عدالة المستضعفين: من سوسيولوجيا العنف الثوري
سيف دعنا سيف دعنا

عدالة المستضعفين: من سوسيولوجيا العنف الثوري

«لَنْ نَكونَ نِداً للأعداء، ولن نتلقى احترام الشهداء، ولن نتلقى احترام شعبنا، إن لم يكن شعارنا: العَيْنُ بِالعَينْ، والسِّنُ بِالسِّنْ، والرأسُ بِالرأسْ».

)القائد أحمد سعدات ـ عشية الثأر لاستشهاد أبو علي مصطفى)

 إلى أحمد سعدات وجورج عبد الله «يا شموس بِتُبْرُقْ في غُرَفْ عِتْمين»

أراد أن يسحق روح شعبنا فكان على أحد أبناء شعبنا أن يسحقه. رصاصات أربع فقط أطلقها الشهيد معتز حجازي في صدر ذلك الصهيوني القذر يهودا غليك، عنوان الحملة الصهيونية على الأقصى والقدس، أنقذت روح أمة كاملة.

أربع رصاصات عادلت في قيمتها كل الرصاص الذي أطلقه العرب في كل حروبهم مع الكيان الصهيوني. لم يكن التحدي طبعاً في شخص ذلك الصهيوني الوقح، بل في معنى وتبعات استكانة وخنوع امة كاملة لتحدي يستهدف إخضاعها وكسر روحها عبر استهداف الأقصى، رمز فلسطين والعروبة والإسلام. جاءت رصاصات معتز حجازي في ٢٩ تشرين الأول لتذكرنا بالقيمة الحقيقية والمعنى الحقيقي لفعل المقاومة. جاءت لتذكرنا بوظيفة المقاومة الأهم، بتبعاتها الاجتماعية ـ النفسية المتمثلة بتحدي ورفض المكانة الدونية والحقيرة التي يريد لنا المستعمر الصهيوني القبول بها واستدخالها في وعينا ووعي أطفالنا من بعدنا. جاءت الرصاصات الأربع لتذكرنا بالمعنى الحقيقي والنبيل للثائر وللعنف الثوري الذي شوهه نخاسو الوطن ومقاومتهم السلمية السخيفة.

 

في عبقرية العنف الثوري

لم يكن فرانز فانون، أحد أهم منظري الثورة ومقاومة الاستعمار، بحاجة لتبرير العنف الثوري ولا حتى التأسيس لفلسفه ثورية تبرر تكتيكاته، فوحشية الجيش الفرنسي في الجزائر ووحشية الاستعمار في العالم الثالث كانت أكثر من كفيلة بذلك. لكن عبقرية فانون كانت في انه لم ير في العنف الثوري مجرد عنف مضاد للعنف الاستعماري الهمجي فقط، وهو ما يشير لقصور فهم عميق وسذاجة مفرطة لدى أدعياء اللاعنف. ولم تكن عبقرية فانون في الإضائة على وظيفة العنف الثوري السياسية كوسيلة لعقلنته، كما يحلو لأي سياسوي أن يفعل في كل شيء. العنف الثوري عند فانون، أيضاً، له وظيفة تحررية، نهضوية، وحتى إبداعية. فهو يحيي الثقافات المقتولة التي عمل الاستعمار على القضاء عليها والتسبب بتعفنها، ويعطيها حيوية ويبعث فيها الحياة من جديد، تماماً كما يفعل نقل الدم لجسد فقير الدم. والأهم من كل ذلك، للعنف الثوري، عند فانون تحديداً، وظيفة اجتماعيةـ نفسية تطغى على كل وظيفة اخرى. وظيفة اجتماعية ـ نفسية ذات تبعات استراتيجية هائلة يصعب حتى تصور مجرد إمكانية التفكير في إنجاز فكرة التحرر والثورة من دونها. فالعنف الثوري هو الكفيل، وربما يكون الآلية الوحيدة الكفيلة فقط كما يعلمنا التاريخ، بتمكين المُستعمَر من تجاوز القبول، أو القناعة، بتلك الحالة الدونية الحقيرة التي يخلقها الاستعمار لدى المستعمرين، والتي من دون تجاوزها لا يمكن الحديث عن تحرر أو ثورة على الإطلاق. كان فانون بذلك قد سبق جنرالات البنتاغون الذين صمموا تكتيك «الصدمة والرعب» بعقود في إدراكه للبعد الاجتماعي ـ النفسي للعنف وللحرب. طبعاً «الصدمة والرعب» لا تهدف إلى القتل فقط أو أساساً، فهذا يخص الضحايا فقط. بل تهدف أيضاً وأساساً لاستثمار العنف الهمجي والمفرط، وفي حالة «الصدمة والرعب» استخدام القوة النارية الهائلة، لهزيمة الأحياء وكسر روحهم وتدمير إرادتهم واستعمار قناعاتهم واستدخال فكرة «بدنا نعيش» الحقيرة وانهزامية فكرة «لا جدوى من المقاومة» الوضيعة في وعيهم.

طبعاً، لا يمكن تخيّل نجاح هذه الاستراتيجيات الاستعمارية من دون الأعوان المحليين للاستعمار ومن دون تشكيل البنية الاجتماعية المحلية بما يخدم مصالح الإستعمار. يصعب أصلاً تخيّل إمكانية نجاح الاستعمار من دون تلك البيئة المحلية الحاضنة لوعي الهزيمة ومن دون اولئك الطواويس الوقحين الذين اكتشفوا فجأة ومن دون مقدمات ولا فلسفات فضائل المقاومة السلمية الفارغة ـ كيف وصلنا إلى مرحلة يتضامن فيها بعض أهل الضفة مع غزة أثناء العدوان الهمجي الأخير بإشعال الشموع! وكيف أوصلنا تجريف سلطة أوسلو للمجتمع والثقافة الفلسطينيين في الضفة الغربية لدفع أهل القدس للمناشدة «يا ضفة يلا، منشان الله»! ربما تكون فكرة «القابلية للاستعمار» عند الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي (والاستدمار عند بلقاسم والاستحمار عند علي شريعتي) التي تربط جدلياً بين التعفن الداخلي والاستعمار الخارجي تفسيراً لآلية إخضاع المستعمَر.

والعبقري فرانز فانون، الذي قدس البندقية التي صَدَقَتْهُ فأطاحت بعد رحيله بالإمبراطورية الفرنسية في الجزائر، أيضاً انتبه لهذه الظاهرة. لم تفته الكتابة عمّا سماه «جراثيم الاستعمار» التي تركها في جثث الامم التي تزعم الاستقلال. هل يمكن حقاً تصورالحرية الحقيقية والاستقلال الحقيقي من دون استئصال تلك الـ«جراثيم» التي زرعها الاستعمار عميقاً في جسد هذه الأمة (موضوع للمستقبل القريب).

 

فلسفة العنكبوت: «الروح هنا تهزم الروح هناك»

إذاً، كانت أودري لورد، لاحقاً، محقة حين جادلت أن «التغيير الثوري الحقيقي ليس في التركيز على الأوضاع القمعية التي نسعى إلى الهروب منها، ولكن في التخلص من تلك القطعة من الظالم التي غُرِسَتْ في أعماق كل واحد منا والتي لا تعرف إلا تكتيكات المضطهِد وعلاقات الاضطهاد» («العمر، العرق، الطبقة، الجنس»، ص: 115). لكن الشاعرة الثائرة، مثل بن نبي وبلقاسم وغيرهما، نسيت أن تُحدثنا عن أية آلية كفيلة بـ«اقتلاع تلك القطعة من الظالم» من داخلنا. وفيما يمكننا اعتماد مفهوم فانون عن «جراثيم الاستعمار» والتخلص منها بآلية تشبه الخضوع لعملية جراحية (رغم أن فانون، الطبيب، قصد بالجرثومة تلك الطبقة القذرة، وثقافتها، التي يتركهما الاستعمار خلفه ليقوما بعمله القذر نيابة عنه) إلا أن المساهمة الفذة للسيد حسن نصرالله في خطاب التحرير في أيار عام ٢٠٠٠ وفي خطاب ١٤ تموز ٢٠٠٦ ربما تكون المساهمة الأهم والأكثر عبقرية في التعبير عن، وإدراك، جدل الممارسة والوعي. فحين أطلق السيد المفهوم الفذ، «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، كان يستثمر تاريخاً طويلاً من المقاومة والانتصارات الفعلية إضافة إلى تضحيات هائلة ليس لإعادة تشكيل وعي العربي عن نفسه وعن الكيان الصهيوني العدو، بل وكذلك كيّ الوعي الصهيوني وإجباره على إعادة تعريفه لنفسه وللعرب. من فهم الفكرة في أيار ٢٠٠٠ لم يكن يخشى على المقاومة في تموز ٢٠٠٦ مطلقاً. فيمكن المقاومة دائماً وبطرق شتى الحصول على الصواريخ، لكن لا يمكنها الانتصار بمقاوم يحمل «قطعة من المستعمِر في داخله». في عبارة واحدة سحق السيد نصرالله تلك القطعة من الكيان في داخل كل عربي لم تدفعه انحيازات سخيفة من تعطيل عقله.

والسيد نصرالله لم يكتف بتلك العبارة الفذة، بل أجمل لاحقاً كل معنى حرب تموز ٢٠٠٦ في كلمته في افتتاح المجالس العاشورائية في ٢١ كانون الثاني ٢٠٠٧ بعبقرية: «إن أهم ما في حرب تموز أن الروح هنا هزمت الروح هناك». الحرب كانت وستبقى على الروح والوعي والإرادة أولاً وأخيراً وعليهم أيضاً وفي سبيلهم يجب أن تكون حرب المقاومة. ففي حرب تموز، رأينا السيد يقتحم الوعي العربي والصهيوني مرة أخرى ببراعة ووعي يذكران فقط بأكثر فلاسفة الثورات العظيمة حنكة.

هل تذكرون «انظروا إليها تحترق». نعم، ربما تكون هذه العبارة هي الأكثر استذكاراً عند أغلب الناس من كلمة السيد نصرالله في ١٤ تموز ٢٠٠٦. فضخامة وأهمية الحدث المفاجئ حينها، احراق البارجة «ساعر»، جعلته أحد أهم الأحداث في الحرب. لكن السيد يومها، وفي نهاية كلمته تلك، أبلغ العالم بحقيقة رأيناها ساطعة في تموز ٢٠٠٦ في لبنان. «أنتم لا تعرفون اليوم من تقاتلون»، قال للصهاينة قبل أن يتجرعوا الهزيمة المُرّة حينها. بعدها بثماني سنوات ومن غزة المدهشة هذه المرة، وفي تموز ٢٠١٤، بدا ما قاله السيد حينها أكثر من نبوءة، وبدا في كلمته تلك وبحق كـ«غزال بشّر بزلزال». هم لا يعرفون اليوم من يقاتلون ولن يعرفوا. شهادات «جنود النخبة» الصهاينة والتقارير القليلة التي تسربت من الميدان من غزة عن التحام المقاومين بجنود النخبة والتي يعمل العدو بقوة على إخفائها تشي بهذه الحقيقة: نحن أمام طراز جديد وفذ من المقاومين وحين تكتب قصة بعض ما حدث في الشجاعية وخزاعة سيشيب رأس من يقرأها. ثم جاء الدور على إبداع استشهاديي السيارات والسكاكين ليؤكد الحقيقة ذاتها. هم لا يعرفون اليوم من يقاتلون. فهؤلاء المقاومون الرائعون انتزعوا من داخلهم تلك القطعة التي زرعها المستعمر في داخلنا، ولهذا انتصروا.

 

عدالة الغزاة

العدالة لا تهبط حيث يسكن الفقراء» و«لا تتحدث لغتهم». هذا ما كتبه شاعر المايا الفذ «أمبرتو أكابال» عن عدالة الغزاة، المستوطنين البيض، التي لم يعرفها شعبه إلا على شكل الإبادة والتطهير العرقي والعنصرية فقط. وهذا كان حال كل شعوب الجنوب التي استعمرها أهل أوروبا البيض، فـ«أجيال متلاحقة مما يسمى «الحضارة الغربية» لم تجلب لنا سوى كل شيء قذر»، كما قال شهيد الهند الأعظم أودهام سينغ في مرافعته العبقرية أمام محكمة الرجل الأبيض. هذه «حضارة منحطة»، كما قال إيميه سيزير في «خطاب عن الاستعمار». فهي لم ترَ في هتلر النازي شيطاناً ومجرماً لما فعله، بل، لأنه ـ وفقط لأنه ـ ارتكب جرائمه في اوروبا وضد الرجل الأبيض هذه المرة، وفقط لأنه «طبق على اوروبا الاستعمارية وعلى أهلها الإجراءات التي كانت إلى ذلك الحين محفوظة حصرياً لعرب الجزائر، «كوليو» الهند، و«عبيد» أفريقيا». كان هتلر مجرماً رغم أنه لم يفعل إلا ما فعله من تقدسهم اوروبا وأميركا من مجرمين وتعتبرهم أبطالاً بحق شعوب الجنوب. هذه هي «الحضارة المنحطة» التي تبنت المشروع الصهيوني ودعمته ولا تزال تفعل وستبقى. هي «الحضارة» المنحطة ذاتها التي أعطت العالم هتلر وجورج بوش وتوني بلير وشارون ونتنياهو وباراك وبيريز وغيرهم من القتلة.

وفي فلسطين يكفي أن تقرأ عنواني آخر تقريرين صدرا عن «منظمة العفو الدولية» لتعرف شيئاً عن عدالة «شعب الله المختار». التقرير الأخير، عن العدوان الهمجي الأخير على غزة، «عائلات تحت الأنقاض»، والتقرير الذي سبقه عن الضفة الغربية، «اليد الخفيفة على الزناد: الاستخدام الإسرائيلي المفرط للقوة في الضفة الغربية»، هما شهادتان على همجية الغزاة الصهاينة.

لهذا، يجدر القول إن أكابال، الشاعر الذي يصر على الكتابة بلغة شعبه الأصلية، والمفرط في إنسانيته، نسي أن يوصي المستضعفين بأن يأخذوا العدالة بأيديهم. هكذا فعل شهيد القدس الفذ معتز حجازي حين صرخ في وجه ذلك الصهيوني القذر، يهودا غليك، «لقد أغضبتني» وأطلق عليه النار تنفيذاً لعدالة المعذبين في القدس. فهناك، في القدس، يُجبر الفلسطينيون على هدم بيوتهم بأيديهم في ممارسة للقهر والاستبداد لم يعرفها أي استعمار سابق على الإطلاق. وهكذا، أيضاً، فعل البطل حمدي قرعان حين نادى على المجرم رحبعام زئيفي بالاسم ونظر في عينيه قبل أن يطلق عليه النار ويرديه، كما يستحق كل فاشي، انتقاماً لاستشهاد أبو علي مصطفى. والثأر لأبو علي مصطفى لم يكن ثأراً غريزياً ولا حباً بالعنف. بل تكتيك يجب أن يصبح ممارسة دائمة يتبناها كل فصيل مقاوم لردع العدو. هكذا فقط يتوقف العنف، لمن لا يحب العنف ويريد له أن يتوقف. وهكذا فعل أيضاً اودهام سينغ، من عرف لاحقاً بشهيد الهند الأعظم، حين أطلق النار على المجرم الإنكليزي «مايكل اودوير» المسؤول عن مجزرة «جاليانولا باغ» ضد أهله في الهند. وسينغ لم يثأر لضحايا المجزرة لأنه يحب العنف والانتقام، بل لأنه رأى في المجزرة «محاولة لسحق روح شعبه»، وأيضاً لأنه أراد أن يفتح بعمله البطولي حساباً مع المستعمر لا يجب أن يغلق قبل أن تتحقق بعض العدالة للضحايا. «فهؤلاء الأموات، المعذبون، والمعدومون لا يمكن لأي إعادة تأهيل بعد وفاتهم، ولا لأي جنازات وطنية، ولا لأي خطب رسمية أن تتغلب على معاناتهم. فهم ليسوا أشباحاً يمكن كنسها بعبارة ميكانيكية»، كما قال إيميه سيزير في رسالته الشهيرة لموريس توريز.

ليس أمام الفقراء والمظلومين والمستعمَرين إلا أن يأخذوا العدالة بأيديهم. عليهم أن يأخذوا العدالة بأيديهم، فمن العار أن يفلت هؤلاء القتلة بجرائمهم من دون حساب. لا أعرف كيف لم يشعر كل عربي بالعار الشديد حين مات المجرم شارون في فراشه، وكيف نام أي عربي ليلته تلك من دون أن يؤنبه في نومه ويعنفه في صحوه كل ضحايا المجازر من قبية وكفر قاسم ودير ياسين والطنطورة وصبرا وشاتيلا حتى مجازر قانا والخليل وجنين.

والانتقام من هؤلاء القتلة ليس مجرد تكتيك له وظيفة ردعية فقط، بل هو ممارسة تصب في النهاية في تحقيق الهدف النهائي للعنف الثوري ـ ربما كان صن تسو، صاحب فنون الحرب، وفرانز فانون منظر العنف الثوري الأهم، سيعتبرانه تكتيكاً مهماً في أقل الأحوال، إن لم يكن ضرورة لتحقيق الهدف الاستراتيجي. فالآثار النفسية والاجتماعية للانتقام الثوري من المستعمرين القتلة تمكن ملاحظتها بسهولة في جولة صغيرة وسريعة على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أية عملية مقاومة. جولة صغيرة وسترى كيف يحيي الانتقام من هؤلاء القتلة روح الشعب.

 

من عدالة الفقراء: عن يامن وأمجد

هكذا روت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعضاً من قصة الشهيدين يامن فرج وأمجد مليطات: في الثامن عشر من كانون أول ٢٠٠٣، داهمت القوات الصهيونية مدينة نابلس بأكثر من سبعين عربة عسكرية واغتالت القائدين جبريل عواد وفادي حنيني من كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، والشهيد «مجدي البحش» من كتائب القسام. حين وصل الخبر ليامن فرج وأمجد مليطات، القائد العام لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى ونائبه، أغلقا هواتفهما النقالة لخمسة أيام. في اليوم السادس، هاتفا رفاقهما: «انتطرونا غداً». وفي اليوم السابع، وفي أوج ساعة الذروة في أكثر مواقف الحافلات ازدحاماً في الكيان الصهيوني (على مفترق طرق قرب «بتاح تيكفا» شمال شرق تل أبيب) كان الشهيد سائد حنني واقفاً هناك مزنراً بحزام ناسف. وحين قدّر أن الوقت المناسب قد حان، فجر الحزام وفجر جسده فأحال قسماً من الموقف لكتلة معدنية مشتعلة وقتل أربعة من الصهاينة وجرح أكثر من خمسة عشر آخرين.

بعدها بسبعة أشهر، في السادس من تموز ٢٠٠٤، حاصرت أرتال من العربات والجنود البيت الذي تحصن فيه يامن وأمجد. لم يكن مع الشهيدين حينها إلا مسدسين وثلاث قنابل فقط. ألقوا القنبلة الاولى على وحدة المستعربين المتقدمة فقتلوا قائدها على الفور. خانتهم القنبلة الثانية ولم تنفجر، لكن القنبلة الثالثة تفجرت كما أرادا لها فقتلت جندياً آخر. وحين هرب من هم حول الجندي القتيل من الجنود على إثر الانفجار انقض يامن وأمجد عليه وخطفا بندقيته وراجمة صورايخ كانت في المكان. اشتعلت المعركة من جديد وشاركت بها الطائرات أيضاً هذه المرة. استمرت المواجهة لأكثر من أربع ساعات انتهت بتدمير المنزل كلياً واستشهادهما. من شاهد جثتيهما في أعقاب المواجهة أكد أن كل الرصاصات أصابتهما في الصدر. ولا رصاصة واحدة في الظهر. فيامن وأمجد اللذان رفضا دعوات الاستسلام والنجاة من الموت لم يحاولا الهرب أيضاً والنجاة.

سمعنا وقرأنا كثيراً عن معركتهما الأخيرة. بعض رفاقهما يؤكدون أنه كان بإمكانهما الاستسلام، وحتى الهرب والنجاة، لكنهما أختارا طريقاً أخرى جعلتهما نموذجاً نحتاجه كثيراً في حبكة روايتنا لتعني شيئاً لمن بعدههما: ذلك البطل الذي يقاوم حتى النهاية برغم النتيجة المعروفة سابقاً ليصبح بُشرى لنصر يعرف أنه لن يراه. ربما لهذا السبب يسمى أمثال يامن وأمجد «الأبطال المجردون»، من يقاتلون ويقدمون على الموت في زمن ليس فيه للانتصار أي أمل، لكن استشهادهم هو ما يعطي معنى وتناسقاً داخلياً لسردية شعبهم ويبشر بالمستقبل الجميل الذي حلموا به ويؤسسون بدمهم مساراً لهذا المستقبل. مع يامن وأمجد وأمثالهما لا نحتاج في فلسطين الى أية رؤية رومانسية ثورية تحلم بتحقيق المستحيل لنقنع انفسنا بحتمية انتصارنا، فلدينا من سحر واقع البطولة ما يكفي ويزيد. لا تكترثوا لما يفعله نخاسو الوطن، فالدم الذي استثمر في فلسطين ولأجلها كفيل بأن يعيد «الوجود لدورته الدائرة».

 

خاتمة: معتز حجازي شكراً

«أراد أن يسحق روح شعبي فكان عليّ أن أسحقه». هذا ما قاله أودهام سنغ شهيد الهند الأعظم في واحدة من أعظم المرافعات أمام المحاكم الاستعمارية على الإطلاق قبل أن يحكم عليه القاضي بالإعدام شنقاً ويأمر الصحافة بألا تنشر المرافعة الفذة التي انتظرت طويلاً حتى تخرجها الأرشيفات أخيراً للنور. فالمجرم مايكل اودوير، نائب حاكم ولاية البنجاب أثناء الاستعمار الإنكليزي للهند، كان المسؤول عن مجزرة «جاليانولا باغ» التي راح ضحيتها أكثر من ١٥٠٠ هندي وكان على وشك أن ينهي حياته في فراشه بعد أن يستمتع بتقاعد طويل من العمل في خدمة الإمبراطورية الإنكليزية. تقرأ مرافعة شهيد الهند الأعظم فيصيبك الخجل كعربي، وحتى العار، أن يموت شارون وغيره من المجرمين الصهاينة في فراشهم. لكن لا يسعنا إلا أن نربي الأمل. فسنغ» انتظر الفرصة لينتقم لضحايا شعبه أكثر من عشرين عاماً وكان مصراً على ألا يموت اودوير في فراشه فيلحق العار بأهل الهند.

معتز حجازي... أنقذتنا من العار، حميت روحنا من الانكسار، شكراً يا بطل.. سَبَّلْ عينيك.

 

المصدر: الأخبار

آخر تعديل على الخميس, 20 تشرين2/نوفمبر 2014 14:02