عن «المنظمات غير الحكومية»:
    الطاهر المعز الطاهر المعز

عن «المنظمات غير الحكومية»:

مقدمة لدراسة «المنظمات غير الحكومية»

 أوردنا المثال الأكثر بلاغة ووضوحا عن طبيعة عدد هام من هذه المنظمات التي تنتشر في البلدان التي يلحقها دَمار “النيوليبرالية”، أو في البلدان التي تستعد الإمبريالية الأمريكية لاجتياحها، كما أوردنا في بداية النشرة بعض الأخبار عن التلوينات المُخْتَلِفَة لما يُدْرَجُ تحت اسم “العمل الخيري” أو “الإنساني” أو “التطوعي” أو “غير الحكومي”… تَبْدأُ عملية اجتياح المنظمات “غير الحكومية” لبلد ما بنشر تقارير ظاهرها “إنساني” و”محايد” وبعيد عن السياسة والإيديولوجيا ( وهي تقارير تُمَوِّلُها الإمبريالية أو أدواتها الدعائية)، وتشمل هذه التقارير المُفْزِعَة الوضع الكارثي في بعض البلدان الفقيرة ومناطق الحرب، منها الهند (سوء التغذية) والحبشة (مجاعة) وأفغانستان أو السودان (أزمة لاجئين) وغيرها، وتَخْتِم المُنَظَّمَات هذه التقارير بضرورة رد الفعل، لأن الوضع يتطلب تدخلا عاجلا من مواطني وحكومات وجيوش الدول “الغنية” (عسكرة العمل الخيري أو “الإنساني”، منذ حرب الناتو ضد يوغسلافيا) بهدف ظاهره إنقاذ ذوي البشرة الغامقة الذين يرزح مُعْظَمُهُم تحت نير حكومات دكتاتورية وقَمْعِية، ما يستوجب تدخلا عاجلا على صعيدين، الصعيد الإنساني الخيري، والصعيد العسكري لتخليص الشعوب الفقيرة من دكتاتورييها المَحَلِّيين، وأيضا بهدف تصدير الديمقراطية والرفاه والعلمانية إلى هذه المناطق الموغلة في التخلف والتوحش، وتُشَكِّلُ المُنظمات الحكومية إحدى أدوات هذا “التدخل الإنساني الضروري والعاجل” فتقوم بصياغة برامج مُسْتَقْبَلِية وسياسات بديلة تُنَظِفُ هذه المناطق المُتَخَلِّفَة من الخراب والدمار الذي يُسَبِّبُهُ التدخل العسكري المُغَلَّف بصبغة “إنسانية”، كما تُعِدُّ بعض المنظمات “غير الحكومية” تقارير عن مُتَطَلَّبات “إعادة الإعمار”، بتمويل مباشر أو غير مباشر من كبرى الشركات المتختصة في البناء والإنشاء والبنية التحتية والكهرباء الخ…  (انظر الفقرة بعنوان “أَنْجَزَةُ المقاومة)

 

عن المنظمات “غير الحكومية” أو ما سمي “المجتمع المدني” في لبنان يَعْتَبر الرفيق “عامر مُحْسن” ان هذه المنظمات تستخدم مصطلحات ليبرالية فضفاضة منها “المساواة والتحرر والكفاءة…”، أما انتشارها فقد تزامَنَ مع نهاية عقد تسعينيات القرن العشرين بإعلان انتهاء الحرب الأهلية واندثار الإتحاد السوفياتي وضعف “اليسار” وأحزابه وصعود نجم “الليبرالية المتوحشة” التي مثَّلَها رفيق الحريري وشركاته وأُسْرَتُهُ، وكانت المنظمات غير الحكومية (الأجنبية) “تملك تمويلاً (أمريكيا وأوروبيا) ودعماً وقدرةً على ستقطاب” مناضلي وشباب “اليسار” المُرْهَق، وتوظيف طاقاتهم في ملء الفراغ الذي تركته الدولة واستغلالهم في عمليات جمع البيانات والإستطلاعات الميدانية ودورات “التدريبٍ والتمكين” وغيرها، مقابل رواتب مُغْرِية، فاستقطبت المُتَعَلِّمين والمثقفين والفنانين والشباب المرشحين ليتولوا قيادة الإحتجاجات ضد سياسة الدولة، بل تحول قادة سابقون لليسار اللبناني إلى “الضفة الأخرى” وأصبحوا أبرز “وسطاء” التمويل الدولي في لبنان… تُحَدِّدُ هذه المنظمات سقفا إيديولوجيا لبرامجها و”حلولها” السياسية التي تنْحَصِرُ داخل مفهوم يُرَوِّجُ “للسوق الحرة” بغطاء “الحوكمة والدمقرطة ومكافحة الفساد” مع إلغاء مفاهيم مثل “إعادة توزيع الثروة” أو “إلغاء الديون الخارجية” عن “الأخبار” 10/05/16

 

منظمات غير حكومية: صَدَرَ عن الإدارة الأمريكية (البيت الأبيض) احتجاجٌ شديدُ اللَّهجةِ ضد سلطات الصين بسبب قانون يستهدف تشديد رقابة الأجهزة الأمنية على بعض المنظمات “غير الحكومية” الأجنبية العاملة في مجالات البيئة والبحث العلمي والعمل الخيري (الإنساني) وكل المجالات التي من شأنها إلحاق الضَّرَرِ بالمصالح القومية للصين، وأعلن بيان البيت الأبيض “ان هذا القانون يُشَكِّلُ خرقا للحريات ولحقوق الإسان، ويَحْرِمُ الصينيين من الإتصال بالخارج والإحتكاك بالأجانب…” وأصدر الإتحاد الأوروبي بيانا مُمَاثِلاً يلوم من خلاله السلطات الصينية التي فَرَضَتْ على ألف منظمة أجنبية تقديم برامجها السنوية ومصادر تمويلها إلى هيئة حكومية لدراسة مُحْتَوَيَاتِها، ومنعتها من جمع الأموال في الصين وتوظيف مواطنين صينيين قبل الحصول على إذن خاص من السلطات الأمنية، وكان الحزب “الشيوعي” (هو في الواقع رأسمالي) الصيني قد أصدر وثيقة سنة 2013، تُحَذِّرُ من خطر المنظمات “غير الحكومية” الأجنبية التي “تنشُرُ الشَّائعات بهدف تخريب المجتمع الصيني باستخدام عبارات رنانة مثل المجتمع المدني والديمقراطية وحرية الصحافة…”

قد يصح اتهام السلطات الصينية بالقمع (قمع النازحين من الأرياف والعمال والمعارضين…) وعدم احترام حقوق الإنسان وغير ذلك من التُّهَم، وهي حقائق لا ريب فيها، لكن السلطات الأمريكية لا تُشَكِّلُ نموذجا للديمقراطية السياسية والإجتماعية والإقتصادية، بسبب سياسة الدولة وأحزابها (الجمهوري والديمقراطي) ضد المواطنين السود وضد العمال، لمصلحة المجمَّع الصناعي العسكري والشركات الكُبرى، إضافة إلى سياستها الخارجية التي تتَّسِمُ بالعدوان ضد شعوب العالم، بدءا من جيرانها حيث احتلت (ولا زالت تحتل) الولايات المتحدة 55% من أراضيها منذ منتصف القرن التاسع عشر،وإلقاءالقنابل المُحَرَّمة دوليا على سُكَّان “هيروشيما” و”ناغاساكي” (اليابان)، وصولاإلى احتلال العراق وأفغانستان وقصف أراضي سوريا والعراق حاليا… ما الذي يجعل الدولالإمبريالية (الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي) تَهْتَمُّ بمصير المُنَظَّمَاتغير الحكومية” وتدافع عنها في حين تُسَاند نفس هذه الدول الكيان الصهيونيمُغْتَصِب وطن وحقوق الشعب الفلسطيني، وتُساند قصف السعودية لشعب اليمن، بعد تخريبوتقويض أُسُسِ الدولة في ليبيا والعراق وسوريا (في هذا العدد مُلْحق عن المنظماتغير الحكومية زمن الحرب –منظمة “الدفاع المدني” في سوريا كنموذج) عن ا ف ب – 2016/05/01

 

بزنس بغلاف إنساني مع إشهار مجاني: سبق وان حاولنا في هذه النشرة الإقتصادية الوقوف على خلفيات “تَبَرُّعِ” أكبر رأسماليي العالم “بأموالهم” لفائدة صناديق أو مؤسسات (Fondations) يؤسسونها مع افراد عائلاتهم ويترأسونمجلسها الإداري، ويشرفون على شراء الأسهم واستثمار الأموال في شركات عديدة أخرى،لجني أكبر قدر من الربح مع تسديد أقل ما يمكن من الضرائب، ونَيْل سمعة طَيِّبَةلأنهم “فاعلو خير”، يتبرعون لفائدة مشاريع “إنسانية” تجلب لهم إشهارا مجانيا… فيهذا الإطار قرر “بيل غيتس” وزوجته -اللذيْنِ يملكان مؤسسة تحمل إسميهما- استثمار 38 مليون دولارا في شركة “تاكيدا” اليابانية للأدوية،  بهدف تطوير لقاح ضدشلل الأطفال بأسعار مخفضة لاستخدامه في الدول النامية، وذلك في إطار خطة عالميةلمنظمة الصحة العالمية تهدف للقضاء نهائيا على المرض وضمان عدم عودته، باستخدامحُقَن لقاح معطل -بدلا من اللقاح الحالي الذي يعطى عبر الفم- ليَكْتَسِبَ الأطفالمناعة ضد جميع فيروسات شلل الأطفال على خلاف اللقاح الفموي… قبل الترويج الواسع فيوسائل الإعلام لقرار “بيل غيتس” الإستثمار في هذا اللقاح، روَّجَ المُخْتَبَرُالياباني ومنظمة الصحة العالمية ومؤسسة بيل غيتس أخبارا عن خشيتهم من “نقص حاد فياللقاح المعطل في العالم بمجرد تبني كل الدول استخدامه”، لذلك وجب “تجنب مثل هذاالنقص من خلال تشجيع مصنعين جدد على الدخول في هذا القطاع” أي ان “بيل غيتس” وشركةتاكيدا” العابرة للقارت قد ضمنوا –قبل تصنيع اللقاح- بيع كميات هامة منه وجنيأرباح طائلة، بضمانة “أخلاقية” من منظمة الصحة العالمية، خصوصا وان الإشهار (المَجَاني) يُرَكِّزُ على “ضرورة توفير اللقاح في البلدان الفقيرة بأسعار مناسبة”، ويعرفالجميع ان صناعة وترويج كميات كبيرة من أي سِلْعَة يُخَفِّضُ من ثمن تكلفتها ويزيدمن هامش الربح في ثمنها…  يهاجم هذا المرض الجهاز العصبي ويمكن أن يسبب، فيغضون ساعات قليلة، شللا لا يمكن علاجه، وتحذر منظمة الصحة العالمية بشكل متكرر منأن وجود طفل واحد مصاب بعدوى شلل الأطفال يجعل الأطفال في كل مكان في خطر، لذلكوجب حماية أطفال الدول الغنية من العَدْوَى  رويترز 10/05/16

 

"أنْجَزَةُ” المقاومة: ازدهرت المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبيا في الهند منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين، بالتزامن مع مرحلة “الإصلاح الهيكلي” للإقتصاد واعتماد النيوليبرالية باسم “الإنفتاح” وتخلِّي الدولة عن دورها التقليدي في تنمية المناطق الريفية ودعم الزراعة والطاقة والمواصلات والصحة العامة، فاحتلت المنظمات غير الحكومية المَحَلِّية والأجنبية الفضاء الذي تركته الدولة مع الإستئثار بجزء من التمويل المخصص لهذه القطاعات، ما يخفض على الدولة الإتحادية وعلى الولايات تكلفة الإنفاق العام على هذه القطاعات، ولكن معظم المنظمات غير الحكومية لا تكتفي بهذا التمويل الحكومي، بل تطلب تمويلات خارجية من قبل وكالات “التنمية” الأجنبية التي تُمَوِّلُها حكومات “غربية” والبنك العالمي ومنظمة الامم المتحدة وبعض الشركات المتعددة الجنسيات، وجميعها أجزاء هامة من المشروع النيوليبرالي العالمي الذي يستهدف خفض الانفاق الحكومي وتقليص دور الدولة (باستثناء الدور القمعي)، وإعادة توزيع المال العام لصالح القطاع الخاص، وعلى حساب احتياجات الأجراء والمتقاعدين والفقراء الذين كانوا يستفيدون من الدعم الحكومي لأسعار المواد الأساسية والخدمات…

تسْتأثِرُ المنظمات “غير الحكومية” بجزء من التمويل الذي كان حَقًّا مُكْتَسَبًا للمواطنين، ليتحوَّلَ الحق إلى مِنَّة ومُساعدة وعمل خيري، وتلعب “غير الحكومية” دور الوسيط أو العازل بين الدولة والشعب، ما يساهم في تهدئة الغضب السياسي، وتحويل خطر المواجهة (اعتمادا على القوى الذاتية للفقراء) إلى مفاوضة، وإفراغ المقاومة من العنصر السياسي، بتشغيل بعض السكان المحليين الذين يمتعون بمؤهلات قيادية، وإقناعهم بأنهم سوف يقومون بعمل ذي فائدة لمجتمعاتهم، مع كسب رزقهم من هذا العمل “النافع”، فتتحول فكرة وثقافة “المقاومة” إلى وظيفة في أوقات عمل مُحَدَّدَة، بمقابل مالي (راتب) وبامتيازات وحوافز إضافية، بعد أن كانت المقاومة السياسية نضالا وعملا تطَوُّعِيا بدون راتب، وهنا يكمن الدور الخطير للمنظمات الحكومية المُمَوَّلَة أجنبيا، فهي مَسْؤولة أمام مُمَوِّلِيها عن الأموال التي تنفقها، ولا تُقَدِّمُ أي تقارير أو جرد حسابات للمواطنين الذين تَسْتَهْدِفُهُم مخططاتها وبرامجها (التي هي برامج المُمَوِّلِين)، وتُعْرِضُ برامجها ومُخَطَّطَاتِها بشكل يوحي بأنها خارج السياق السياسي والتاريخي لظروف البلدان التي تَسْتَضيفها…

عن مقال كتبته المناضلة النِّسْوِية والكاتبة الهندية “آرُونْدَاتِي رُويْ” ونُشِرَ باللغة الانغليزية في موقع (massalijn) 04/08/2014 وترجمته إلى العربية السيدة “خُلُود إبراهيم

 

المنظمات غير الحكومية

ملحق العدد 322 من النشرة الإقتصادية الأسبوعية بتاريخ 30/04/2016 – الطاهر المُعِز

 

المنظمات "غير الحكومية" -تمويل أجنبي واختراق إيديولوجي– الجزء الأول

 

نتناول في هذه الورقة المُنظمات "غير الحكومية"، ذات التمويل الخارجي، مع الإشارة إلى الإختلاف الشديد بين هذه المنظمات وبين ما يدعى المُجْتَمَع المدني (للتباين مع ما يدعى "المجتمع السياسي" الذي يضم مؤسسات الحكم) أو الجمعيات الأهلية (التي أسسها الأهالي) المحلية التي لا تعتمد على التمويل الخارجي، وظهر مفهوم المجتمع المدني عند الفلاسفة اليونانيين ثم في وقت لاحق عند هيغل وماركس وغرامشي، كسلطة أهلية يُؤسِّسُها المواطنين بشكل موازي لسلطة الدولة أو في مواجهة تَفَرُّدِها بالسلطة، وهذا ما لا تتناوله هذه الورقة...

 

أوردت وكالات الأنباء، خلال السنوات الأخيرة، بشيء من الإلحاح المُمِل والمُرِيب، رغم الإخراج المُتْقَنِ للخبر، أخبارا عن "تنازل بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت عن ثروته لصالح مؤسسة غير ربحية" أو صندوق أو وَقْف (Fondation) وتسربت العدوى إلى رجال أعمال وأثرياءآخرين مثل مؤسس "غوغل" أو "فيسبوك" أو حتى أحد افراد العائلةالمالكة للجزيرة العربية، وغيرهم، ولم يُعْرَفْ عن الأثرياء والرأسماليين ميل خاصنحو "فِعْلِ الخَيْر" أو إتقان لغة أخرى غير لغة وقوانين الربح واستغلالالعمال (مُنْتِجِي الثروة) والمُسْتَهْلِكين...

 

أسس هؤلاء الرأسماليون (مثل "بيل غيتس" وزوجته أو "وارن بافيت" أو "جورج سوروس"...) "صناديق" أو مؤسسات "غير ربحية" مع أفراد عائلاتهم، وحولوا لها الجزء الأكبر من ثرواتهم، وخلقوا مناصب إدارية على مَقاسِهِمْ لرئاسة مجلس إدارة هذه الصناديق التي تَسْتَثْمِرُ في عدة مجالات اقتصادية، مثل أي شركة متعددة الجنسيات، ويكمن الفارق في إعفاء هذه الصناديق أو المؤسسات "غير الربحية" من الضرائب، مع استفادتها من نظرة إيجابية للجمهور،  لأنها تَدَّعِي تمويل مشاريع خيرية في البلدان الفقيرة أو علاج بعض الأمراض المُسْتَعْصِيَة أو تمويل شبكات "التجارة العادِلَة" الخ مع تخصيص جزء يَسِير من الأرباح (لأن هذه المُؤسسات تُحَقِّقُ أرباحا كبيرة، دون تسديد ضرائب) لفائدة بعض المنظمات غير الحكومية، شرط إشهار المنظمات المُسْتَفِيدَة أسماء "المانحين" في نَشراتها وتقاريرها...

 

ما الذي يجعل رأسماليا -خبيرا بقوانين الإستثمار والربح مثل أسرة "فورد" أو "روكفلر" أو "روتشيلد" أو "سوروس" أو "بيل غيتس"- يُسدِّدُ مالا لجمعيات خيرية أو منظمات غير حكومية، وبالأخص في بلدان فقيرة؟ لاحظنا تكاثر عدد "المنظمات غير الحكومية" (منظمات إغاثة، إنسانية، خيرية، طبية...) في مناطق الحرب والأزمات، أو بالتزامن مع برامج "الإصلاح الهيكلي" التي فرضها صندوق النقد الدولي وشقيقه البنك العالمي، واختصت المنظمات غير الحكومية في تجزئة الشعوب (والأوطان) إلى "أطفال" و"نساء" و"أقليات" (دينية أو عرقية أو جنسية...) وتحول المناضلون السابقون في منظمات اليسار إلى مُحَرِّرِي تقارير عن مُجْتَمَعَاتِهِم، وأصبحوا "وكَلاء لشركات فِكْرِية" أجنبية، تعَزَّزَ دورها بالتوازي مع الشركات مُتَعَدِّدَةِ الجنسية التي تنافس الإنتاج الوطني للغذاء والمُعِدَّات والتجهيزات، وفيما تحتقر المنظمات "غير الحكومية" الثقافة المَحَلِّية بإدخال مصطلحات جديدة (التمكين والحَوْكَمَة والشفافية...) تحتقر الشركات متعددة الجنسية الإنتاج الوطني شكلا ومضمونا، مدعومة من منظمة التجارة العالمية التي تفرض مقاييس أوروبية أو أمريكية، تتطلب استثمارات كبيرة بذريعة "حماية المُسْتَهْلِك" (بَعْدَ استبدال عبارة "مواطن" بعبارة "مُسْتَهْلِك") وهو ما يُمْكِن اعتباره "تقسيم المهام" بين الإستعمار الإيديولوجي باسم حقوق الإنسان  والإستعمار الإقتصادي باسم حرية السوق التي تمتلك "يدا خفِيَّةً تُعَدِّلُ الأسعار والسوق دون حاجة لتدخل الحكومات" (بحسب مُنَظِّر الإقتصاد الرأسمالي "آدم سميث")، وضَخّت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي واليابان وكندا وغيرها الأموال في صناديق ومؤسسات "غير حكومية" (وهي في الواقع حكومية أو شبه حكومية تأتمر بأوامر حكومات دول المَنْشَأ)، أنشأت بدورها فروعا لها في البلدان الفقيرة، ولا تُمَوِّلُ جمعيات أو برامج أو مشاريع أعدّتها المنظمات المحلية ولكنها تنشر قائمة في المشاريع التي يُمْكِنُ تمويلها، وهذه المشاريع مُعَدَّةٌ سَلَفًا في برلين أو أوسلو أو واشنطن أو بروكسل، وتهدف "تَحْدِيث" البيانات والمعلومات عن بلد ما، لأسباب سياسية أو اقتصادية، أي اختراق المُجْتَمَعات بواسطة مُثَقَّفِين مَحَلّيين لا يُدْرِكون أحيانا أنهم يقومون بعمل تَجَسُّسِي ( ربما من حيث لا يدرون)، وتقوم المنظمات المحلية أو منظمات أُنْشِئَتْ للغرض (جمعيات أو مراكز أبحاث أو أكاديميين أو كتاب) بتحديث هذه المعلومات في شكل تقارير لا يَعرِفُ مَصِيرَهَا سوى من سَدَّدَ ثَمَنًا مُقابل إعدادها، لأن من يُسَدِّدُ المال يُسَائِلُ ولا يُسْأَلُ، ولا تخضع المنظمات غير الحكومية لِمُسَاءلة المواطنين (الجُمْهُور المُسْتَهْدَف بلغة هذه المنظمات) أو الحكومات المحلية، وإنما لمن يُسَدِّدُ لها المال، ما يجعل وجودها وعَمَلَها مُجَافِيًا للأساليب الديمقراطية...

 

نشأت الجمعيات الأهلية في البلدان العربية خلال القرن التاسع عشر، كرد فعل على الحملات التبشيرية في المَشْرِق، والتي استهدفت المسلمين والمسيحيين على السواء في مصر وسوريا الكبرى، ولمواجهة تَدَخُّل البلدان الأوروبية في عقائد وثقافة وهوية العرب (بقطع النظر عن ديانتهم)، وكرد فعل على استعمار الجزائر ثم المغرب العربي، وهي مؤسسات لا تستجدي الحكام ولا تعتمد سوى على التمويل الذَّاتي، وكانت بعض المؤسسات الخيرية المحلية تُساعد الطلبة الفقراء في جامع الزيتونة في تونس أو الأزهر في مصر، بينما تأسس العمل الأهلي في أوروبا خلال تطور الرأسمالية وارتفع درجات البؤس، بهدف تقديم بعض المساعدات للفقراء وتعليم أبنائهم في مؤسسات الكنيسة وتقديم بعض الخدمات ذات الصبغة الإجتماعية...

 

تُشَجِّع القوى الإمبريالية عمل بعض المنظمات غير الحكومية في البلدان الفقيرة عموما، وتُمَوِّل جزءا من نشاطها، بهدف عرقلة تطور العمل النقابي والحزبي الذي يدافع عن مصالح طبقات وفئات اجتماعية، بينما تَقسِّم المنظمات "غير الحكومية" المجتمع إلى فئات بحسب السن أو الجنس أو الديانة الخ وتُبَرِّرُ بعض المنظمات الحقوقية الإستجارة بحكومات أجنبية بضرورة خلق موازين قوى داخلية ضد الحكومات المحلية، ما يُعَمِّق من تبعية هذه المنظمات نحو الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وكُلَّمَا طبَّقَت الدولة أوامر صندوق النقد الدولي، كلما اتسع الفراغ الذي تتركه في مجال الصحة والتعليم والخدمات الإجتماعية (بفعل الخصخصة وإلغاء الدعم ) وكلما تعاظم دور المنظمات "غير الحكومية" بتمويل أجنبي لإقامة ورشه تدريب، وإنفاق التمويلات في وقود السيارات رباعية الدفع (4X4) سفر وإقامة القائمين عليها، وأغرت هذه "الحوافز" المادية عددا هاما من مناضلين سابقين في "اليسار" وفي نقابات الأجراء، استقطبتهم المنظمات الأجنبية لخدمة مصالح مناقضة لمصالح مجتمعهم أو طَبَقَتِهم الأصلية، فصاغ هؤلاء خطابا "عقلانيا" ومَدَعَّمًا بالحجج للدفاع عن التمويل الأجنبي وعن طلب الإغاثة من الإمبريالية، باسم الدفاع عن الحريات وعن حقوق الإنسان، ومن شأن القوة المالية والتنظيمية التي تتمتع بها هذه المنظمات (بفضل السند الأجنبي) أن تعوق تطور القوى المحلية وتطوير وسائل دفاع المجتمع عن مصالحه وهويته وثقافته ضد هيمنة الأنظمة الحاكمة ورُعاتها الإمبرياليين، وإذا كانت الحكومات تأتمر بأوامر صندوق النقد الدولي والبنك العالمي (كأدوات للإمبريالية) فإن بعض النقابات والمنظمات "غير الحكومية" وبعض جمعيات "التنمية" و"حقوق الإنسان" تأتمر بأموال مُمَوِّليها، وهم في الواقع حكومات أوروبية أو أمريكية تؤسِّسُ مؤسسات وصناديق وأوقاف، تتحكم بها، لتحقيق أهدافها دون ضرورة اللجوء إلى القوة العسكرية، لذا فلا فرق جوهريا بين حكومات البلدان الفقيرة وبين بعض المنظمات غير الحكومية التي تنشط داخلها بدعم أمريكي أو أوروبي، والتي تنخرط في "العولمة" بشكل آخر، وتتخصص في جمع البيانات وتحرير التقارير عن المجتمعات التي تحتضنها، لتتحول إلى "سمسار" بقُفَّازات من الحرير... (يتبع في العدد القادم من النشرة الإقتصادية عدد 323 ) - الطاهر المُعِز 24/04/2016

راجع مقالات سابقة في نفس الموضوع: الطاهر المُعِز - "تونس، تضامن دولي أم استقواء بالأجنبي" +  الطاهر المعز "عمل خيري أم تجسس مُخابراتي"

 

منظمات التمويل الأجنبي /الجزء الثاني

 

ملحق العدد 323 من النشرة الإقتصادية – 07 أيار 2016 – إعداد: الطاهر المُعز

المُنظّمات غير الحكومية في البلدان المُسْتَعْمَرَة، أو الإستعمار الإيديولوجي – الجزء الثاني:فلسطين نموذجا

 

بدأ اجتياح المنظمات "غير الحكومية" مناطق الحرب أو "النزاعات" (في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية) سنة 1967 خلال محاولة انفصال مقاطعة "بيافرا" الغنية بالنفط والتي كانت تستغلها شركة "إلْف" الفرنسية ("توتال" حاليا)، والتي "ساعدت" أطباء فرنسيين (منهم برنار كوشنار الذي رَوَجَ مصطلح "التدخل العسكري الإنساني!) وكانت شركة "إلف" تساند الجنرال "أوجوكيو" الذي قاد عملية الإنفصال بمساندة جنوب افريقيا العنصرية والبرتغال التي كانت تحتل انغولا وموزمبيق وغينيا بيساو وبمساندة الكيان الصهيوني، وكانت مُنَظَّمات "الإغاثة" تنتقل بين طرفي القتال وتقدم التقارير إلى "الجهة المانِحَة" التي تُمَوِّلُها (أي شركات النفط)... وفي جنوب افريقيا، اجتاحت المنظمات "غير الحكومية" فضاء المَعَازِل (ghetto) بتصريح من سلطات الميز العنصري، وذلكإثر انتفاضة المواطنين الأصليين في مَعْزَل "سُوِيتُو" سنة 1976، لكن قيادة"المؤتمر الوطني الافريقي" رفضت هذا الإجتياح وطلبت من هذه المنظمات أنتخضع لسلطة المؤتمر الوطني الافريقي وتُمارس نشاطها بحسب الأولويات التي يحددهاالمؤتمر تحت إشراف مناضليه، وبمشاركة السُّكان، وهي الشروط التي رفضتها المنظماتغير الحكومية لأنها تناقض مبدأ وجودها وأهدافها...

 

بعد احتلال العراق (2003) عمد الإحتلال الأمريكي إلى حل أجهزة الدولة وتقويض أسس المجتمع وتفكيكه، واجتاحت المنظمات غير الحكومية الفضاء الذي أصبح فارغا، وجاءت هذه المنظمات من استراليا واليابان ومن شمال أوروبا، في مُحاولة لإبعاد الشُّبهة عن موالاة الإحتلال الأمريكي، واستقطبت هذه المنظمات مناضلي "اليسار" الأكثر تطرفا على مستوى اللغة والأكثر مزايدة "بالشيوعية العمالية" أو "البروليتارية" مع رفض النضال ضد الإستعمار والإحتلال والإمبريالية، لأنها في نظرهم التفاف على النضال الطبقي (في بلد مُحتل عسكريا) وكانت هذه الأحزاب تتلقى تمويلات ضخمة وأسست نقابات خاصة بها ومحطات إذاعة وتلفزيون، من أموال النقابات الصفراء والمنزمات "غير الحكومية" التي تُقَدم التقارير للإحتلال المريكي...

 

في الجزء المُحْتَلِّ سنة 1967 من فلسطين، وفي قطاع غزة مثلا، لا يزال نحو 100 ألف فلسطيني يعيشون في العراء بعد تهديم طائرات العدو الصهيوني بيوتهم خلال عدوان صائفة 2014، وتتمثل أولويات المواطنين في توفير المسكن والعلاج وتعليم الأبناء والصرف الصحي والعمل الخ، وتلعب المنظمات "غير الحكومية" (إلى جانب "إنروا") دورا هاما لِملْء فراغ كانت تملؤه المنظمات الفلسطينية (الفصائل) والإحتلال ثم سلطة أوسلو، ولكن الدور الأساسي لهذه المُنَظَّمات هو صرف النظر عن الإحتلال وعن مقاومته، ولذلك تنظم "غير الحكومية" عددا لا يُحْصَى من ورشات العمل والمؤتمرات      عن مشاغل الشباب والنسوة ومساواة الجنسين وتمكين المرأة، وأحيانا عن التشغيل والبطالة والتعليم، وهذه المواضيع لم تنجم عن طلبات محلية من سكان غزة ولكنها مفروضة من "غير الحكومية" ومَنْ ورَاءَها من حكومات ومُمَوِّلين، وهي نقيض المنظمات الأهلية المحلية التي يؤسِّسُها المواطنون... 

 

يعود تاريخ تأسيس أول منظمة أهلية فلسطينية (بحسب الوثائق المكتوبة) إلى سنة 1904 وهي منظمة نسائية تأسست تحت الإحتلال العثماني، وكانت تقوم بعمل تربوي وتوعوي، ومَرَّت الجمعيات الأهلية في الضفة الغربية وقطاع غزة بثلاث مراحل: ما قبل الإحتلال (1967) ومن 1967 إلى توقيع اتفاقيات أوسلو ثم المرحلة الثالثة من 1993 إلى الآن، ولعبت المنظمات الأهلية دورا هاما في ترسيخ ثقافة المقاومة والصمود، ومقاطعة إنتاج الكيان الصهيوني، ولكن سلطة أوسلو التي جاء عناصر أجهزتها من تونس –حيث كانوا يعيشون في بذخ بفضل أموال شيوخ النفط- غيرت الوضع وهمّشَتْ المجتمع المدني المحلي، في حين تَدَعَّمَ وجود المنظمات الأجنبية "غير الحكومية" الممولة من الدول الإمبريالية التي تساند وتدعم الكيان الصهيوني... يقدر عدد المنظمات غير الحكومية في مناطق الإحتلال الثاني (1967) بحوالي 3600 منظمة، منها 2800 في الضفة الغربية، و800 في قطاع غزة، وتُشغل 65%منها موظفين بأجر، بمتوسط 18 عاملا لكل منظمة، أو حوالي 40 ألف وظيفة مقابل راتب، أما مصدر موارد هذه المنظمات غير الحكومية فهو التمويل الأجنبي، بمعدل 1,6 مليار دولارا سنويا أومايفوق ربع ميزانية سلطة أوسلو (خارج إطار الموازنة العامة)، فيما تعتمد الجمعياتالأهلية الفلسطينية على العمل التطوعي وعلى تبرعات المواطنين ولا يتجاوز تمويلها 120 مليون دولارا سنويا على أقصى تقدير، وقدر إجمالي المبالغ التي تدفَّقَتْ علىمناطق الإحتلال الثاني (احتلال 1967) منذ اتفاق أوسلو (1993) بنحو 25 ملياردولارا، وتقدِّرُ مصادر سلطة أوسلو عدد المنظمات المُسَجَّلة وغير الفاعلة بنحو 500 منظمة في الضفة والقطاع، ولها مقَرَّات وتتلقى أموالا باسم الشعب الفلسطينيالذي لا يستفيد منها بشيء، وتساهم هذه التدفقات المالية -من خارج الموازنة- فيتلبية بعض احتياجات المجتمع الفلسطيني لكن بثمن باهض، بالمقابل لا تتلقّى المنظماتالأهلية الفلسطينية أموالا تُذْكَر، وتعاديها السلطة وأجهزتها القمعية والإعلاميةالمختلفة... تُمَثِّلُ المنظمات الدولية مشاريع خارجية ضمن مسميّات تنمويةوحقوقية، وتعمل على اختراق المجتمع الفلسطيني الرازح تحت الإحتلال، وإعادة تشكيلالوعي بواسطة إدماج مفاهيم جديدة تُغَيِّبُ مفاهيم التحرير والمقاومة والتشبثبالوطن والأرض، لتحُلَّ مَحَلَّهَا "التنمية" و"الحَوْكَمَة" و"التَّمْكِين" والتدريب على كتابة التقارير حول المجتمع الفلسطيني،وتلتهم السيارات رباعية الدفع ودورات التدريب والتأهيل في الفنادق الفارهةوالمطاعم جزءا هاما من التمويل الأجنبي للمنظمات "غير الحكومية" التيعادة ما يديرها أجانب، وشيئا فشيئا تعوض هذه المنظمات المجتمع المدني المحلي وتدمجمناضلي الأحزاب والمنظمات السياسية في جهازها الإداري البيروقراطي، وتعوض القطاع العام،لأنها تقدم الخدمات التي يتوجب على الحكومة تقديمها في قطاعات مجالات العملالإجتماعي والتربوي والصحي والزراعي...

 

ارتفع عدد المؤسسات الأهلية في الضفة الغربية وحدها من 77 سنة 1966 إلى 210 سنة الإنتفاضة الأولى (سنة 1987)، ثم تشكَّلَت شبكة المنظّمات الأهليّة الفلسطينية (تحت إشراف لجنة تنسيق) من 132 منظمة أهلية (محلية غير مُمَوَّلَة خارجيا) في مناطق الإحتلال الثاني كمنظمات خيرية في بداياتها ثم بلورت شيئا فشيئا ارتباطها بالمقاومة وطَوَّرَت مفاهيم الصمود من خلال توفير الخدمات الصحيّة، والتعليميّة، والزراعيّة، والاجتماعيّة التي أهملَها الإحتلال عَمْدًا، بل خَرَّبَ ما كان موجودا قبل الإحتلال، وطورت الجمعيات الأهلية خلال مرحلة الإنتفاضة الأولى (1987-1992) مفاهيم الإكتفاء الذاتي والاقتصاد المنزليّ وتشجيع الفلسطينيين على زراعة الأراضي وتنويع المحاصيل، حتى في المناطق الحَضَرِيّة، من أجل تقليل الاعتماد على منتجات الاحتلال والوصول إلى مقاطعتها، وكانت هذه المُنَظَّمات الأهلية تعتمد على العمل التَّطَوُّعي بهدف خدمة المجتمع، كشكل من أشكال مُقَاومة الإحتلال...

 

أدّت "اتفاقيات أوسلو" (التي تَمَّتْ بشكل سِرِّي سنة 1993) إلى تركيز "سلطة" يُديرُها الأثرياء الجدد بالتنسيق مع الإحتلال (قبل أن يصبح التنسيق عَمَالة مكشوفة)، وارتفع عدد المنظمات غير الحكومية إلى 480 سنة 1999 لكنْ تَغَيَّرَ دورها، وأصبحت تُساعد السلطة (الخاضعة بدورها للإحتلال الصهيوني والإمبريالية عموما) في صياغة القوانين، وتأهيل العاملين في مؤسسات السلطة، وتدَفّقت أموال "المانحين" فاجتذبت مناضلي "اليسار" الفلسطيني الذي فقد بوصلته، جرّاء انضواء المُنَظمات تحت لواء  "أوسلو" وغياب برامج التحرير الوطني، وانتشار البطالة، بعد تضخم جهاز السلطة الذي أصبح يُعِيل نحو ثلث الأسر الفلسطينية في الجزء المُحْتَل سنة 1967 بأموال "المانحين" وبشرط الولاء لأوسلو ونتائجها، منها تفشي فكر الإرتزاق والإستهلاك وعدم المبالاة بمصير الوطن، وتنافس المناضلين (سابقا) على مصدر الإرتزاق والوظيفة، واحتد الصراع على التمويل بين المنظمات الفلسطينية واقتصار عملها على مساعدة السلطة وإلهاء الشعب الفلسطيني عن قضيته الوطنية الرئيسية المتمثلة في تحرير وطنه من الإحتلال (من البحر إلى النهر)...

تَضَخَّم دور بعض المنظمات غير الحكومية وأصبح بعضها ينافس السلطة، وكلاهما يعتمد على التمويل الأجنبي، ما شَوَّه طبيعة الصراع أحيانا بين المناضلين من أجل تحرير فلسطين أو مقاومة الإحتلال، وأصبح الصراع بين عُملاء، يتنافسون من أجل "حصة أكبر في السوق"، بتعبير أصحاب الشركات الكُبْرى، وسنورد مثالا مُعَبِّرًا عن هذا الإختلال الذي يضر بالقضية المركزية للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية...

 

كان "مُصْطَفى البرغوثي" شابا ينتمي إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب) وأرسله الحزب إلى أوروبا الشرقية ليدرس الطب على نفقة "الكُتْلة الإشتراكية" كما كانت تُسَمّى آنذاك، وتخرج طبيبا مُخْتصّا، ولكنه لم يكن مُحْتاجًا إلى العمل يوما واحدا، فقد أسس منظمة "غير حكومية" (كَمَنْ يُؤَسِّسُ شركة) عند عودته إلى الضفة الغربية بأموال "غربية" طائلة (أي أنه كان على اتصال بشبكات "غربية" لما كان يدرُسُ لدى "الرفاق" في أوروبا الشرقية)، إلى ان أصبح يمتلك شبكة كاملة من المنظمات غير الحكومية الغنية جدا منها الإغاثة الطبية والإغاثة الزراعية وقناة بث تلفزيوني ولوحات إشهارية ضخمة تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ في شوارع مدن الضفة الغربية المحتلة، وتعاظم شأنه حتى رَشَّحته منظمات "اليسار" الفلسطيني (حزب الشعب والشعبية والديمقراطية) إلى انتخابات رئاسة سلطة أوسلو في مواجهة محمود عباس (وسلطة عباس هي بدورها منظمة غير حكومية ضخمة ذات تمويل أجنبي) وساندته "هيلاري كلينتون" وسلّمته صكا مصرفيا خلال احد اجتماعاته الإنتخابية، علنا وأمام العموم... هذا أحد الأمثلة البارزة لدور المنظمات غير الحكومية في فلسطين المحتلة التي لا يمكنها فتح "دكاكينها" بدون ترخيص الإحتلال، من جهة أخرى وصفت "نجاة أبو بكر"، نائبة في المجلس التشريعي الفلسطيني (الذي انتهت صلاحياته منذ سنوات)، التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية بالكارثة على الشعب الفلسطيني، إذ استطاعت"غزو التنظيمات والسيطرة عليها من خلال تمويلها عددا كبيرا من المشاريع في داخل هذه التنظيمات السياسية الفلسطينية... كما تمكنت من تحويل الشارع الفلسطيني من النضال إلى الفئوية لمصلحة أصحاب المشاريع التي لا تعبر عن احتياجات، وهوية المجتمع الفلسطيني"، وفي قطاع غزة يؤكد الكاتب الصحافي "سليمان النبيل" ان هذه المنظمات "أَشْبَهُ بشركات المقاولات، يقوم عليها أباطرة المال ويتحكّمون في فرص العمل... ويوظِّفُ بعضهم زوجته وأبناءه وبعض أقاربه في المؤسسة التي يديرها، ما أدّى إلى انتشار فكرة سيئة جداً عن هذه المُنظّمات لدى السكّان" فضلا عن تقديم هذه المنظمات الخدمات التي يتوجب على الحكومة (الإحتلال في حالة غزة والضفة الغربية) تقديمها في قطاعات مثل الزراعة والصحة والتعليم والبنية التحتية...وقع إعداد هذا الملحق اعتمادا على"السفير" – مُلْحَق فلسطين 17/04/16+ صحيفة "قاسيون" (حزب الإرادة الشعبية- سوريا) 30/04/16  (يتبع)

 

ملحق النشرة الإقتصادية عدد 324  -14 أيار/مايو 2016 – إعداد الطاهر المعز

 

المنظمات غير الحكومية – الجزء الثالث – سوريا:

 

نشرت وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) خلال معارك حلب الأخيرة (أواخر نيسان وبداية أيار 2016) صورا وكتبت تعليقات بشأن “العمل الجبار” لمتطوعي “منظمة الدفاع المدني” (المعروفين باسم “الخُوَذ البيضاء”) لإنقاذ أرواح بشرية (خصوصا من النساء والأطفال) استهدفها “القصف الوحشي لطيران بشَّار الأسد” (وليس طيران الجيش السوري أو الدولة أو النظام!)، وأَلَحَّتْ مجلة “نيوزويك” وعدد من الصحف الأميركية والغربية وكذلك العربية (خصوصا المموَّلة خليجيا) على مميزات هذه المنظمة “غير الحكومية” وحياديتها السياسية والدينية، وتفاني أعضائها المتطوعين (لله في سبيل الله) ودورها في “إسعاف وإنقاذ النساء والأطفال ضحايا قصف الطائرات الروسية والسورية”، ونظمت بعض الأوساط الخليجية و”الغربية” وأوساط الإسلام السياسي حملات الدعم لهؤلاء “المتطوعين الأبطال، رموز الأمل في سوريا”، في حين طالب مُثقَّفو البلاط وبعض مواقع التواصل الإلكتروني منح المنظمة جائزة نوبل للسلام، ونشرت صحف أوروبية وأمريكية “تحقيقات” (هي في الواقع نقل حَرْفِي لما جاء في الدعاية الرسمية ل”منظمة الدفاع المدني”) تُشيد بعدم انحياز المنظمة التي ترفع شعار الثورة الجزائرية سابقا “نحن من الشعب وللشعب” وعدم ولاء العاملين بها لأي حزب أو جماعة سياسية، وجميع هذه التأكيدات مُجافية للحقيقة وللواقع

 

ما هي “منظمة الدفاع المدني” ومن يُمَوِّلُ نشاطها ومن يُسَدِّدُ رواتب العاملين بها؟

 

تُظْهِرُ عشرات الصور ومقاطع الفيديو والأحاديث والحوارات مع هؤلاء “المُتَطَوِّعِين الأبطال” أن أصحاب “الْخُوَذ البيضاء” يمثلون تنظيمات مسلحة ويعملون مباشرةً تحت إمْرَةِ تنظيمات مسلحة بينها “جبهة النصرة”، فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا (الذي تدعمه جهرا حكومات أوروبا وأمريكا الشمالية) ويشاركون في تركيب صور ونشر أخبار زائفة بهدف التأثير على الرأي العام، وتحظى بدعم مادي ولوجستي وإعلامي ضخم، من دول عديدة عربية و”غربية”، وورد في تحقيق لموقع ”غلوبال ريسرتش” الكندي (01/05/2016) أن مثل هذه المنظمات “غير الحكومية” (ومنها منظمة الدفاع المدني) تعمل جنبا إلى جنب مع المليشيات الإرهابية، بدعم أمريكي (رسمي وغير رسمي) وتتعاون مع السلطات الأمريكية (وغيرها) في شكل “تعاقد من الباطن) لخلق وإرساء صورة عن الجيش السوري “الذي لا يستهدف سوى المدنيين والمُسْتَشْفَيَات” فيما تستَهْدِف الطائرات الأمريكية مواقع “داعش”، لكن الوقائع تُبَيِّنُ أن تنظيم “داعش” نما وقَوِيَ عودُهُ منذ بداية القصف الأمريكي للأراضي والمصانع والبُنْيَة التحتية في العراق وسوريا، ولم يخسر مواقعه سوى منذ بداية القصف الروسي والسوري المُشْتَرَك، لكن منظمة “الدفاع المدني” تسَوِّقُ كل هجوم على معاقل “جبهة النصرة” على أنه هجوم على المدنيين وعلى العاملين بمجالات الصحة والطوارئ وعلى المستشفيات والمراكزالصحية

 

أسس الضابط البريطاني “جيمس لو مسيرر” منظمة “الدفاع المدني” أو “الخوذ البيضاء” في اسطنبول في آذار/مارس 2013، وهو “خبير أمني” وضابط سابق في الاستخبارات العسكرية، وتبلغ ميزانيتها 30 مليون دولار سنوياً (60% منها من مؤسسة رسمية أمريكية) ينفق معظمها على المعدات وعلى منح المتطوعين، بحسب مجلة “نيوزويك” الأمريكية، واشتغل “جميس لو مسيرر”، بحسب سيرته الذاتية، لفترة 20 عاماً في بعثات الأمم المتحدة، ومستشاراً للشركات الخاصة ووزارة الخارجية البريطانية وضابطاً في الجيش البريطاني، وعمل في مكتب الممثل السامي للأمم المتحدة في البوسنة قبل أن يصبح منسق الاستخبارات لحلف شمال الأطلسي في “كوسوفو” إلى غاية سنة 2000 ثم عمل (ضمن بعثات الأمم المتحدة ) في القدس وبغداد، ودبي وكان يعمل في لبنان أثناء العدوان الصهيوني على لبنان سنة 2006 قبل انضمامه سنة 2008 إلى مجموعة “غود هاربر إنترناشونال” في “دُبَي” وهي شركة متخصصة بـ”الأمن”، قبل تأسيسه منظمة “الخوذ البيضاء” سنة 2013، ومنظمة “ماي داي” للإنقاذ سنة 2014 وأعلنت “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” (USAID) في تقرير نشرته في تموز/ يوليو 2015أنها ساعدت منظمة “الدفاع المدني” في سوريا (أو “الخوذ البيضاء”) بمبلغ 18 مليوندولارا، وكتبت  صحيفة “تلغراف” البريطانية أن “الخوذ البيضاء” في سوريا تلقتمُعِدَّات بقيمة أربعة ملايين دولارا من وزارة الخارجية البريطانية، كما أعلنتالحكومة البريطانية تخصيص نحو 13 مليون دولارا “لـزيادة التنسيق بين المجلس الوطنيوالدفاع المدني” في سوريا، ويُقَدّرُ عدد متطوعي “الخوذ البيضاء” بأكثر من ألفيشخص يحصل الواحد منهم على 150 دولارا شهريا (عن “الأخبار” 30/04/2016 )، ويصفالصحافي “ريك ستيرلنغ” في مقال بعنوان «المتلاعبون الأكثر فعالية»، “الخوذالبيضاء” بأنها “فريق الإنقاذ لجبهة النصرة”، فيما تُظْهِرُ مقاطع الفيديو التيصورها “متطوعو الخوذ البيضاء” فرادا يُشاركون في مظاهرات ضد النظام، في المناطقالتي تسيطر عليها “جبهة النُّصْرَة” في إدلب، بشعارات “الإسلام المتطرف” وراياتهالسوداء، وبتصريحات منها “إن جثث الشبيحة  -جنود الجيش السوري- ستُرمى فيالمزابل، كما فعل المجاهدون قوّاهُم الله في جسر الشغور، وسنفعل ذلك قريبا فياللاذقية ودمشق”، ويُظْهِرُ مقطع آخر مجموعة من أفراد “الخوذ البيضاء” يحتفلون -بعمليات القتل- مع مسلحين من “جبهة النصرة”، ويرفعون علامة النصر على جثث جنود منالجيش السوري

 

خلاصة:

تستخدم الولايات المتحدة وأوروبا المنظمات “غير الحكومية” لتجميل صورتها ولترويج الإيديولوجيا المعادية لأي فكر تحرري، ومن أبرز هذه المنظمات في سوريا ظهرت منظمة “ذوو الخوذات البيضاء” (الدفاع المدني السوري)، وخلافا لما تدَّعِيه من استقلالية وحيادية فهي فرع من جبهة “النُّصْرَة” وهي من إنتاج وول ستريت، ويقودها ضابط بريطاني سابق في الجيش والمخابرات العسكرية يدعي “جيمس لو ميسورر” ( James le Mesurier) وتشترك في تمويلها حكومة الولاياتالمتحدة وجبهة “النصرة”، المُصَنَّفَة “منظمة إرهابية”، وتحظى عيادات “النُّصْرَةبتمويل وزارة الخارجية الفرنسية بواسطة منظمة “أطباء بلا حدود”، رغم عدم وجودمتطوعين أجانب في مناطق عديدة تخضع لسيطرة الارهابيين، ويُظْهِرُ شريط وثائقي حديثعنوانه ‘”ذوو الخوذات البيضاء”– القاعدة بدون قناع’، من إنتاج “ستيف عز الدينعمليات الإعدام الطائفي التي ينفذها “ذوو الخوذات البيضاء”، إضافة إلى مقالاتبحثية موثقة جيدا تفضح إرهاب “منظمة الدفاع المدني” من إعداد الصحفية “فانيسابيلي” تحت عنوان “ذوي الخوذات البيضاء”: سلالة جديدة من المرتزقة وصناع الدعاية

 

اعتمدت أثناء إعداد هذه الورقة على عدة مصادر منها غلوبال ريسيرتش (“كنعان” 02/05/2016) + “الأخبار” 30/04/2016

 

في العدد 327 من النشرة الإقتصادية (04/06/2016)  

صحة- مُؤَسَّسأت "خيرية" عابرة للقارت: تتوقع مؤسسة (Fondation) "ويلكوم تراست" الطبية الخيرية جني الأرباح بعد موافقة السلطات الأمريكية المعنية على اختبار تشخيصي جديد للسرطان وهو أول منتج تجاري تُمَوِّلُه المؤسسة منذ بيع حصتها في قطاع صناعة الأدوية إلى شركة "غلاكسو" عام 1995، وبذلك باتت هذه المؤسسة الخيرية الطبية -الأكبر في العالم- مصدرًا هامًّا لتمويل الشركات المبتدئة في مجال التكنولوجيا الحيوية، وهي تُحَقِّق أرباحا هامة عندما تنجح الشركات الصغيرة التي تدعمها، وحققت مؤسسة "بيل وميليندا غيتس" في الآونة الأخيرة أرباحا بقيمة 80 مليون دولار من بيع حصة في شركة "أناكور" للمستحضرات الصيدلانية وكانت قد دعمتها لإنجاز أبحاثها عن الأمراض المهملة، قبل أن تشتريها مجموعة "فايزر" الأمريكية متعددة الجنسية (للإستفادة من هذه الأبحاث المُبْتَكَرَة)، وانطلقت "مؤسسة غيتس" بمنحة قدرها 40 مليار دولار من أموال "بيل غيتس" الذي يرأسها ويتحكم بها كما يتحكم أي مُدِير تنفيذي لأي شركة عملاقة (غير أنه لا يُسَدِّدُ ضرائب) وأصبحت أكبر مؤسسة "خيرية" في العالم في حين تملك مؤسسة "ويلكوم" استثمارات بقيمة 18 مليار جنيه استرليني (26 مليار دولار)، ما يجعل من المؤسستين قوتين مُهَيْمِنَتَيْنِ في سوق الدواء العالمية، ولا تَخْتَلِفُ إدارة هذه المُؤَسَّسات "الخيرية" عن أي مجموعة كبرى متعددة الجنسية، وتمتلك مؤسسة "ويلكوم" ذراعا استثمارية (تَبْدو وكأنها شركة مُسْتَقِلَّة) مُتَمَثِّلَة في شركة "سينوكانا" التي تمتلك بدورها شركة "بلو إيرث" (مُخْتَصَّة في التكنولوجيا الحيوية) التي نجحت في الحصول على الضوء الأخضر من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لترويج دواء جديد للسرطان تحت الإسم التجاري "اكسومين" ما من شأنه أن يحقق لها أرباحا طائلة، وتملك شركة "سينولكا" (الذراع الإستثمارية لمؤسسة ويلكوم المملوكة لبيل غيتس) سيولة قابلة للإستثمار بنحو 410 ملايين دولار، وتستثمر بكثافة في العديد من الشركات الأخرى التي تطور منتجات مبتكرة توفر أرباحا هائلة وفوائد على القروض، منها شركات صغيرة تقوم بتطوير الأبحاث في مشاكل الكبد والعينين وتحتاج إلى تمويلات ضخمة قبل تحقيق الأرباح، ويُفْتَرَضُ أن تُساهِم أرباح شركة "سينولكا" في تمويل أنشطتها "الخيرية" (لذلك فهي مَعْفِيَّة من الضرائب) فيما تستثمر المؤسسة الأم أي "مؤسسة بيل غيتس" (وهي شركة مُعَوْلَمة في الواقع) عبر تخصيص قروض لرجال الأعمال والشركات التي تحقق أرباحا ضخمة من خلال "خدمة الصالح العام" (ولا تُمَوِّلُ الجمعيات ذات الأهداف غير الربحية) وحققت  شركة بيل غيتس في صفقة شركة "أناكور" أرباحا مالية كبيرة في صفقة شركة "أناكور" (التي ارتفعت قيمتها بعد نجاحها في مجال الأدوية)، إذ باعت مؤسسة "غيتس" 99% من حصتها بقيمة 86,7 مليون دولار في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 أي أكثر 17 مرة من استثمارها الأساسي فيها سنة 2013 والذي بلغ حينها خمسة ملايين دولار عن رويترز 30/05/16

 نشرة كنعان الالكترونية

 

 

آخر تعديل على الثلاثاء, 07 حزيران/يونيو 2016 18:10