، وجدنا مقدماتها الأولى في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وصعود ما يسمى الشعبوية، والانقسام الأمريكي، والبريكست، والخلافات ضمن حلف الناتو. صحيح أن هذه المظاهر في بلدان المركز تبدو وكأنها تخص النخبة السياسية فقط حتى الآن، ولكنها تعكس في العمق انقساماً مجتمعياً، وتشكل إرهاصات تبلور حركة جماهيرية، كانت تجربة السترات الصفراء الفرنسية إحدى ملامحها الأولى.

غياب الحوامل السياسية

من سمات هذه الحركة الجماهيرية الواسعة غياب الحوامل السياسية التي تمتلك برنامجاً متكاملاً، والقادرة على تنظيم الجماهير، مما يمنح خصوم الحركة الشعبية هامشاً واسعاً لاختراقها، واتهامها بشتى التهم، أو على الأقل التشكيك بشرعيتها.
لقد أدى غياب أو تغييب الحامل السياسي، إلى إمكانية الالتفاف– ولو مؤقتاً– على هذه الحركة، من قبل أعدائها داخل وخارج البلدان سواء من خلال القمع، أو قوة الضخ الإعلامي أو بالاثنين معاً، أو من خلال التطييف والعسكرة، وذلك لحرف مسار الحركة الجماهيرية، بحيث تظهر على السطح فقط تلك القوى التي تنتمي فعلياً إلى نفس البنية التي قامت الحركة ضدها، وإن اختلفت المواقع، لينتج عن ذلك الاقتصار على قبول تغيير شكلي في البنية الفوقية، كما حصل في مصر وتونس، أو إغراق البلدان في دوامة الفوضى، مثل سورية وليبيا، وليبدو الأمر وكأنه مجرد صراع على السلطة، أو صراع حزبي أو قومي أو طائفي، لا علاقة له بجوهر النظام الاقتصادي الاجتماعي، ولكن كلُّ ذلك لا ينفي المشروعية التاريخية لهذه الحركة، كونها بالأصل رد فعل موضوعي على كلّ مظاهر القهر الاجتماعي المزمن، التي أنتجها النظام الرأسمالي. قوة الدفع الذاتي التي تمتلكها هذه الحركة ستنتج بالضرورة قياداتها ورموزها التي تستطيع دفعها إلى الأمام وصولاً إلى تحقيق أهدافها في التغيير الجذري والشامل.

الحركة وخصومها

اللافت في خريطة خصوم الحركة الشعبية، هو أنها تشمل قوى عديدة من المفترض أنها متناقضة، ولكن تتفق في الموقف المعادي للحركة، تشكيكاً بها، أو عداءً سافراً لها، فتشمل هذه الخارطة، أحياناً، الأنظمة، وقوى «يسارية»، وقوى نيو ليبرالية تأخذ أحياناً لبوساً دينياً أو قومياً، مما يعكس حقيقة أساسية، وهي أن قوى الفضاء السياسي القديم تصطفُّ موضوعياً في مكان واحد فيما يتعلق بالموقف من الحركة. وبالتالي، الموقف من عملية التغيير وآفاق تطور الوضع في البلد المعني، على اعتبار أنَّ هذه الحركة قاطرة التغيير، بعد أن استنفدت البنى القائمة قدرتها على الديمومة والاستمرار.
إنّ فشل أو إفشال الحركة الشعبية في أطوارها الأولى، لا يعني صحة مواقف خصومها، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن ذلك يكشف عن بؤس الفضاء السياسي القديم وعجزه، ويضعه أمام امتحان ذي طابع وجودي، فإما الارتقاء إلى مستوى النشاط العالي للجماهير، أو الخروج من التاريخ وتسليم الرَّاية إلى الأجيال الجديدة، أي إن الحركة الشعبية تقوم في سياق تطورها بعملية اصطفاء طبيعيّ لكل البنى القائمة، الحاكمة منها والمحكومة، وليس من العلم والمنطق بشيء القول إن هذه الشعوب باتت عاقراً، أو يجب أن تنتظر إلى ما شاء الله، بحجة غياب الحامل السياسي، وتظل تتحمل كل الجور والظلم بحقها من قبل أنظمة الاستغلال، لا سيَّما، وأنَّ التجربة التاريخية تؤكِّد بأن الحركات الشعبية تفرز قياداتها من خلال الحركة، وتصيغ برامجها، وتحدد أهدافها في سياق النضال العملي، مستندة إلى كل الإرث الثوري التاريخي، ومستفيدة من آخر إنجازات العلم في ميدان علم الاجتماع والعلوم الطبيعية. وعليه، فإن الحالة التراجيدية التي وصلت إليها العديد من البلدان بعد انطلاق الحركة الاحتجاجية، ليست مسؤولية هذه الحركة، بل هي مسؤولية خصومها في الأنظمة الذين تعاملوا معها بالقمع والعنف، ولم يسمحوا لها بالتبلور والتعبير عن نفسها، ومسؤولية قوى العطالة التاريخية العاجزة والمترددة، ومسؤولية تلك القوى التي حاولت توظيف الحركة لتحقيق أجندات دولية، بما منح لهذه القوى من دعم، وتم فرضها على الحركة الشعبية فرضاً بقوة المال والإعلام، رغم أنها معادية لجوهر ومحتوى هذه الحركة.

الاشتباك من موقع الدفاع

إنَّ التأكيد على المشروعية التاريخية للحركة الشعبية، لا يعني بحال من الأحوال السير وراء الحركة العفوية للجماهير، بل هي دعوة إلى ضرورة التفاعل معها، من مختلف المواقع، دعماً لها، أو اشتباكاً مع بعض عناصرها إذا تطلَّب الأمر، ولكن من موقع الحرص عليها، والتعلُّم منها، وتعليمها، وتجنب محاولات الوصاية عليها، والسعي إلى إحداث فرز فيها بين القوى المتطفلة عليها، وقواها الحية، التي تعبر عن مصالح الأغلبية الفقيرة والمنهكة. إنَّ أهم إنجاز للحركة الشعبية هو أنها تنقل السياسة من الصالونات والمكاتب إلى الناس، من بيروقراطية الساسة إلى إبداع الجماهير، من تردد وعجز النخب، إلى ثورية الجماهير التي ستصنع تاريخاً جديداً، رغم كل آلام مخاض ولادة الجديد، ولن تخسر في النضال غير قيودها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
951
آخر تعديل على الأربعاء, 05 شباط/فبراير 2020 13:59