حدود «سايكس ـ بيكو»: لماذا نتمسّك بها؟
أسعد أبو خليل أسعد أبو خليل

حدود «سايكس ـ بيكو»: لماذا نتمسّك بها؟

مظاهر العولمة تجتاح منطقتنا بسرعة تفوق التقدّم العسكري الهائل لـ«داعش» (وهي غير «النصرة» المتنوّرة وفق تصنيفات التنويري وليد جنبلاط). هي تخترق كل الحدود وتسيطر مثل الأنظمة التوتاليتاريّة على كل مجالات الحياة - أو تحاول. وخطورتها أنها تتسرّب من دون علمِنا، فنستبطن مصطلحاتها وعقائدها وسلوكها، فيما نحن نهتف باسم الأصالة والثقافة والدين المحلّي. العولمة زيّفت مقاصدها وغاياتها وأساليبها من خلال الإصرار الأميركي على تعريفها اقتصاديّاً فقط.

وبيل كلينتون لا يزال يعقد المؤتمرات الموسميّة في هذا الصدد، وتوماس فريدمان لا ينفك عن اللهج بحمدها لكم ولكنّ. لكن العولمة كما حذّر منها وزير الخارجيّة الفرنسي السابق (في كتابه «مواجهة القوّة الفائقة» - الذي صدر بالإنكليزيّة بعنوان مختلف حرصاً على مشاعر الشعب الأميركي)، تتضمّن سيطرة ثقافيّة أيضاً.

يتبيّن تأثير العولمة الأميركيّة المنشأ (وهي مرحلة أعلى من الإمبرياليّة الجديدة والمُتجدّدة) في الإعلام العربي والثقافة العربيّة. تنشر الكتب الصادرة في أميركا، التي تخدم غايات المُستعمر (مثل كتب قادة عسكريّين سابقين) متسلسلة في الصحافة العربيّة ثم تصدر في طبعات نفيسة. أمّا ما يُنشر من آداب فلا يجد طريقه إلى النشر والترجمة إلا إذا كان يخدم قضيّة السيطرة الأميركيّة. وعليه، فإن كتاب «الديمقراطيّة في أميركا» يصدر بتمويل أميركي (أكثر من مرّة)، لأن الكاتب الفرنسي كان معجباً بالديمقراطيّة في أميركا (في القرن التاسع عشر، أي في زمن العبوديّة الأميركيّة).
إن مصطلحات السياسة الأميركيّة باتت طاغية في إعلامنا العربي: فكلمة احتلال باتت تشير فقط إلى أراضي محتلّة في عام 1967، وبات احتلال فلسطين في عام 1948 لا يقلق بالاً. والحروب الأميركيّة في منطقتنا باتت تكتسي أسماء الجلالة، فهي «حرب ضد الإرهاب» أو «عاصفة الصحراء» أو ما شاكل ذلك من ألقاب تسبغها أميركا على عدوانها المُستمر. والمحطات اللبنانيّة باشرت الإشارة إلى العدوان الأميركي في سوريا والعراق على أنه تدخّل عسكري لقوّات «التحالف» أو «الائتلاف»، كأن أولاد زايد وأولاد عبد العزيز هم أنداد لأوباما، يشاركونه في صنع القرار. والاعتراض على «داعش» هو قلق مُعولَم مُستورد من أميركا ـ من دون أن يعني هذا أن الاعتراض على «داعش» هو غير مُبرّر، لكن ما هو الفارق الفعلي بين «داعش» و«النصرة» والحركتان نابعتان من «القاعدة»؟ هل بات التمييز بين «قاعدة» معتدلة و«قاعدة» متطرّفة عقيدة أميركيّة مستوردة هي الأخرى؟ والإعلام العربي يستورد أخبار وأكاذيب عن «داعش» مثلما يستورد الإشاعات والأكاذيب عن حاكم كوريا الشماليّة.
وفي هذا السياق، استورد الإعلام العربي قلقاً بالغاً على «سايكس ـ بيكو» وكأن السيّد سايس والسيّد بيكو تربّيا في أحياء بيروت أو دمشق أو القاهرة. تحوّلت اتفاقيّة استعماريّة لتقسيم العالم العربي على مقاس التنافس البريطاني ــ الفرنسي (والروسي قبل «الثورة») إلى مشروع قومي عربي، والندب عليها بات من واجبات العروبة المستحدثة. الكلّ يعبّر عن خشية من مصير «سايكس ـ بيكو».
لماذا هذا القلق على حدود «سايكس ـ بيكو»؟ ولماذا الخوف على قدسيّة اتفاق استعماري على تقسيم تركة الإمبراطوريّة العثمانيّة؟ وهذا الخوف من الإخلال بمضامين اتفاقيّة «سايكس ـ بيكو» هل هو نابع من تقدير كل مضاعفات ونتائج الاتفاقيّة المذكورة على مرّ القرن الماضي؟ أم أن الخوف هو ترجمة لمخاوف المصالح الغربيّة التي أنتجت الاتفاقيّة؟ ها نحن نكاد «نحتفل» بذكرى مرور قرن واحد على عقد الاتفاقيّة، فهل نبتهج بها؟ وهل نشكر الراعي المُستعمر على ما فعله بنا من خير وتوحيد للجهود والحدود؟
هذه واحدة فقط من مسلّمات الإعلام الغربي المُستورد، التي تصبح مسلّمة عربيّة وبلسان عربي. لكن لنعد إلى تلك الاتفاقيّة قبل أن ننوح حزناً على الإخلال بها. ليس من الشائع في بلادنا أن اتفاقيّة «سايكس ـ بيكو» لم تكن الأولى من نوعها لوراثة تركة الإمبراطوريّة العثمانيّة. فلقد سبقتها «اتفاقيّة القسطنطينيّة» في عام 1914 عندما أبلغ سفيرا بريطانيا وفرنسا وزير الخارجيّة الروسي أن حل مسألة «القسطنطينيّة والمضائق» سيكون وفق رغبات روسيا. لكن مراضاة فرنسا وبريطانيا لروسيا لم تكن إلا شكليّة، كما أن حملة الدردنيل عزّزت شكوك روسيا في صدق نيات الحليفيْن المتنافسيْن. كانت فرنسا تريد أن تستولي على كل سوريا (بما فيها فلسطين)، وقد تباحثت مع قادة موارنة في لبنان في أمر شنّ تمرّد مسلّح (قبل دخول الأتراك الحرب) لخلق عذر إرسال قوّة فرنسيّة لإستباق النفوذ البريطاني المتنامي.
أما بريطانيا فكانت تنوي طرد أي نفوذ عثماني من قبرص ومن مصر، مع إصرار على بسط نفوذها في إيران. لكن الأهداف البريطانيّة اتسعت بعد تشكيل لجنة للنظر في الأهداف الاستراتيجيّة للإمبراطوريّة. مارك سايكس (شريك الاتفاقيّة المشؤومة والخبير في الشؤون العربيّة) أراد ضمّ العراق إلى منطقة النفوذ البريطاني في منطقة شبه الجزيرة العربيّة. لم يكن أمر العراق جائزة ترضية للهاشميّين فقط. أما السيطرة على فلسطين فكانت بداية ملحقة بالطمع الاستعماري في العراق والرغبة في فتح منفذ غربي على البحر المتوسّط. لم تكن بداية الطمع البريطاني في فلسطين صهيونيّة المنشأ، لكن الجهود الجبّارة لحاييم وايزمن في ما بعد أسبغت طابعاً آخر على السيطرة البريطانيّة على أرض فلسطين، والإصرار عليها، خصوصاً بعد تبنّي وعد بلفور المشؤوم. وقد أرادت الحكومة البريطانيّة بداية تقسيم الشرق إلى ثلاثة أقسام: منطقة نفوذ روسي شمالاً، ومنطقة نفوذ بريطاني جنوباً ومنطقة نفوذ فرنسي في الوسط.
أما بدء ترتيب الاتفاقيّة بين سايكس وبيكو في كانون الثاني/ يناير 1916، فقد أعطى حريّة السيطرة الكاملة لفرنسا في كيليكيا وسوريا الساحليّة وجبل لبنان شرقاً إلى الموصل. أما بريطانيا فقد نالت (بمنحة من نفسها) منطقة سيطرة حرّة من البصرة وبغداد حتى الجنوب في المشرق. أما فلسطين، فكانت الحصّة الأولى محصورة في حيفا وعكّا، فيما كان الاتفاق أن تكون هناك سيطرة إدارة دوليّة على باقي فلسطين (بإصرار فرنسي). وكان الامتعاض الروسي على الاتفاق الثنائي واضحاً، لكن الطرفيْن عوّضا بإقطاعات في أرمينيا وكردستان. ولم تنهِ الاتفاقيّة الطمع الفرنسي بفلسطين.
لكن بريطانيا لم تكن تطلع الحليف الفرنسي على كل نياتها وخططها. فهي دخلت في مشروع سيطرة على العالم العربي برمّته، وكانت تحلم بأن يرث واحد من أدواتها، الشريف حسين، الخلافة الإسلاميّة. هي حلمت بأن يتسع نفوذ الشريف حسين على الأمة الإسلاميّة (كوكيل لمصالحها وبصلاحيّة محدودة) ما يطيح منطقة النفوذ الفرنسي من أساسها. ولم تخف بريطانيا عن الشريف حسين تأييدها لمشروع تحويل لقبه إلى خليفة بعد الحرب. لكن المفاوضات بين عبدالله بن الحسين والحكومة البريطانيّة (ما عُرف تاريخيّاً بمراسلات «حسين ـ مكماهون») والتي سبقت الاتفاقيّة من دون علم الحسين، تعثّرت حول تحديد الحدود التي لم يكن في وارد المُستعمِر البريطاني إعطاء وعد مبرم بها، لعلمه بما سيستجدّ من تقسيم نفوذ غربي. والطريف أن الشريف حسين الذي فاوض بالنيابة عن العرب دعا حليفه البريطاني إلى تجاهل الرأي العام العربي، إذ قال في رسالة له إلى سيّده مكماهون في 14 تموز/ يوليو 1915 ما يأتي: «... وأودّ بهذه المناسبة أن أصرّح لحضرتكم ولحكومتكم أنه ليس هناك حاجة لأن تشغلوا أفكاركم بآراء الشعب هنا، لأنه بأجمعه ميال إلى حكومتكم بحكم المصالح المشتركة».
وكان مكماهون (من المُستحسن أن تُهجّأ «مكمان» لكن الكتابة التاريخيّة فرضت نفسها بالطريقة المذكورة أعلاه) يعوّض عن عدم موافقته على إعلان الحدود المزمعة بالإفراط في كلام التفخيم الاستهلالي في رسائله، فيكتب الى شريف مكّة: «من السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين 30 أغسطس 1915 إلى السيد الحسيب النسيب سلالة الأشراف وتاج الفخار وفرع الشجرة المحمدية والدوحة القرشية الأحمدية صاحب المقام الرفيع والمكانة السامية السيد ابن السيد والشريف بن الشريف السيد الجليل المبجل دولتلو الشريف حسين سيد الجميع أمير مكة المكرمة قبلة العالمين ومحط رجال المؤمنين الطائعين عمت بركته الناس أجمعين». وبعد كل هذا الإطناب يذكر بأدب: «وأما بخصوص مسألة الحدود والتخوم فالمفاوضة فيها تظهر أنها سابقة لأوانها». لكن لا ينسى مكماهون أن ينهي خطابه للشريف الحجازي من دون الإكراميّة التي ربطت كل مشايخ وأشراف الجزيرة بالاستعمار: «هذا وعربون على صدق نيتنا ولأجل مساعدتكم في مجهوداتكم في غايتنا المشتركة، فإني مرسل مع رسولكم مبلغ عشرين ألف جنيه». (يقول الملك عبد العزيز لأمين الريحاني في «ملوك العرب» ما يأتي:
«
يظنّ الناس أننا نقبض من الإنكليز مبالغ كبيرة من المال. والحقيقة أنهم لم يدفعوا لنا إلا اليسير مما تستحقّه الأعمال التي قمنا بها». ص. 541).
لكن العبارة التي استدعت جدلاً تاريخيّاً لم ينتهِ فقد وردت في رسالة مكماهون في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1915 والتي جاء فيها بتمويه مقصود: «إن ولايتيْ مرسين وإسكندرونة وأجزاءً من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربيّة لولايات دمشق الشام وحمص وحماة وحلب لا يمكن أن يقال إنها عربيّة محضة، وعليه يجب أن تُستثنى من الحدود المطلوبة». والخلاف بين مضامين المراسلات وبين إتفاقيّة «سايكس-بيكو» (التي كانت إلى حينه سريّة) شملت أكثر من قضيّة: العراق وتحديد مدى الاستقلال للعرب (الممنوح والمتمثّل بمتلّقي الرشى الحجازي) وحيفا والوضع القانوني لفلسطين برمّته. لم يُعلِم مكماهون الشريف بقصّة تقاسم مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا. لكن الأبرز في كذبة الاستثناء البريطاني أن مصطلح «الولاية» لا يسري على حمص وحماة، أما غرب ولاية حلب فلم يكن إلا البحر: هل كانت بريطانيا تدعو إلى استقلال المياه في هذا الاستثناء الشهير؟ ولو كانت تستثني فلسطين فلِمَ لم تشر إلى «سنجق القدس» مثلاً؟ إن الجملة لا تُفهم إلا عبر فهم «ولاية» بالمعنى غير الإداري العثماني، وذلك من أجل استثناء الساحل السوري واللبناني حرصاً على الوعد البريطاني لفرنسا في اتفاقيّة «سايكس ـ بيكو». إن محاولة المزاوجة بين هذه الجملة ووعد بلفور أتت لاحقاً ولم تكن واردة في حينه، خصوصاً أن فلسطين لا تقع غرب الخط المذكور بل جنوبه. ومَن غير فينيقيّي القوميّة اللبنانيّة وأحبار الكنيسة المارونيّة يرفض الهويّة العربيّة؟ (كُتب كثيراً عن هذا المقطع من المراسلات، والمؤرّخون الصهاينة مثل إيلي خدوري، في كتاب له عن الموضوع، أخذوا جانب التفسير الملائم لوعد بلفور، لكن الدراسات الحديثة ترفض ذلك. كتب في هذا المؤرّخ الأميركي تشارل سميث بعد أن درس الوثائق الأصليّة في الأرشيف البريطاني وقال لي إن من المؤكّد لمَن يطالع الأرشيف بنفسه بين عدّة عواصم أن يستنتج أن التفسير العربي كان هو الأصحّ في ذلك).
ببراءة شديدة (في أحسن الأحوال) يصف جورج أنطونيوس في مرجعه التاريخي، «يقظة العرب»، الاتفاقيّة بأنها «وثيقة صادمة» (ص. 248 من الطبعة الإنكليزيّة). ويضيف أنطونيوس: «إنها ليست فقط نتاج الجشع في أسوأ مظاهره، أي جشع ممزوج بالريبة ومؤدّي حكماً إلى الغباء». لكن أنطونيوس يعطي أحكاماً تخفيفيّة لمشاركة سايكس في وضع الاتفاقيّة (لأنه خبير في شؤون العرب، وكأن الخبرة تنفي العنصريّة والنيّات الاستعماريّة) ويضفي حناناً عليه في تحليله ويجعله عرضة لخبث مفاوضيه الروس والفرنسيّين.
المهم في كل هذا أن اتفاقيّة «سايكس ـ بيكو» يجب ألا تعنينا إلا من حيث نجاح استبطان نيات المستعمِروأهدافه. صحيح أن المُستعمِر الفرنسي والبريطاني أرادا أن يتقساما النفوذ والهيمنة والموارد بينهما، لكن الاتفاقيّة استدامت بسبب توطيد الغرب لسيطرته حتى بعد أفول الإمبراطوريّة البريطانيّة وبعد نيل الإستقلال الشكلي (ولم يكن استقلال المشرق العربي إلا وجهاً من وجوه التنازع والمنافسة بين المُستعمريْن. إن هجمة «داعش» تشكّل خطراً لكن ليس في تدمير مفاعيل اتفاقيّة «سايس ـ بيكو»، بل لفرض نظام حكم متعصّب وجائر وينكّل باسم الدين، وفي محاولة فرض طغيان جديد باسم الخلافة.
أرادت إتفاقيّة «سايس-بيكو» أن تفرض تقسيماً عشوائيّاً في المنطقة العربيّة ليس على أساس منطقي أو جغرافي بقدر ما هو على أساس تقاسم النفوذ بين مُستعمريْن. كان جورج أنطونيوس على حق في حكمه: أرادت الاتفاقيّة «قطع المثلّث العربي بطريقة تضع عوائق إصطناعيّة أمام الوحدة» العربيّة (ص. 248). ويخطئ من يربط المعارضة الغربيّة للوحدة العربيّة بزمن عبد الناصر. بدأ الغرب بمعارضة الوحدة العربيّة في القرن التاسع عشر: كان رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون جازماً في رفضه للوحدة أو السلطان العربي أمام توسّع نفوذ محمّد علي. أي بوادر لإنشاء خلافة عربيّة (ذات سيادة) كانت تلقى معارضة في لندن. لم يتغيّر نهج المستعمر الغربي مذّاك. لم يكن هناك حركة انفصاليّة في جسم العالم العربي منذ الاتفاقيّة لم يدعمها الغرب: من حركات القبائل والعشائر (والقبائل والعشائر لا تحيا إلا على الاستعمار ولقد تقلّص شأنها في العهد الاستقلالي الوحدوي وعلا شأنها وتعاظم في زمن التدخّل الغربي - لم يجد جورج بوش أفضل من حلفاء العشائر والحوزة في العراق بعد غزوه) إلى الحركات القبليّة الكرديّة وجيش جنوب السودان والقوى الانعزاليّة في لبنان ومحاولة تمزيق العالم العربي عبر الشرذمة الطائفيّة (كما فعل بوش في العراق مباشرة بعد غزوه).
تحقّق لاتفاقيّة «سايكس ـ بيكو» ما أرادت، وتوطّدت تقسيمات الاتفاقيّة الاستعماريّة وكياناتها. استبطن العرب في أقطارهم هويّات زرعها بينهم المُستعمر. أرادت حركات القوميّة العربيّة، خصوصاً في الزمن الناصري، تغيير المعادلة الاستعماريّة، أو نسفها، لكن الغرب كان لهم بالمرصاد. أنفق الكثير من أموال النفط على تعزيز هويّات في إقطاعات في الصحارى العربيّة (ورقص لها عبد الحليم كركلا)، والغرب يرسل جيوشه ومخابراته لكسر شوكة كل حلم توحيدي ومن أجل الدفاع عن بقاء الكيانات (مثل الكيان الكويتي أو الأردني أو اللبناني). لم يكن الانقلاب الانفصالي في عام 1961 حركة محليّة منفصلة عن النيّات الاستعماريّة المثبتة في «سايكس ـ بيكو».
قد يكون تجاهل حدود «سايكس ـ بيكو» إيجابيّاً إذا لم تُستبدل بكيانات طائفيّة عشائريّة على طريقة مشيخات شخبوط في دول الخليج. وقد يكون من الضروري نسف الكيانات القائمة تمهيداً لنشر هويّة جامعة تتخطّى حدوداً لم تنبت من وعي محلّي. إن التصميم الغربي على دعم الكيان اللبناني والأردني لم يكن إلا بغية إحاطة دولة العدوّ الإسرائيلي بطوق من الصداقة العربيّة التطبيعيّة ـ جهاراً أو سرّاً، على الطريقة اللبنانيّة. ودول الخليج التي لا شرعيّة لها خارج شرعيّة فتات موارد النفط والغاز، تحتاج إلى رفض كيانات وحدويّة: لهذا هي تحالفت مع الغرب لتدمير كل أحلام الوحدة في الخمسينيات والستينيات. وأعداء الوحدة أو الاندماج العربي في إعلام النفط والغاز لهم بدائلهم: هويّات القبيلة والطائفة والحارة والمحلّة والإثنيّة.
لم يكن القرن الماضي منذ سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة خيّراً على العرب. لكن الاتفاقيّة التي تزامنت مع الحرب العالميّة الأولى دامت ونجحت في ضخ فلسفة كيانات مفصّلة على قياس المستعمر. ليس هناك من متنافسين في الاستعمار اليوم: وحدها أميركا تقرّر والمجموعة الأوروبيّة تتبع صاغرة. قد تحاول الحكومة الأميركيّة أن تتوصّل إلى اتفاقيّة جديدة من أجل صياغة نظام عربي جديد، لكن احتمال زيادة التقسيم والشرذمة أكبر من احتمالات تقليصها.
يجب كسر محظورات أورثنا إيّاها الغرب وتلقّفها منه حكّام الخليج وحلفاؤهم. هذه الحدود لا تخدم القضايا السياسيّة والاقتصاديّة للعالم العربي. انشغلت السلطة العثمانيّة والنخبة الحجازيّة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بمشروع السكّة الحديديّة. ها نحن بعد أكثر من قرن من الزمن على افتتاح خط سكّة حديد الحجاز - دمشق وليس هناك من خطوط مواصلات تربط بين العواصم العربيّة. لم يعمّر. كيف يعقل أن لا وجود لخطّ سكّة حديديّة يربط بين عواصم الدول العربيّة (على الأقل في المشرق) وبين شبه الجزيرة العربيّة. هذه من عواقب «سايكس ـ بيكو» وتغليب الحكم القطري والعقل الأمني الموروث عن المستعمر. ليس صدفة أنه أسهل على الغربي أن يطير إلى أي من عواصم الدول العربيّة من العربي.
قد تكون فرصة في خضمّ هذه الحروب الدائرة وهذه الاجتياحات الكونيّة في الشرق العربي لإعادة النظر في كل موروثات الاستعمارّ وكياناته وحدوده وأطره. قرن كامل من الحكم الغربي في منطقتنا العربيّة. هذه السيطرة الغربيّة فرضت دولة العدوّ وفرضت الشرذمة وتصغير الهويّات وتفتيتها. قد تكون هجمة «داعش» فرصة ليس فقط لمهواجة عقائد الرجعيّة الوهابيّة، بل فرصة أيضاً لرفض مضاعفات ترسيخ الاستعمار في الأذهان والدساتير والحدود. إن نسف الحدود والجدران والكيانات مقدّمة للتحرّر الحقيقي. نفهم أن يترحّم المُستعمِر على «سايس ـ بيكو» لكن ما شأننا نحن بذلك؟

المصدر: الأخبار