عن المال السياسي والتحرر والوحدة الوطنية

عن المال السياسي والتحرر والوحدة الوطنية

ليس جديداً على الساحة السياسية الفلسطينية معرفة السلوك المالي للقيادة المتنفذة في منظمة التحرير، وتالياً في سلطة الحكم الإداري الذاتي، وتحكمها بالمال. منابع السيولة المالية من أنظمة النفط والغاز، أفسدت في ظلّ عقلية قيادية فردية تعمل على حشد الولاءات، قناعات وسلوك البشر، ومن ثم، المؤسسة: حزباً أو فصيلاً، بالامتيازات والهبات، بهدف تحقيق أعلى مستوى من الولاء، أو الصمت على كل النهج الخاطئ والضار بقضية التحرر الوطني، وهو ما دفع ببعض «المنظرين» أفراداً مستقلين، أو قادة قوى، إلى تغليف تلك الانحرافات بتبريرات أيديولوجية، عبّر عنها في سبعينيات القرن الماضي، الشاعر المبدع والمتمرد مظفر النواب في إدانته لـ«عرض النظريات الأزياء/ الأشياء».

لهذا، جاءت القرارات الأخيرة بوقف مخصصات الجبهة الشعبية، أولاً ومن ثم الجبهة الديمقراطية، لتفضح بشكل سافر، النهج القيادي: فرداً، وهيئات _ ديكورات شكلية _ في التعامل مع أي نقد يمس الانحراف السياسي والتنظيمي والإداري في الساحة الفلسطينية. وبعيداً عن التحليلات والانتقادات التي سطّرها العديد من الكتاب والمحللين في فهم «العقوبة المالية»، فإن القراءة الوطنية النقدية لمثل هذا السلوك/ النهج يجب أن لا تتوقف عند ملامسة الإجراء ونقده، بل الانتقال للإمساك بجذر القضية وليس بأطرافها وتعبيراتها، وبشكل محدد، كشف وظيفة سلطة المقاطعة - التي ابتلعت/ صادرت ما بقي من تسميات لهيئات ومؤسسات لمنظمة التحرير- في الممارسة العملية تجاه قضية التحرر الوطني للشعب الفلسطيني.

إن التفرد بالإنفاق المالي الذي هو أحد وجوه «التصرف» بالقضية الوطنية كان وسيبقى أحد أشكال الديكتاتورية «فرداً أو تنظيماً» في الساحة السياسية الفلسطينية. وإذا كانت القرارات المالية الأخيرة قد أحدثت تلك الجلبة، فإن «تسونامي» القرارات والتصريحات والمواقف القديمة/ الجديدة، تجاه المقاومة المسلحة، وحتى المدنية «المتمردة على النمطية والموسمية»، هي التي يجب أن تستحوذ، ليس على التحليل، بل والاستنتاج.

سلطة التنسيق الأمني

تُظهر الاعترافات/ التصريحات المتتالية لمسؤول الجهاز الأمني «المخابرات» (الأمن لمن؟) إحباط أكثر من 200 عملية ضد العدو المحتل واعتقال أكثر من 100 شاب على خلفية التحضير لعمل مسلح (وما تبعها من حديث «صوت وصورة» لرئيس سلطة المقاطعة مع أكثر من وسيلة إعلامية لكيان العدو، عن مصادرة 70 سكيناً في حقائب الطلبة، والمداهمات التي قامت بها عناصر أمن السلطة للمدارس والجامعات من دون الحاجة لقوات الاحتلال)، أنّ أجهزة السلطة، الحريصة على التنسيق الأمني لخدمة الغزاة، قادرة على تنفيذ المهمات بكفاءة عالية «نحن قدها وقدود... جربونا». وقد جاء اختطاف/ اعتقال الشبان الخمسة شمال مدينة رام الله المستباحة على يد الأجهزة الأمنية، كدليل جديد عن دور السلطة وأجهزتها في «وقف الإرهاب». أما الوفد الذي أرسلته السلطة للتعزية بأحد جنرالات القتلة الفاشيين لشعبنا، فقد حمل من الخزي لذاته وقيادته، أكثر مما قدم من حسن النوايا للمحتلين.

الركض وراء الوهم

أما على الجانب السياسي، فقد حملت الأسابيع الأخيرة تأكيدات جديدة على بؤس وتبعية العقل السياسي التفاوضي لدى قيادة السلطة. فقد أثمرت جولات «الرئيس» بالتنقل بين عدة عواصم عالمية فاعلة وناشطة بما يسمى «عملية السلام»، عن إعادة الحديث عن «مبادرة فرنسية» تحمل لشعبنا كارثة جديدة (إجراء مفاوضات لا تزيد مدتها عن 18 شهراً للوصول إلى حل الدولتين، وإيجاد حل واقعي لقضية اللاجئين، من خلال التعويض، والاعتراف بيهودية الدولة «الإسرائيلية» وإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967 منزوعة السلاح، مع تبادل مناطق بمساحات متفق عليها، تستجيب للاحتياجات الأمنية «الإسرائيلية». وعلى الطرفين وضع معايير تضمن أمن «إسرائيل» وفلسطين، تحافظ بشكل ناجح وفعال على الحدود، وتصد الإرهاب وتدفق الوسائل القتالية). وعلى الرغم من رفض بعض القوى المشاركة بهيئات المنظمة للمبادرة، فإن السلطة رحّبت بها كما جاء بتصريح الناطق الرسمي باسمها: «دولة فلسطين سوف تستمر بدعمها للمبادرة الفرنسية». وكبادرة «حسن نوايا» قررت السلطة تأجيل تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن حول بناء المستعمرات في الضفة المحتلة، بهدف توفير بيئة مريحة لا تحمل أي «إزعاجات» للإدارة الأميركية ولحكومة العدو لطرح المبادرة وتوفير سبل نجاحها.

 

التفرّد بالإنفاق المالي هو أحد وجوه «التصرّف» بالقضية الوطنية

 

رهانات خاسرة

 

في هذا المشهد السياسي، ما زالت بعض القوى السياسية الفلسطينية تسابق الريح لتحصد خيبات رهاناتها على تقويم «اعوجاج القيادة المتنفذة»، مع إصرارها على التمسك بخطاب سياسي وإعلامي وتعبوي أثبتت وقائع الحياة السياسية اليومية، سرعة تهافته (الدعوة لتشكيل قيادة وطنية موحدة للهبة الشعبية، إنهاء الانقسام، وإحياء مؤسسات منظمة التحرير...) في ألف باء الكفاح الوطني ضد الغزاة المستعمرين، تحتل قضية وحدة المناضلين البند الأول في برنامج القوى الوطنية، لكن الوحدة الوطنية تتطلب أولاً وأخيراً، وجود المناضلين الوطنيين، الذين «يقدسون» الكفاح الوطني (المسلح والمدني) لطرد المحتل وتحرير الأرض. أما الذين يكررون في كل لقاء بأن «التنسيق الأمني مع المحتل مقدس» ويترجمونه على أرض الواقع باعتقال واختطاف للمقاومين، فكيف يمكن أن يكونوا طرفاً في أي وحدة وطنية. وهنا يحضرني كلام أحد أعضاء المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عندما كنا نشارك في ورشة عمل سياسية/ بحثية عن الهبة/ الانتفاضة أقيمت في دمشق أوخر شباط/ فبراير الفائت، حينما تحدث بلغة التوصيف الموضوعي لوظيفة السلطة بأنها «حاجة إسرائيلية وليست حاجة وطنية».

خاتمة

في مواجهة استمرار سياسة التنازلات واندفاع أجهزة السلطة لقمع المناضلين والمناضلات، ومصادرة السلاح الناري والأبيض، والعبث بكل الهيئات والمؤسسات وانتشار روائح الفساد المنبعثة من الدائرة المحيطة والأقرب لقمة هرم السلطة، تتحول المناشدات اليومية للسلطة لتعديل النهج وتصويب السلوك في ظل المواجهات اليومية مع الغزاة إلى لغة خشبية لا تجد من يسمعها في ساحات المواجهات وداخل الحراك الشبابي والجامعات والمخيمات. إن أي حديث عن أي برنامج عمل «سياسي وكفاحي» يتطلب وحدة الرؤية لطبيعة حوامله الاجتماعية/ التنظيمية أولاً، حتى لا يتحول النقاش ببنود البرنامج، لجلسات تمارين نظرية/ فكرية. إن كل أشكال النضال المدني السلمي التي لا تتعارض مع الأشكال التي يبتدعها ويمارسها الشباب والشابات في الميادين وضد عساكر ومؤسسات المحتلين، تتطلب حسم الموقف من وجود سلطة لها وظيفة محددة: تأمين الأمن لكيان ومستعمرات العدو، وقمع المقاومة الوطنية للغزاة. إن جهداً وطنياً استثنائياً تعمل على النهوض به قوى سياسية ومجتمعية، هو الكفيل بإعادة وضع قضية التحرر الوطني لشعبنا أمام مهمات تطوير الهبة/ الانتفاضة الشبابية وحمايتها من القوى العاملة على إجهاضها، وفي التمسك بالثوابت الوطنية والقومية وفي مقدمتها مقاومة الغزاة المحتلين وتحرير فلسطين.

* كاتب فلسطيني

آخر تعديل على الخميس, 05 أيار 2016 14:43