حول البيان الختامي للقاء اليساري العربي الخامس: إشكالات ونواقص.. وأشياء أخرى!

حول البيان الختامي للقاء اليساري العربي الخامس: إشكالات ونواقص.. وأشياء أخرى!

 

انعقد اللقاء اليساري العربي الخامس في مدينة الرباط المغربية، يومي 20- 21 من شهر فبراير 2015، وكان من المقرر أن يشارك فيه ممثلون عن قيادة حزب الإرادة الشعبية، غير أن صعوبات "لوجستية" تتعلق بسمات الدخول أعاقت ذلك في الساعات الأخيرة. وعلى كل الأحوال صدر عن هذا اللقاء بيان ختامي حمل في طياته العديد من النقاط الإشكالية والتناقضات والنواقص التي تستوجب الوقوف عند أبرزها، بهدف تفعيل النقاش داخل الحركة اليسارية والوطنية العربية للتعاطي مع الوقائع والتطورات والتحديات من منظور علمي، جوهري وحقيقي.

أحد أبرز معالم التحولات التي بدأت تظهر في العالم على امتداد عقد فائت تقريباً، وفي منطقتنا منذ 5 أعوام على الأقل، هو أن فرزاً نشأ وما يزال جارياً في الحركة السياسية عموماً، والتي يشكل اليسار جزءاً منها بطبيعة الحال. يقوم هذا الفرز على أساس الدور الوظيفي الذي تلعبه الحركة السياسية، ومنها اليسار، من حيث تمثيل قواعدها الاجتماعية ببرامج حقيقية، وامتلاكها الإمكانية العملية في السعي لتنفيذ تلك البرامج. وفي هذا الإطار، فإنه من الضروري إجراء قراءة نقدية لخطاب قوى اليسار العربي- والذي يشكل البيان الختامي للقاء اليساري العربي الخامس إحدى محطاته- الأمر الذي من شأنه أن يوضح الحدود بين اليسار الفعلي، القادر على أداء دوره الوظيفي، والذي يحمل الموقف الطبقي والوطني والفكري المميز لليسار، وبين اليسار الذي لا يحمل من اليسار سوى أسمه..

إشكالات أساسية
من الإشكالات الأساسية في البيان المذكور، أنه لا يقدم أية قراءة أو حتى إشارة لسمة المرحلة الراهنة، والتي بات حتى غير اليساريين يعلم بأنها تتمثل بتراجع قطب الإمبريالية بفعل أزمة الرأسمالية العالمية في مقابل تقدم قطب الشعوب موضوعياً وبأشكال متعددة. هذا الإشكال يحكم على معظم ما ورد لاحقاً في متن البيان بالخلل في الرؤية والقصور عن تقديم فهم موضوعي وعميق لواقع البلدان العربية كما سنرى لاحقاً. 
يحدد البيان طبيعة الصراع في المنطقة العربية بـ«إرادة التحرر والانعتاق والدفاع عن حق شعوب المنطقة في الحرية والديمقراطية والاستفادة من ثرواتها وتدبير شؤونها»..!. فهل هذه هي طبيعة الصراع التي يحدده اليسار؟!. ففضلاً عن غياب أية إشارة طبقية تميّز اليسار عن بقية القوى السياسية، وتظهر تطلعه نحو توزيع عادل للثروة والقضاء على النهب الرأسمالي للشعوب، فإن الكلمات المذكورة بما تحمله من بتر وعمومية وتجريد تحمل بعداً يثير الالتباس، حيث تبدو هذه الصياغة أقرب إلى الصياغات الليبرالية التي تحاذر الاقتراب من المسألة الطبقية، فتلجأ إلى تضخيم شعارات «الحرية والديمقراطية» لدرجة ابتلاعها الشعار الطبقي. والتعامل معه على أنها خارج الثلاثية المترابطة ديالكتيكياً: الطبقي- الوطني- الديمقراطي، التي لا تنفصل إحداها عن الأخرى. وكان حرياً بالبيان أن يضع الشعارات بمكانها الصحيح موضوعياً وعلى أساس التناقض الطبقي جوهر برنامج اليسار، كيلا تكون مجرد شعارات براقة.
ماذا عن المقاومة؟
في إشكال آخر، لا يرد أي ذكر لمقاومة الكيان الصهيوني، في فلسطين ولبنان والجولان السوري المحتل، سواء من حيث دعمها أو تأييدها، أو الإشارة إلى أنها حق لشعوب هذه البلدان. فلماذا أغفل البيان هذه النقطة التي تمثل موقع اليسار الطبيعي في دوره الوطني والتاريخي !. وفي المقابل نجد أن البيان نحت مصطلحاً فريداً وجديداً على أدب اليسار وهو «الصراع العربي الفلسطيني- الإسرائيلي» بدلاً من «الصراع العربي- الصهيوني» والذي كان قد صِيغ بهذا النحو كي يؤكّد على أن النضال ضد الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية في فلسطين ولبنان وسورية هو قضية الشعب العربي بأسره، وأن الحق في مقاومة ذلك الاحتلال لا ينحصر في شعب بعينه وأن «إسرائيل» عدواً بنيوياً لكل الشعوب العربية وشعوب المنطقة، حتى تلك التي لا تحتل «إسرائيل» أرضها. فهل يضع الاصطلاح «الجديد» مهمة النضال ضد الكيان الصهيوني في عهدة الشعب الفلسطيني وحده؟!..
تونس المغرب مصر.. ثورات؟!
يحيي البيان «المسار الإيجابي لكل من تجربتي الشعبين المغربي والتونسي، باعتماد اليسار، على اختلاف توجهاته، طريق التغيير الديمقراطي». وفي هذا الإطار «يثمن اللقاء دور اليسار والقوى الديمقراطية في مسار التحولات المجتمعية في المغرب وتونس». وفي مقطعٍ آخر من البيان، ترد صيغة أوضح للمضمون ذاته، إذ يؤكد البيان: «تضامنه مع نضال الشعب المصري وقواه الوطنية والديمقراطية من أجل تجذير مكاسب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، ومواجهة الثورة المضادة».
الإشكالية الأساسية في هذه النصوص أنها تتعامل مع ما جرى في المغرب وتونس ومصر على أنها ثورات منجزة، فماذا يعني القول «تجذير المكاسب» لثورتي مصر، فقط، دون استكمال الإشارة إلى أن مهاماً وطنية واقتصادية- اجتماعية جسيمة ما تزال تنتصب أمام الشعب المصري وجيشه، وعلى رأسها إلغاء اتفاقية «كامب ديفيد»؟! وماذا يعني الاكتفاء بالإشارة لقوى الثورة المضادة والنشاط التخريبي للجماعات الإرهابية، في مصر؟. هل يعني ذلك أن إزاحة الإخوان هي المكتسب النهائي للشعب المصري (وهي بلا شك مكتسب) وهل الأمر كذلك بالنسبة لتونس؟ وماذا عن مغرب النظام-حكومة بنكيران؟ ما هي الإشارات إلى أن «تحولات اجتماعية» قد حصلت في البلدين الأخيرين. فمن المعلوم أن توزيع الثروة غير العادل لم يتغير فيها، وأن تحولات كبرى في السياسات الخارجية بالاتجاه الوطني لم تجرِ..!.
من نافل القول هنا أن هناك خلطاً يجري مجدداً بين مفهوم الحركة الشعبية، بوصفها دخول الملايين من الجماهير في درجة عالية من النشاط السياسي، وبين مفهوم الثورة، الذي من المعروف بالنسبة لكل يساري أنه عملية تغيير النظام السياسي والاقتصادي الاجتماعي الذي تنجزه الحركة الشعبية بعد بلوغ درجة معينة من تطورها وتنظيمها.
انتقائية في اليمن وتسرع في اليونان
في الإطار ذاته، يدعو البيان إلى حسم الصراع سلمياً في اليمن عن طريق الحوار، وهذا أمر إيجابي، ولكنه يشير بنحو انتقائي إلى رفض «استيلاء مليشيات مسلّحة على السلطة في اليمن» في إشارة واضحة إلى تحركات الحوثيين. وهنا يصبح السؤال التالي مشروعاً: ضمن أي اصطفاف تأتي هذه الإشارة؟ لاسيما وأنه لا توجد إشارة مماثلة للقوى المرتبطة بدول الخليج التي تقاوم عملية تغيير النظام، والتي بعضها مليشيات مسلّحة أيضاً، ولا حتى إلى القاعدة!..
ومن الثغرات أيضاً، الموقف المتسرّع لبيان اللقاء اليساري العربي الخامس في الإشادة بانتصار اليسار اليوناني، «والتطلع لنجاحات مماثلة»، في وقت ليس من المعروف بعد مآل وجذرية الدور الذي سيطلع به حزب «سيريزا» اليوناني في فرضية تصديه للأزمات التي تعانيها اليونان، وطبيعة ومستقبل التحالفات التي يعقدها مع اليمين اليوناني حالياً وفي المرحلة المقبلة، من انعكاسات الأزمة الرأسمالية العالمية على الداخل الأوربي والتي تشهد تقلبات كبرى قد يكون انفراط عقد الاتحاد الأوربي ذاته أحد تجلياتها. في هذه النقطة أيضاً يظهر أن المعيار في تحديد اليسار هو أسمي ولا يستند إلى استكمال الموقف بعد من الممارسة الطبقية والوطنية والديمقراطية.
إن درجة النشاط السياسي العالي، بأشكال ومستويات مختلفة، التي تعيشها منطقتنا وشعوبها تنتظر من أحزاب اليسار العربي تقديم برامج عمل وطنية وطبقية متكاملة وجذرية ومتجانسة بالشكل والمضمون، سياسياً واقتصادياً اجتماعياً وديمقراطياً، بما يتجاوز مسألة حصر الديمقراطية بصناديق الاقتراع "الحرة والنزيهة بوصفها الطريق الأمثل لحسم الصراع السياسي ولممارسة السلطة"، فهذا شكل مطلوب ولكن السؤال الأهم هو أنه شكل لأي مضمون، وضمن أية متطلبات، ولمصلحة أية شرائح اجتماعية؟