متاجرة سياسية بأزمة لاجئي المتوسط!
وسيم إبراهيم وسيم إبراهيم

متاجرة سياسية بأزمة لاجئي المتوسط!

مراقب محايد للقمة الأوروبية الطارئة، حول مآسي البحر المتوسط، يمكنه أن يردد جملة واحدة: «إنظر إلى أوروبا كي تسقط في امتحان أخلاقي».

بدل أن تكون قمة لإنقاذ أرواح من ألقى بهم اليأس في البحر، صارت قمة لتصفية الحسابات السياسة ودعاية انتخابية تتاجر بأزمة انسانية.
دقيقة الصمت التي قضوها حدادا على آلاف الغرقى، قابلتها دقائق من الصمت خوفا من الإجابة على الأسئلة المحرجة.
قادة الدول الأوروبية جعلوا أولويتهم مكافحة موجات اللجوء، وفي هذا السياق، جاء تشديدهم على ضرورة التحرك العسكري لتدمير شبكات التهريب. آخر شيء أرادوه هو حماية الأرواح. أحدهم قال، من دون أدنى حرج، إنه مستعد لفعل كل شيء إلا استقبال اللاجئين على أراضي دولته. هذه النقطة جاءت لتضيف مزيداً من السقوط الأخلاقي، بعدما صارت محطة خلاف: حتى لو أنقذنا اللاجئين، ويمكننا فعل ذلك، فإنّ المشكلة أين سنضعهم؟ ربما الأفضل أن يستمروا في الغرق، وفقا لأصحاب هذا المنطق.
عملياً، لم يفعل الزعماء الأوروبيون سوى إعادة صياغة خطة تحرك النقاط العشر، التي أعلنها وزراء داخليتهم وخارجيتهم قبل أيام. أبرز ما فيها تكرار العزم على إطلاق عملية عسكرية قبالة سواحل ليبيا، لتدمير كل ما يستخدمه المهربون من قوارب وسفن. هذه العملية ستستلزم مضاعفة موارد وكالة الرقابة الحدودية «فرونتكس»، كي يمكنها توسيع مهام عمليتها في المتوسط «ترايتون»، وتحتاج الى مساهمة عسكرية معتبرة، من أسلحة ومعدات، تقدمها الجيوش الاوروبية وأساطيلها البحرية.
حينما سألت «السفير» وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فدريكا موغريني عن تهديدات ميليشيات طرابلس باستهداف أي تحرك عسكري أوروبي إن لم يكن بالتنسيق معها، كان جوابها معبرا. سمعت السؤال إلى نهايته، ثم صمتت تماما، وغادرت من دون أن تقول كلمة واحدة.
بعض الزعماء، ممن دولهم الأكثر تعرضا لأزمة اللجوء، أكدوا أن لا غنى عن العمل العسكري مهما كانت مخاطره. سألت «السفير» رئيس وزراء مالطا جوزف موسكات عن المخاطر، وإمكانية ردّ الميليشيات الليبية، فقال بلهجة قاطعة إن «المخاطر ستكون أكبر إذا لم يتم القيام بشيء في نهاية المطاف».
لكن مصادر ديبلوماسية أوروبية تحدثت الى «السفير» عن الصورة الإجمالية لمعالجة هذا التحدي. في البداية تؤكد المصادر على أن «لا تراجع عن إطلاق مهمة عسكرية ضد المهربين»، موضحة أن «تهديدات ميليشيات سخيفة، تريد أن تبتزنا لتحصل على الاعتراف، لن توقف خطوة قررها أعلى مستوى في السياسة الأوروبية».
لتلافي أي إحراج، سيحاول الأوروبيون الضغط بأقصى ما يمكن على الأطراف الليبية للوصول إلى اتفاق سياسي. هذا الاتفاق يمكنه تسهيل إطلاق العملية العسكرية، لكونها تحتاج تفويضا لتشريعها، إما بطلب من السلطة الشرعية في ليبيا، أو عبر قرار من مجلس الأمن ليس مضمونا بسبب التردد والحذر الروسي.
ولذلك، تقول المصادر إن الاتحاد الأوروبي «يمارس الآن ضغوطا هائلة على الأطراف الليبية. نريدهم أن يصلوا إلى اتفاق في المغرب، ليس خلال الأسابيع المقبلة، بل خلال الأيام المقبلة إن أمكن».
مع ذلك، قالت مصادر أخرى إن الأمر لم يحسم بعد بسبب محاذيره وتردد بعض الدول، لكنه لا يزال يراوح في سياق أزمة «ربما كبيرة».
غير أن المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل أعلنت بأن الأيام المقبلة ستكون حاسمة. قالت حينما وصلت إلى القمة أن نقاشاتها هي استكمال لما بدأه وزراء الداخلية والخارجية، لكن «خطة العمل ستأتي خلال أيام»، لتكون أكثر تفصيلا حول الخيارات العملية الممكنة.
لكن المستشارة الالمانية وضعت يدها على جوهر الأزمة الحالية، حتى لو من باب التصريح بأضعف الايمان وليس فعله. قالت إن أزمة موجات اللجوء ومآسيها والرد عليها وضعت «على المحك (قضية) القبول بالاتحاد الأوروبي وقيمه على امتداد العالم، فهذا الموضوع ذو أهمية قصوى».
لكن ما الذي لدى رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون ليقوله في هذا المحك؟
لم يمكنه قول أسوأ مما قال. الرجل على كل حال على مشارف انتخابات مصيرية له، في 7 أيار المقبل، واختار استغلال القمة لدعاية انتخابية مهما كان ثمنها الأخلاقي.
ذكّر بأن بلده لديها أكبر ميزانية دفاع أوروبية، مشددا على أنه مستعد لأن يرسل إلى المتوسط إحدى أهم بوارج الاسطول البحري الملكي («المتراس اش ام اس»)، مع مروحيات وسفن دوريات. كاميرون مستعد لذلك «لإنقاذ الأرواح»، لكن لديه شرطاً حاسماً: أن «يتم إرسال الناس الذين نلتقطهم (ننقذهم) إلى أقرب بلد، والمرجح أنه إيطاليا، على ألا يكون لديهم الملاذ التلقائي لطلب اللجوء في بريطانيا».
إيطاليا هي أبعد ما يكون عن القبول بهذا الشرط، وهي التي تشكو أصلا من تحملها عبئا قدَرياً لاستقبال آلاف اللاجئين. لكن كاميرون بحاجة لهذا الاعلان، حتى لو كان متأكدا أن شروطه غير واردة أصلا. الحملة الانتخابية على أشدها، لدرجة أن نايجل فاراج، زعيم الحزب المعادي للمهاجرين («حزب الاستقلال») أعلن أنه مستعد لإرسال الاسطول البريطاني من أجل تنفيذ علميات البحث والانقاذ.
على المنوال ذاته، استثمر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الأزمة الانسانية ليحاول كسب نقاط من غريمه نيكولا ساركوزي. اعتبر أن لا شيء سينفع لحل أزمة اللجوء. لا استخدام القوة، ولا زيادة المصادر للبحث والانقاذ، بل ستكون «الفوضى هي السائدة» طالما بقيت «المشكلة الرهيبة لبلد غير محكوم». قال ملمحا لسياسة ساركوزي إنه «حان الوقت لإصلاح أخطاء الأمس»، متسائلا: «بعد ثلاث سنوات ونصف من التدخل العسكري (في ليبيا) كيف يمكن القول إنه ليست هنالك حتى الآن إجابة على ما يجب أن تكونه الخطوة التالية».
برغم كل هذه التشابكات، فإنّ بعض القادة الأوروبيين بدوا متفائلين بإمكانية الوصول إلى قرارات حازمة تحت ضغط أزمة انسانية ليست هناك مؤشرات على تراجعها. هكذا قال رئيس وزراء ايرلندا أيندا كيني، ردا على سؤال لـ «السفير»، إن «القضية هنا هي حماية الناس الأبرياء الذين يفرون من ويلات الحرب»، قبل أن يضيف أن المهمة تبقى في عهدة «السياسة والقيادة السياسية التي تدور حول ابتكار حلول لهذه المشكلات».
غير ذلك، كرس زعماء دول التكتل الأوروبي الخطوط العريضة المعروفة: العمل مع دول الطرف الثالث، دول عبور اللاجئين، لتمكينها من المساهمة في إيقاف موجات العبور إلى أوروبا. المقصود تحديدا دول مثل تونس ومصر والنيجر، التي يعمل الأوروبيون فيها على مشروع تجريبي لإقامة معسكر تجميع للاجئين. بالإضافة الى ذلك، هناك مشروع تجريبي آخر، هدفه «تقاسم الأعباء»، عبر محاولة توزيع خمسة آلاف لاجئ على الدول الأوروبية.
كل هذه الخطط لا تلقى قبولا من قيادات سياسية عارفة بدقائق هذه القضايا، بعدما صارت في موقع يمكنها من الحديث بحرية عنها. رئيس وزراء بلجيكا السابق غي فيرهوفستات، وهو الآن رئيس كتلة الليبراليين في البرلمان الأوروبي، قال في حديث الى «السفير» إن كل محاور التحرك جيدة لكنها «لا تحل المشكلة»، مضيئاً على ما يراه نواقص مستحكمة. وأوضح أنه «يجب تمكين اللاجئين من طلب اللجوء في سفارات وقنصليات الدول الأوروبية، فلماذا لا نفعل ذلك؟ ولماذا لا نستصدر تأشيرة إنسانية في وقت الأزمات؟».
النواقص برأيه جلية أيضا من ناحية الامكانات العملية. يقول عن ذلك: «ليست لدينا وكالة أوروبية لحماية الحدود، فوكالة (فرونتكس) صغيرة وتعتمد على مساهمات تبرعية من الدول الاعضاء. هذا جنون تماما، لأنه اذا كان لديك حدود فحمايتها التزام مشترك»، قبل أن يضيف إن «ما تملكه الوكالة ربما جيد للتعامل مع ساحل بلجيكا، وهو ليس أكثر من 80 كيلومتراً، لكن ليس بالتأكيد لعمليات في المتوسط، لأنها غير قادرة على ذلك حتى لو تمت مضاعفة إمكاناتها عشر مرات وليس مرتين».

المصدر: جريدة السفير