اليسار الإسباني يدير ظهره لكتالونيا؟
الشعب أيضاً هو بناء اجتماعي، وهو ما يعني بأنّ الاعتراف بوجوده عملٌ سياسي
تعريب وإعداد: عروة درويش تعريب وإعداد: عروة درويش

اليسار الإسباني يدير ظهره لكتالونيا؟

حوار بين النائب عن حزب «اليسار الموحد Izquierda Unida» ألبرتو غارزون، وعضو حزب «الوفاق الشعبي Candidatura d'Unitat Popular» باو يونك

أثار استفتاء الاستقلال في كاتالونيا في الأول من تشرين الأول الكثير من الجدل والنقاش في صفوف اليسار الإسباني. وتبعاً لعدم الاعتراف الدولي به، ولعدم حيازته لأساس دستوري، سيكون التصويت بمثابة عصيان مدني جماعي ضدّ حكومة ماريانو راخوي المركزيّة المحافظة. لكنّه لم يحظى أيضاً بتأييد القوى اليساريّة الرئيسيّة في إسبانيا: بوديموس واليسار الموحد، وذلك رغم دفاعهما عن حقّ الشعب الكاتالوني في تقرير مصيره وفي مقاومة قمع الدولة الإسبانيّة.
عوضاً عن ذلك، حاول هذان الحزبان، وقائمتهما الانتخابيّة الموحدة "أونيدوس-بوديموس"، أن يشقوا طريقاً وسطاً بمواجهة كلا الطرفين، عن طريق الاعتراف بالتصويت كشكل شرعي من أشكال التعبئة السياسيّة، ولكنّه صُمم ليكون استعراض قوّة أكثر من كونه استفتاءً حقيقياً للاستقلال.
وبشكل مضاد لتصويت 1 تشرين الأول، أكّد كلّ من بابلو إغليسياس وخافيير دومنيك، وهما زعيما حليف بوديموس في الإقليم "كاتالونيا إن كومو Catalunya en comú"، التزامهما بإجراء استفتاء ملزم قانوناً كجزء من عمليّة دستوريّة أوسع نطاقاً. تهدف العمليّة إلى إنشاء إسبانيا اتحاديّة متعددة القوميات، وهو الخيار المستبعد حدوثه عبر استفتاء داخلي بسيط.
لكنّ هذه التغييرات المقترحة تبدو خططاً طويلة الأمد، وخصوصاً أنّ أيّ إصلاح للدستور الإسباني يحتاج إلى موافقة أغلبية الثلثين في كلا مجلسي البرلمان. وقد أيّد اليسار المؤيّد للاستقلال الاستفتاء بشكل صاخب، ليواجه التجريم من قبل الدولة الإسبانية وحملة من الاستنكار من المؤسسة السياسيّة في البلاد.
ويمكن أن تعزّى الزيادة المفاجئة في دعم الاستقلال إلى "نظام الحكم الذاتي لكاتالونيا" عام 2006، والذي رفضته المحكمة الدستوريّة عام 2010 بعد أن ميّعه البرلمان. وفي أعقاب هذا الجدل، وتحت تأثير سياسة التقشف، تضاعفت أعداد المؤيدين للاستقلال (من أقل من 20% إلى أكثر من 45%)، بينما كسب اثنان من الأحزاب اليساريّة الأرض انتخابياً، وهما: "اليسار الجمهوري ERC" الديمقراطي الاجتماعي، و"الوفاق الشعبي CUP" الراديكالي. لقد وعد "اليسار الجمهوري" و"الوفاق الشعبي"، بعد دعم الحكومة الإقليمية الانفصالية الواسع بقيادة الحزب اليميني "الحزب الديمقراطي الأوربي"، بالحصول على الاستقلال خلال 18 شهر إن كانت نتيجة التصويت على استفتاء تشرين الأول بالإيجاب.
ومع زيادة التوتر السابق للتصويت، تحاور الاقتصادي والناشط في حزب "الوفاق الشعبي" باو يونك مع النائب عن حزب "اليسار الموحد" ألبرتو غارزون، حول كيف ينبغي لليسار أن يتصدّى لمسألة تقرير المصير الكاتالوني.

مزقة من الواقع الملموس


باو يونك:
لا يمكن لأيّ دولة تقمع أخرى أن تكون هي نفسها حرّة – كارل ماركس
عزيزي ألبرتو غارزون
اسمح لي أن أبدأ بالقول بأنني أعدّ نفسي من بين الكثيرين المعجبين بك. لقد اكتشفت تألقك النظري أوّل مرة في مقال نُشر عام 2014، يتناول الأزمات الرأسماليّة من منظور غير متوافق مع السائد، وأدركت بأنّك أكثر من مجرّد شخصية إعلامية رائجة. لقد كنت ماركسياً ومادياً لم يتردد في دعوة نفسه بالشيوعي. ولهذا كانت خيبة أملي كبيرة هذا الأسبوع عندما قرأت موقفك من العملية الديمقراطية في كاتالونيا.
لقد قمت أثناء حوارنا الأخير عبر الإنترنت بخصوص استفتاء 1 تشرين الأول، باقتباس دفاع لينين عن حقّ تقرير المصير، والذي رددت أنت عليه بطلب "تحليل ملموس للواقع الملموس" وليس باقتباسات "قدسيّة". أنا سعيد بأن أجيب بالتالي:
1. لنبدأ من مسألة الطبقة. من الناحية العملية فإنّ كامل البرجوازية الكاتالونية تعارض ممارسة حقّ تقرير المصير والاستفتاء في تشرين الأول والاستقلال. لقد أظهر عملك بذاته الحاجة لتقديم تحليل طبقي مركب، وقد استخدمت تصنيفك للطبقات السبع في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة في عملي. لكن أين نجد هذا التركيب التحليلي عندما تصوّر الاستفتاء وكأنّه يتماشى مع مصالح "البوجولز" (النخب الكاتالونيّة)؟
الواقع الملموس هو أنّ جماعات الضغط العائدة للشركات ومصارف كايكسا وسابديل وصحيفة لا فنغارديا، جميعهم يعارضون الاستفتاء. لا أحد ممّن له صلة بمن سميتهم في مقالتك بقطاعات البرجوازية الثلاثة الرئيسيّة (رأس المال الطفيلي والزائف والاستثماري) يدعم الاستفتاء. وأمّا من يدعمه فهم مجرّد قطاعات برجوازية صغيرة ومتوسطة.
نحن نتعامل بكل وضوح مع حركة وطنية شعبية يتخطى دعمها الحدود الطبقية، كما هي الحال دائماً في الثورات الديمقراطية. أمّا في الفضاء السياسي، فقط جزء صغير من اليمين الكاتالوني من صفوف "الحزب الديمقراطي الأوربي" المتراجع يدعمون الاستفتاء دون تحفظات. أمّا في المنظمات التحررية بدءاً من "إمبات" إلى "الوفاق الشعبي" الثوريين إلى "الجمهوري اليساري" الديمقراطي الاجتماعي، فإنّ اليسار المؤيد للاستقلال يدعم هذا الاستفتاء دون تحفظ.
2. نحن ندافع عن إمكانيات ملموسة على النقيض من البدائل المثاليّة. وبما أنك تطلب تحليلاً ملموساً، فإنّ هناك بديلاً في المجال المؤسساتي الذي يمكن أن يصبح هو المسيطر في الجمهورية الكاتالونيّة: دمج "كاتالونيا إن كومو" مع "الجمهوري اليساري" و"الوفاق الشعبي". وخلافاً لما نستطيعه على مستوى الدولة الإسبانية، فإنّنا هنا قادرون حتّى على إزاحة "الحزب الاشتراكي" الوسطي. هذا لا يضمن بناء الاشتراكية في كاتالونيا في نهاية المطاف، والذي سيعتمد، كما هي الحال دائماً، على ما يحدث في الشوارع لا في المؤسسات، ولكنّه يتيح الفرصة لمواصلة الكفاح من أجل إيجاد بدائل ممكنة في مرحلة تنظيم ما بعد الأزمة الرأسماليّة الحاليّة.
أتذكر قول جاومي أسنس الذي يشغل الآن منصب رئيس حكومة منطقة برشلونة، عن أنّ استراتيجيّة الحركة في "الانقضاض" على الدستور، تنفع لتكون مثالاً يُحتذى للمدن الأوربية الأخرى. هل يمكن لهذا التحالف المستقبلي المحتمل ألّا يؤدّي وظيفة مماثلة: أي أن يقدم البديل لأوروبا الموبوءة بالفاشية وبكراهية الأجانب؟
على النقيض من ذلك، لا يعطي موقفكم إلّا دفاعاً مثالياً عن حق تقرير المصير. إن نظرنا إلى المطالبة بإصلاح الدستور الإسباني وأخذنا بالاعتبار الرأي العام السلبي تجاه الاستفتاء الكاتالوني في إسبانيا، فإنّ مثل هذا السيناريو لا يمكن تخيّل حدوثه إلّا بعد عقود. من يملك المقاربة الملموسة ومن يملك تلك المثالية الآن؟
3. تكمن الرغبة في تأمين الحقوق الاجتماعية والسياسيّة في صلب حركتنا السياديّة، بينما العناصر الشوفينيّة والقوميّة هي مجرّد رواسب متبقية. على الرغم من أنّه يصعب عليك فهم هذا، فإنّ الهيمنة في هذا البلد قد تحولت ببطء نحو اليسار منذ بداية الحملة نحو الاستقلال. لكن على من يريد لمس ذلك أن يركّز على أعمال وخطابات أولئك الموجودين في الشارع وفي البرلمان الكاتالوني، وليس على التحيزات المسبقة لليسار الإسباني. لقد عبّر رئيس الوزراء الكاتالوني عن ذلك عندما قال، خلافاً لسلفه، بأنّه لم يستعمل أبداً عبارة "إسبانيا تسرقنا"، وبأنّه يجب محوها من قاموس الأغلبية الاجتماعية. بينما تقوم الحركة السيادية الحالية بأخذ شعاراتها من حملة "الحرية" الحديثة (من الاستبعاد والفقر واللامساواة)، التي قادها دافيد فرنانديز من "التوافق الشعبي" (وهو مناهض للرأسمالية حصل على أعلى نسب الموافقة عندما تخلّى عن مقعده عام 2015، وقد شكّل ذلك مفارقة أخرى في بلدٍ يتم خداعه من قبل نخبه).
ورغم إسقاط المشروع في المحكمة العليا في مدريد، فقد رأى البرلمان الكاتالوني، نظراً للحس السليم الحالي في بلدنا، الموافقة على قانونٍ يحظر إخلاء الناس من المساكن. كما تمّ سنّ تشريعات لضمان حدّ أدنى من الدخل وحظر مراكز احتجاز المهاجرين وحظر استخدام الرصاص المطاطي من قبل الشرطة. هل يمكنك تخيّل حشد أغلبية سياسيّة لإنفاذ هذه التدابير في الدولة الإسبانية؟ لا، ولا أنا يمكنني تخيّل ذلك أيضاً.
4. ليس هناك بديل عن حلّ ديمقراطي لهذا الصراع، ولكنّ مثل هذا الحل غير ممكن داخل مملكة إسبانيا. لقد تأسس دستور عام 1978 على ثلاثة ركائز: الرأسمالية كشكل للإنتاج، والملكيّة، وإنكار حقّ تقرير المصير. والآن وبعد تقديم أربعة عشر التماساً رسمياً لعقد هذا الاستفتاء، وسبعة أعوام من التعبئة الجماهيرية المستمرة، لم نعد نملك إلّا ممارسة حقنا غير القابل للتصرف به في تقرير المصير، بالاعتماد على قدرتنا على المقاومة والكفاح.
وبالنظر إلى الطبيعة التسلطيّة للدولة الإسبانية، فليس هناك طريق نحو الفيدرالية دون الاستقلال أولاً. وعلى حدّ تعبير دافيد فرنانديز: إن كنّا نفتقر إلى طريق ديمقراطي إلى الاستقلال، فنحن بحاجة إلى طريق مستقل إلى الديمقراطية من أجل كامل شعب هذه الدولة. إنّ هذا التحليل المادي هو من حشد العديد من القوميين للكفاح من أجل هذا الاستفتاء. وإن أتت نتيجة الاستفتاء سلبية، فلا شكّ بأننا سنواصل دعم الناس من أمثالك في جهودهم لإصلاح الدولة الإسبانية الفاسدة. نحن نطلب أن تعاملونا بالمثل وحسب.
5. يجب على اليسار أن يطالب بضمانات... ولكن من الدولة. لا يمكن الدفاع عن موقف "اليسار الموحد". أنتم تطالبون بإجراء استفتاء بضمانات قانونية واستناداً لتوافق سياسيّ واسع، لكنكم توجهون هذه المطالب إلى الحكومة الكاتالونية وليس إلى الدولة المناهضة للديمقراطية التي تمنع حدوثه. ينسى هذا الموقف أيضاً أنّ كلّ ثورة ديمقراطيّة قد حدثت في تحدّ للقانون، وليس بالانسجام معه.
6. للاستفتاء القدرة على توضيح خطوط التقسيم الاجتماعي. هذه الحجّة طرحها رفيقكم الشيوعي الكاتالوني مانويل ديلغادو. لقد أدّى عدم الاعتراف بحقّ تقرير المصير إلى انقسامات مصطنعة بين الطبقات الشعبية، ويمكن للاستفتاء أن يكسر هذه الانقسامات. إنّنا نأمل أن يسمح لنا افتتاح عملية تأسيسيّة أن نواصل منازعة الهيمنة البرجوازية، ولكن دون أيّ تحريفات.
يؤكد كيفن أندرسون في كتابه "ماركس عند الهامش" أنّ المبادئ الدولية لدى ماركس لم يتم تصورها أبداً بشكل مجرّد، بل أخذت أشكالاً ملموسة جداً كما يتبيّن من دعمه للتحرر الأيرلندي والبولندي. آمل بأنّك ستلجأ لذات صرامة التحليل التي تستخدمها في عملك في الاقتصاد السياسي، لتطبقها على المسألة الوطنية. ذلك أنّه لا يمكنك أن تتجاوز المثاليّة عند التعامل مع الواقع التاريخي الملموس لثورتنا الديمقراطية وأنت تستمر باستدعاء اسم جوردي بوجول (قائد تاريخي ليمين الوسط الكاتالوني).

استقلال كاتالونيا المثالي


ألبرتو غارزون:
يسأل السيّد كي: لماذا أصبحت قومياً على الفور؟ لأنني قابلت قومياً بالمصادفة – برتولد بريخت
في الردّ على رسالته العلنية، سوف أقيّم حجاج السيّد يونك كما يلي:
1. بشأن المراجع الموثوقة. استشهد يونك في نقاش أوّلي عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقول لينين عن حقّ تقرير المصير، وهو أمر يعني، إن كنت سأقبله لمجرّد قيمته الاسمية، بأنّ على الماركسيين أن يدعموا رغبة أيّ شعب في الاستقلال. ستكون الحال على هذا المنوال طالما استوفى الأمر شرطان مسبقان: أنّ هناك وجود لمدرسة ماركسيّة متجانسة، وأنّ تفسير لينين متجانس معها. لطالما كنت متردداً بقراءة الماركسيين الكلاسيكيين بوصفهم ناطقين بحقائق أزلية، وبقراءة نصوصهم ككتب مقدسة. وبهذا المعنى يمكنني أن أتطرق بشكل أو بآخر إلى تعريف لينين للماركسيّة بأنّه "تحليل ملموس لواقع ملموس".
يتناغم رأيي هنا مع أحد أفضل الماركسيين الذين وجدوا على الإطلاق: فرانسيسكو فرنانديز بوي، والذي يوصي بقراءة هذه الكلاسيكيات ليس كمصادر محكمة للنقل عنها، بل كمصدر إلهام للتقليد متغاير الخواص والجمعي، والذي كان دائماً متنبهاً للحظة التاريخيّة. إنّنا بغير ذلك نخاطر باقتباس ماركس كما فعل يونك، وأيضاً موقفه من إسكتلندا وإيرلندا، بعزله عن سياقه التاريخي المتفرد.
علاوة على ذلك، فإنّ كلاسيكياتنا مليئة بالعديد من التناقضات. من يستطيع أن ينسى موقف ماركس من الاستعمار الوحشي للهند عندما تمّ تعريف دور إنكلترا من حيث كونها "أداة غير واعية للتاريخ"؟ لقد برر إنغلز أيضاً "حرب الإخضاع" الأمريكيّة ضد المكسيكيين، متسائلاً: "هل من المؤسف حقّاً الاستيلاء على كاليفورنيا وأخذها من المكسيكيين الكسالى الذين لم يعرفوا ما يفعلون بها". وما الذي يمكننا قوله عن "المنظمة الدوليّة الثانية"؟ لقد أقرت في مؤتمرها الخامس "بحق البلدان المتحضرة بإقامة نفسها في البلدان التي لا يزال عدد سكانها في مرحلة أدنى من التنمية". باختصار: إنّ ما نحتاجه هو تحليلٌ ملموس للحالة الملموسة بدلاً من القراءة المدرسية للماركسيّة.
2. بشأن الأمّة. بوصفي ماديّاً غير دوغمائي، فأنا أعمل على أساس أنّ الأمم هي بنى اجتماعية، أو كما صاغها بندكت أندرسون: مجتمعات تخيلية. يشكّل كوننا إسباناً أو كاتالونيين أو فرنسيين جزءاً من نظم معتقداتنا التي يتم تدعيمها أو تحطيمها بفعل الظروف التاريخيّة والتطورات الشخصيّة. ليس هذا الأمر شيئاً علمياً بل سياسيّاً. لن أسائل الشرعيّة الموضوعية لإيمان الشخص بهويته الإسبانية أو الكاتالونية، لكنني سأفعل بالنسبة لشرعيّة هذا الإيمان في أخذ شكل الوساطة بما يتعلق بالأهداف السياسيّة، سواء أكانت هذه الأهداف هي الاشتراكية أم مجرّد تحسين ظروف المعيشة.
وهذا هو السبب في أنّه من العبث تكتيل القوميات مع بعضها. لا يمكن مقارنة القوميّة الألمانية عام 1914 أو الكاثوليكيّة الوطنية لإسبانيا فرانكو، مع القوميّة في النضالات المناهضة للاستعمار في منتصف القرن الثامن عشر أو مع كفاحات التحرر الوطني لشعوب أمريكا اللاتينيّة. من هنا يمكننا أن نصل لأوّل استنتاجاتنا: ليس الحقّ في تقرير المصير هدفاً بحدّ ذاته، بل هو في رأيي الحقّ بالاستقلال. وذلك يعتمد على الواقع الملموس.
3. إنّ الشعب أيضاً هو بناء اجتماعي، وهو ما يعني بأنّ الاعتراف بوجوده عملٌ سياسي. مثال: أنا أعترف بالشعب الكاتالوني، كشعبٍ تعود أعرافه (اللغة والثقافة والمعايير ...الخ) إلى ما قبل حرب الخلافة الإسبانية عام 1713. ممّا لا شكّ فيه أنّ حقيقة حكم الأسرة النمساوية، وليس آل بوربون، لإسبانيا لوقت طويل قد أثّر على تطوّر الشعب الكاتالوني. لكن يجب أيضاً أن نتذكر بأنّ البرجوازيين هم المسؤولون عن بناء الدولة وليس الشعب. لذلك هناك شعب كاتالوني تمّ إنشاؤه من الأسفل، تماماً كما تمّ إنشاؤه من الأعلى. يمكن لمس روح الشعب الكاتالوني الذي صيغ من الأسفل بالعودة إلى الإضراب العام في سنة 1909، وإلى الدفاع عن برشلونة أثناء الحرب الأهلية.
4. الاعتراف بحقّ تقرير المصير هو مبدأ أساسي لدى الماركسيين. كما قال مانويل ساكريستان: "لا حلّ لأيّ مشكلة وطنية خارج سياق تقرير المصير". فرغم أنّ الشعوب والأمم هي هياكل اجتماعية، فإنّها تعمل في واقع الأمر وكأنّها كيانات موضوعية، حيث ينتج عن أفعالها آثار حقيقيّة. عندما يدخل شعبٌ ما في صراعٍ مع آخر فيجب أن يكون الحلّ، وبغض النظر عن الأسباب، بالحوار والتفاوض. فإذا ما طبقنا ذات الشرط المجرّد على القوميّة الإسبانيّة والكاتالونيّة، فليس بإمكاننا أن الانحياز إلى جانب أحدهم على حساب الآخر. يمكننا بدلاً من ذلك فتح قنوات مؤسساتيّة لحلّ الصراع، والاعتراف قبل كلّ شيء بحقّ تقرير المصير الضمني في أيّ عملية حوار بين الشعوب.
5. يتفق الدفاع عن الحق في تقرير المصير مع النموذج الاتحادي. طالما أنّ هذا الحق لا يقوم على الاعتقاد بأنّ على جميع الشعوب أن تكون مستقلة، فهو يتوافق مع الدفاع عن الدولة الفدرالية. هذا لا يعني أكثر من الدفاع عن التعايش المشترك بين الشعوب في إطار المؤسسات المشتركة القائمة على أساس الإخاء والحكم الذاتي. فكما يشرح أنتوني دومنيك الأمر: يأتي هذا الإخاء من التقليد الجمهوري الاشتراكي، وقد أخذ إلهامه من الأممية، من بين مجموعة أشياء أخرى. إنّ الطموح بدولة إسبانية اتحادية تعترف بشعوب ودول إسبانيا بدلاً من وضعهم ضدّ بعضهم البعض هو طموح جميل، كما أنّه ممكن.
6. هل هذا ممكن دون الاستقلال أولاً؟ إنّ ما يقوله يونك هو أنّه ونظراً للطبيعة التسلطية للدولة الإسبانيّة، يستحيل التحوّل إلى الفيدرالية دون أن الاستقلال أولاً. أي: أود أن أكون اتحادياً ولكنهم يجعلونه أمراً مستحيلاً. هناك بعض الحقيقة في هذا القول، وتحديداً الإشارة إلى الطبيعة التسلطية للدولة وحزبيها الرئيسيين. إنّهما حزبا "الشعب" و"العمّال الإسباني الاشتراكي" هما من حجبا معاً إمكانية تطوير قنوات مؤسساتيّة لازمة للتعامل مع هذا النزاع، مثل إجراء استفتاء.
لكنّ نموّ النزعة للاستقلال في السنوات الأخيرة لم يكن نتيجة هذا الجمود وحسب. لقد استخدمت المسألة القوميّة أيضاً كقناة شعبية للتعبير عن الإحباط الذي ولدته أزمة الرأسماليّة. فالاستقلال لم يقدم للشعب الكاتالوني بوصفه حقّاً ديمقراطياً للشعب الكاتالوني، بل كحلّ لمجموعة من الشرور الاقتصادية والاجتماعية. لقد أدرك اليمين الكاتالوني بأنّ التلويح بالراية الكاتالونية قد يمنحهم غطاءً فاعلاً في أوقات الأزمات. فعلى الرغم من عدم استخدام شعار "إسبانيا تسرقنا"، فإنّ هناك صوتاً اقتصادياً خفيضاً لا شكّ فيه، يلهمه اليمين الكاتالوني، ويفهم أنّ الاتصال مع المناطق الأقل نمواً في الدولة الإسبانية هو عبء.
يبقى السؤال: هل بالإمكان قيام فدراليّة في كاتالونيا؟ من الواضح عدم إمكانية ذلك وفقاً لاستفتاء 1 تشرين الأول، وهو الأمر الذي يختلف عن الاستطلاع الرمزي في 9 تشرين الثاني 2014. ما الذي يمكن لشخص ليس استقلالياً ولا إسبانياً ولا قومياً متعصباً أن يصوّت له في 1 تشرين الأول؟ إنّ جوهر الإطار الذي تمّ فيه تقديم الاستفتاء ما يجعل من المستحيل على الكاتالونيين أن يعبروا عن أنفسهم بشكل كلي من خلاله.
7. تتجاوز الحاجة إلى ضمانات مسألة الشرعية. عندما نقول بأنّ العملية ليس فيها أيّ ضمانات، فإننا لا نشير إلى شرعيتها وكأنّ من ضمن أولوياتنا أن نحترم نظام عام 1978، بل بسبب فائدتها كآليّة لحلّ النزاعات. لا يقتصر الأمر على تحييد النظام الفيدرالي، بل بكون التصويت قد استخدم كسلاح سياسي أكثر من كونه أداة لتوجيه الصراع. تشير النزاعات داخل الحكومة الكاتالونية إلى أنّ الاستفتاء سيحمل القليل معه. سوف يكون عرضاً للقوّة، وشرعي، ولكن دون قدرة عملية على استخدامه.
إنّ الذي يجب ضمانه هو أنّ الشعب الكاتالوني يستطيع عند مشاورته أن يعبر عن نفسه بوضوح وأن يعطي رأيه بعد نقاش جاد وصارم. يمكن للحق في تقرير المصير بكل تأكيد أن يوضّح الانقسامات الاجتماعية، ولكن ليس بالشكل المقترح في تشرين الأول. يجب أن يكون لأولئك الذين يريدون التصويت على الانفكاك عن نظام 1978 دون التصويت لصالح الاستقلال مساحتهم الخاصة أيضاً.
8. إنّ التقليل من قوّة البرجوازية الكاتالونية ليس بالأمر الجيّد. صحيح أنّ جزءاً كبيراً من البرجوازية الكاتالونية لا تبدو بأنّها تؤيّد الاستقلال، وصحيح أيضاً أنّ التوترات اندلعت في إطار التقارب بين يمين الوسط القديم وبين "الديمقراطي الأوربي"، لكن يصعب التصديق بأنّ البرجوازية الكاتالونية حمقاء لهذا الحد حتّى لا تتمكن من ترك العملية تجري بأيدي قوات تابعة لها. لقد رأينا بأنّ النخب الكاتالونية لا تزال تحكم على مدى السنوات الخمس الماضية. وبشأن الجذور، فأنا لست متأكداً من الذي يسيطر على من. من الواضح أنّ هناك تحالفاً للقوى يستطيع تمرير قوانين مكافحة الإخلاء، وهذا أمر إيجابي للغاية، لكنني لا أرى كيف يمكن لهذا الأمر أن يبرر الاستقلال. لقد كان هناك قوانين تمنع إخلاء السكان في كلّ من نافارا والأندلس، وقد أسقطها جميعها نظام 1978 عبر المحكمة الدستورية. هذا يقودني على أيّة حال إلى التفكير بالعدو المشترك وليس باستقلال جزء من الأجزاء.
9. هل الاستفتاء هو أفضل طريقة للانفكاك عن النظام؟ هذا ما يدعيه يونك والكثيرين غيره من اليسار. المشكلة هي أنّه حتّى لو افترضنا بأنّ الاستقلال هو أفضل طريقة للانفكاك عن النظام (وهو شيء لا أوافق عليه كون النظام مؤسس على نمط إنتاج ومجموعة من هياكل السلطة، والتي لن يتم تغييرها بمجرّد إيجاد المزيد من الدول)، فإنّ هذه العملية ليست لنا.
نحن لا نتحكم بأيّ من متغيرات هذا الانفصال. قد يحدث أيّ شيء في هذا السيناريو دون تقرير أيّ شيء قبلاً. هل سيحكم رفاقنا في "التوافق الشعبي" في سياق ما بعد الاستقلال، أم أنّ اليمين الكاتالوني هو من سيسيطر؟ هل سيعيد الاستقلال إطلاق قوى الانفصال في بقيّة الدولة أم أنّه سيقود إلى تراجعهم في مواجهة قوميّة إسبانيّة جديدة؟
أنا لم اختر الاقتباس عن بريخت في البدء جزافاً. فأنا مقتنع بأنّ القومية الإسبانيّة خلقت آلاف القوميين الكاتالونيين. بأيّة حال، تولّد القومية الكاتالونيّة أيضاً المزيد من المشاعر القوميّة في كافّة أنحاء إسبانيا. وتحضرني وأنا أتفحص هذه المعضلة الأحداث المصيرية التي وقعت عام 1914 عندما خان كلّ من الديمقراطيين الاشتراكيين الألمان والفرنسيين طبقتهم من أجل الدفاع عن أممهم. أنا سأفضّل على النقيض من ذلك أن أفكر بصيغ تسمح لنا بالحديث عن الانفصال الديمقراطي والاجتماعي عبر الموجة القادمة من الأسفل، والتي يمكن من خلاله لشعوبنا أن تعمل معاً.
وفي الختام: تجبر القوى الرأسماليّة الطبقات الشعبية على التنافس ضدّ بعضها البعض في المجال الإنتاجي وفي الكثير من المجالات الأخرى. نحن نتنافس على الوظائف وللحصول على الخدمات ومن أجل المركز الاجتماعي. لقد عرف الكتاب الكلاسيكيّون العظام في تقاليدنا (ماركس وإنغلز ولوكسمبورغ ولينين وغرامشي ...الخ) ذلك جيداً جداً، وأدركوا بأنّ الطبقة هي حقيقة موضوعية – تعتمد على الوظيفة التي نشغلها داخل المجال الإنتاجي – وأنّها مؤسسة اجتماعياً كذلك. وهكذا وعلى سبيل المثال، تمّ تخصيص تعبير "تشكيل الطبقة" للدلالة على عمليّة إنشاء منظمات مثل الأحزاب والنقابات.
عندما ننظم فإننا نقوم بأكثر من التنسيق: نعلن ما يجمعنا قبالة النظام الذي يفرقنا. هذه هي الطريقة التي يمكن بها تأسيس "نحن" بحيث نتفادى "الحرب بين الفقراء"، والتي تشكل حالة نموذجية في ظلّ الرأسمالية. لم يكن شعار "يا عمّال العالم اتحدوا" مجرّد دلالة على الكرامة، بل هو يعبّر عن العموميّة داخل حالة خاصّة – أي أنّ الجزء المسلوب والذي يعاني من البشرية يكافح من أجل تحرير نفسه من واقع العوز في جميع أنحاء العالم. هذا هو ما أركّز عليه، الجزء المجرّد من وجهة نظري العالمية والتي تتبلور في تحليل ملموس. إنّ موقفي واضح فيما يتعلق بالمسألة الكاتالونية: الحق في تقرير المصير وجمهورية فيدرالية. والاشتراكية العابرة للحدود أيضاً.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني