مياه الصّرف الصحي لريّ المزروعات: التلوث يقطع «نسل» التربة السورية
مودة بحاح مودة بحاح

مياه الصّرف الصحي لريّ المزروعات: التلوث يقطع «نسل» التربة السورية

لم تكتف الحرب بالدمار على سطح الأرض، بل امتدت لتشمل التربة الزراعية، وأعماق الأرض. وأعاد شيوع حالات الإصابة بمرض التهاب الكبد، أخيراً، مسألة ريّ المزروعات بمياه الصّرف الصحي إلى الواجهة، خاصّة بعدما توقّفت محطات المعالجة عن العمل

رغم كثرة الأصوات المحذرة من أن التربة السوريّة لن تبقى كما كانت، قبل الأزمة، وأنّ عمر الأراضي الزراعية سيتغير، لكثرة ما تشربت هذه الأراضي من مواد سامّة مختلفة، فإنّ الخضر والفاكهة لم تنقطع عن السوق المحليّة طوال سنوات الحرب، ما يعني أنّ صحّة الإنسان السوري باتت مهدّدة.

فبحسب خبيرة البيئة والتنوع الحيوي، الدكتورة عروب المصري، فإنّ «نسبة الصّرف الصحّي ضمن مياه السّقي تقارب الـ 50%، إذ إن مياه الصرف الصحي لا تزال تستخدم في الزراعة حتى اليوم الحالي، خاصّة في ظل انعدام الرقابة الحكومية، وخروج الكثير من محطات المعالجة والتحليل عن الخدمة». وتضيف أنّ ما زاد الأمر سوءاً، هو تعرّض العديد من الأرضي، خلال الأزمة، إما للعطش، أو للغرق، نتيجة انعدام نظام توزيع المياه، المعتمد سابقاً، والمعروف باسم «نظام العدّان». ويشير مدير التسويق في وزارة الزراعة، محمد مهند الأصفر، إلى أنّ مياه الصّرف الصحي تحمل أضراراً كثيرة للتربة، «فهذه المياه تحتوي على مواد سامّة وثقيلة يصعب تحللها، مثل الرصاص والزرنيخ وغيرهما، ما يؤثر في ديمومتها. ومن الممكن أن يرتفع تركيز هذه المواد في المزروعات بأرقام تزيد على المسموح به دولياً وطبياً، ما يسبب الكثير من الأمراض الداخلية، بالإضافة إلى اللاشمانيا». إضافة إلى أنّ ذلك يضعف القدرة التسويقية للمحاصيل الزراعية، فالمزروعات المروية بمياه الصرف الصحي، يتغير طعمها وشكلها وصلابتها، «الأمر الذي يضعف كفاءتها التخزينية والتصديرية وبالتالي تتدنّى قيمتها، ولا يمكن مقارنتها مع المنتجات السليمة التي تروى بالمياه العذبة، وهذا بدوره يؤثر في العائد المادّي للمزارع».
المشاكل التي تعاني منها شبكات الصرف الصحي، في بعض المناطق، تؤرق سكان دمشق، وتجعلهم مضطرين إلى غسل الخضر والفاكهة بطرق مختلفة، نظراً إلى المعلومات المؤكدة عن استخدام بعض الفلاحين المياه الملوّثة لريّ المزروعات، الأمر الذي من شأنه التسبب بأمراض شتى، ولا سيّما عند تناول الفرد للخضر الورقية، التي تؤكل طازجة دون طهي، وأبرز دليل على ذلك، حالات الإصابة بالتهاب الكبد.
وفي هذا السياق، يبيّن مصدر في وزارة الزراعة أنّ مزروعات الغوطة هي الأكثر ريّاً بالصرف الصحي، فالمزارعون فيها كانوا يستفيدون من المياه المعالجة في محطة عدرا، وهي مياه صالحة للري ومطابقة للمواصفة، لكنها كانت تتعرّض للتلوّث أثناء طريقها إلى المزارع، حيث إنها تمرّ عبر قنوات مكشوفة، بالإضافة إلى استخدام بعض الفلاحين المياه غير المعالجة الفائضة التي ترسل إلى منطقة العتيبة، ويضاف إلى هذا الأمر الاستخدام الجائر للأسمدة، رغم أن المياه الخارجة من عدرا لا تحتاج إلى الأسمدة، لأنها تضمّ مواد تناسب الزراعة، والسماد يسهم بتلويث مياه الآبار.
الوضع تغير اليوم، فمحطة عدرا لم تعد تعمل، وكذلك الأمر مع محطة النشابية التي كانت مهمتها فحص المياه، إذ أغلقت حالياً، وانتقل موظفوها إلى دمشق.
وبعدما كانت تملك سوريا 18 مركزاً للبحوث الزراعية، تقلّص العدد اليوم، ليقتصر في العديد من المحافظات، على وحدات تتبع لهذه المراكز، كما هو الحال في ريف دمشق، فما زال هناك وحدة سرغايا، وقرحتا، وبيت تيما. ويوضح المهندس مهند الأصفر أن الفلاحين «يلجأون إلى مياه الصرف الصحي في مواسم الجفاف، وعند توقف جريان الأنهار. ويعتمد ذلك على غزارة المياه المتدفقة في شبكات الصرف الصحي، وعلى نسبة الكثافة السكانية»، بينما يستبعد رئيس اتحاد غرف الزراعة، محمد كشتو، اعتماد الفلاحين، هذا العام، على هذه المياه «بسبب غزارة المتساقطات المطرية التي فاقت المعدل، ولأن هذه المياه كانت تستخدم من فلاحي الغوطة، واليوم توقفت المحاصيل الزراعية القادمة من تلك المنطقة».
لا يقتصر الأمر في سوريا، حالياً، على مشكلة الصرف الصحي والتلوث الناتج منه، لأن أراضي الغوطة الأكثر اعتماداً على هذه المياه، خرجت عن الخدمة، والأراضي الأخرى التي كانت تغذي دمشق، وبقية المناطق، في غالبيتها تعاني ويلات الحرب المتنوعة، وأبرزها تسرّب النفط، وتشرّب المواد السامّة. وهنا يؤكد الخبير البيئي، الدكتور أكرم خوري، أن «الاعتداء على خطوط النفط وآباره وتكريره بطرق بدائية، انعكس سلباً على تركيب التربة نفسها وعلى الكائنات الدقيقة فيها، مثل البكتيريا والفطريات، وكذلك على جذور النباتات والحيوانات التي غمرها النفط وهي في جحورها».
ويضاف إلى هذه الانبعاثات، الملوّثات الناتجة من حرائق الغابات والحرائق الناجمة عن استهداف خزانات الوقود في مصفاة حمص، وعمليات إحراق إطارات السيارات، إذ إنّ إحراق طن واحد من الإطارات، يؤدي إلى انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون يقدر بـ 2.45 طن مكافئ CO2.
الحرب اليوم في سوريا لم تدمّر سطح الأرض فقط، بل امتدت إلى تربتها وأعماقها، وقد لا يبقى التراب السوري، بعد الحرب، كما كان عليه قبل الحرب، ولن تكون منتجات سوريا، غداً، كما كانت بالأمس، ولا أحد يستطيع أن يقدّر المدّة الزمنية اللازمة لتتخلّص هذه الأراضي من أمراضها، وتعود كما كانت.

 

المصدر: الأخبار