القضية الكردية.. حذارِ من «لوبي التوريط»

القضية الكردية.. حذارِ من «لوبي التوريط»

تصر قيادة إقليم كردستان العراق، على إجراء استفتاء حول استقلال الإقليم، تحت راية الحقوق المشروعة للشعوب، رغم مواقف الكثير من دول العالم، بما فيها تلك الدول التي يرتبط معها الإقليم بعلاقات وثيقة، وكان لها دور في وصول الإقليم الى ما وصل إليه.


الحق معطى أخلاقي لا يعلى عليه، ولكن، هل يكفي الاقتصار على هذا المعطى لنيل الحقوق في هذه الغابة التي تسمى الكرة الأرضية؟ ألم تكن المرافعات السيئة في محكمة التاريخ أحيانا وبالاً على أصحاب الحق: دولاً وشعوباً وأفراد، كم من المظلومين كانوا ضحية المحامين الفاشلين، وكم من الشعوب كانت ضحية الخيارات السياسية الخاطئة لنخبها؟

أول ما ينبغي تثبيته في قراءة القضية الكردية، هو أنه من حق الشعب الكردي مثله مثل شعوب الأرض قاطبة، نيل حقوقه القومية، لا سيما وأن سياسات إنكار الوجود والاقصاء والتهميش بأشكال مختلفة ما زالت قائمة بحق هذا الشعب، وما زال بعض الحمقى يظنون أنه بالإمكان تجاهل قضية شعب تعداده عشرات الملايين ويعتبر جزءاً من النسيج الجغرافي والإثني في منطقة الشرق منذ آلاف السنين، مع الإشارة إلى أن هذه الحقيقة ترتبط وتتكامل مع حقيقة أخرى تتعلق بهذه القضية وهي أنه ليس ذنب أحد من شعوب المنطقة، أن الدول الغربية الاستعمارية، هي التي أوجدت الجذر التاريخي لهذا المستوى من التعقيد الذي يحيط بالقضية الكردية، وجعلت منها «حمالة أوجه» منذ سايكس بيكو، فهي من جهة تعبير عن حق ضائع في متاهات التاريخ، ومن جهة أخرى قضية ترتبط موضوعياً بوضع أربعة بلدان، في جغرافيا لها وزن جيوسياسي كبير في العلاقات الدولية كلها، مما يعني أن التعاطي مع القضية الكردية من وجهة نظر حقوقية مجردة، هو ضرب من ضروب قصر النظر السياسي، لاسيما وان دول وشعوب المنطقة جميعها مبتلية بأزمات متعددة، جراء تلك التقسيمات، وجراء سياسات أنظمة الحكم في «الدولة الوطنية» التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية؛ بعبارة أخرى، إن قرارات أحادية الجانب من أي طرف كان، ستؤدي حكماً إلى توتر الوضع الاقليمي ككل، هكذا كان الأمر منذ تشكيل الدول والكيانات القائمة، وهكذا هي اليوم.

أسئلة لابد منها
إذا كانت جميع القوى الإقليمية المعنية بالقضية لا تؤيد إجراء الاستفتاء، الذي يعتبر بداية احتمال تقسيم العراق، وإذا كانت القوى الدولية الفاعلة جميعها، تدعو إلى عدم إجرائه، وإذا كان الوضع الكردي داخلياً فيه ما فيه من الخلاف والتوتر، أي أنه لا الظرف الموضوعي، ولا الذاتي مناسب للإقدام على مثل هذه الخطوة، فعلى ماذا يستند أنصار إجراء الاستفتاء، ولماذا الإصرار عليه؟

الحسابات الخاطئة
إن فكرة الانفصال وبناء دولة مستقلة، لا تتوافق مع اتجاه التطور العالمي، الذي يميل موضوعياً إلى الاندماج، والتكتلات الكبرى، فالدول الصغيرة، لاسيما إذا كانت في منطقة تعتبر أكثر بؤر التوتر اشتعالاً، لم تعد قادرة على انجاز مهام الدولة الوطنية، وبالأخص إذا كانت تعتمد في بناء ذاتها على علاقاتها الدولية والاقليمية، وهي في أفضل الأحوال ستكون دولة تابعة عاجزة، تكرر نموذج الدول التي تعاني الآن من جملة تناقضات تهددها في وجودها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن العملية يمكن أن تستدرج، ردود أفعال قوى إقليمية، لديها من الأوراق ما يكفي لإجهاض العملية، مما يعني على الأقل توتراً جديداً في الوضع الإقليمي، ومن هنا يجب التنبه إلى مخاطر الإقدام على أية مغامرة عسكرية من قبل القوى الاقليمية، لن تكون في صالح أحد مهما كانت الذرائع والحجج، لاسيما وأن التوتر الاقليمي، والتوتر الداخلي في العراق، يترك هامشاً واسعاً لقوى الفوضى الخلاقة، والكيان الصهيوني تحديداً، وهذا ما يفسر حمية دولة الكيان الصهيوني في التعاطف مع القضية الكردية مؤخراً، و محاولة دفع الجميع إلى مآزق جديدة، ألم يكن تمدد «داعش» وتحولها إلى بعبع في جانب منها، بسبب التوتر الاقليمي والداخلي في كل من سورية والعراق؟ وعدا عن ذلك فإن الاستفتاء وما يستتبعه، في هذه الظروف، يتناقض مع سعي القوى الدولية الصاعدة «روسيا- الصين» في إطفاء بؤر التوتر، والحفاظ على وحدة بلدان المنطقة، وسيادتها واستقلالها.

ما لا ينبغي نسيانه
يشهد العالم انعطافاً حاداً، منذ سنوات، وإذا كان يمكن تبرير هذا التجاهل، حتى قبل سنة بسبب ضعف الملاءة السياسية للعقل القومي، كمشكلة جينية في نشوء هذا العقل، فان المسألة باتت واضحةً، ومعترفاً بها أمريكياً، وعبر عنها الرئيس الجديد بسياسة الانكفاء الى الداخل، حتى بات خياراً أمريكياً رسمياً، بأن الولايات المتحدة بصدد تنظيم التراجع المفروض عليها بحكم الأزمة التي تعاني منها، وأنها في هذه المرحلة تستخدم بقايا نفوذها الاستخباراتي والعسكري، لتنظيم تراجعها، وإن تراجع دور دولة مثل الولايات المتحدة يعني موضوعياً تراجع دور كل البنى التي تشكلت في ظل استفرادها بالقرار العالمي، وإذا افترضنا جدلاً، بأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة والحالية، لم تكن تنام الليل ألماً وتحسراً على الظلم الذي لحق ويلحق بالكرد، فإنها لم تعد تستطيع أن تفعل شيئاً، إلا بتحويلها إلى ورقة ضغط، فهي بالكاد تستطيع حماية نفسها، وإن النخبة الامريكية باتت منقسمة على نفسها، وإن وعود بعض القوى ضمن الإدارة بشيء ما لهذه الجهة أو تلك، لا يعني أن هذا الوعد بات خياراً رسمياً أمريكياً ثابتاً، وإن أمريكا التي تتخلى مضطرة عن حلفائها التقليديين، لن تنتظر كثيراً حتى تفاضل بين الكرد، وحلفاء آخرين لها، معادين للكرد، ومستعدين للعق حذاء «تيفاني ترامب» فمن يبني سياساته ومواقفه، بناء على وشوشة من عضو في الكونغرس الأمريكي، أو إشارة من موظف في البيت الأبيض أو وعدٍ من وعود سيناتورات التوريط، أو ضابط متقاعد بات مستشاراً في إحدى الشركات الامنية، ودلاّل حروب وسلاح، أو حتى بناء على كلام معسول من وزير امريكي، فليسمح لنا بالقول: «الناس رجعت من الحج»! وزمن الاستفراد الأمريكي بالقرار انتهى، لا سيما، وأنه، لم يستطع حتى الآن التفاهم مع بني جلدته.

البحث عن حل
إن الحل الوحيد لجملة الملفات الساخنة في المنطقة، ومنها القضية الكردية، يقوم على الاعتراف المتبادل بالحقوق، وبحث جميع قضايا الخلاف بالتوافق، والتفاهم، منعاً لإشعال بؤر توتر جديدة، بعيداً عن سياسات إنكار الوجود، وبعيداً عن الاستعانة بأية قوة دولية لا تريد خيراً لأي من شعوب هذه المنطقة، والاستفادة من توازن القوى الدولي الجديد الذي يتجلى بصعود الدور الروسي والصيني، في التفاوض والتوافق على حل النزاعات واطفاء بؤر التوتر.