دائرة أبحاث الكونغرس: دور الولايات المتحدة في العالم
سحب القوات الأمريكية من أوروبا والخليج سوف يحرر مليارات الدولارات
جون مارشيمر وستيفن والت جون مارشيمر وستيفن والت

دائرة أبحاث الكونغرس: دور الولايات المتحدة في العالم

عندما يقال بأن هنالك أزمة وانقسامٌ يعتريان المشهد لدى الإدارة الأمريكية، يشكك البعض في صحة ذلك، مستنداً إلى أحلامه باستمرار الولايات المتحدة كشرطي عالمي ضد مصالح الشعوب، في هذه المادة، تتبين واضحة حدود الاعتراف الأمريكي بوجود حالة التراجع أولاً، وحالة الانقسام تالياً.

تعريب وإعداد: عروة درويش

للمرّة الأولى في التاريخ الحديث، يقوم عددٌ كبير من الأمريكيين بالتساؤل بشكل صريح عن استراتيجيّة بلادهم الكبرى. لقد وجد مركز أبحاث (PEW) في استطلاع أجراه عام 2016 بأنّ 57% من الأمريكيين يوافقون على أنّ على الولايات المتحدة أن «تتعامل مع مشاكلها الخاصّة وتترك الآخرين يعالجون مشاكلهم بأفضل ما يستطيعون». أثناء الحملات الانتخابيّة، وجد كلّ من مرشح الحزب الديمقراطي برني ساندرز ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، أينما حلّوا بأنّ الناس منفتحون على مساءلة ميل الولايات المتحدة إلى تعزيز الديمقراطيّة وتقديم المساعدة لدفاع الحلفاء والتدخل بشكل عسكري. وبهذا لم يتبقّى سوى مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون وحيدة في دفاعها عن الوضع الراهن.

ولا ينبغي أن يكون استياء الأمريكيين من الاستراتيجيّة الكبرى السائدة حالياً أمراً مفاجئاً، نظراً لسجلّه السيء خلال ربع القرن الأخير. في آسيا: تقوم الهند والباكستان وكوريا الشماليّة بتوسيع ترسانتهم النووية، وتقوم الصين بتحدي الوضع الراهن في المياه الإقليميّة. في أوروبا: ضمّت روسيا القرم، وغرقت العلاقات بين الولايات المتحدة وموسكو في أسوأ مستوى لها منذ الحرب الباردة. لا تزال قوّات الولايات المتحدة تقاتل في أفغانستان والعراق دون انتصار يلوح في الأفق. وقد انتشر تنظيم القاعدة، رغم خسارته لمعظم قادته الإقليميين، في جميع أنحاء المنطقة. وقد سقط العالم العربي في حالة من الاضطراب، وذلك بجزء كبير منه بسبب قرارات الولايات المتحدة بتغيير الأنظمة في العراق وليبيا وبذل جهود متواضعة لفعل المثل في سوريا، لتخرج «الدولة الإسلاميّة» أو داعش من رحم هذه الفوضى. وقد فشلت محاولات الولايات المتحدة المتكررة للوساطة في السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ممّا ترك حلّ الدولتين أبعد من التحقيق من أيّ وقت فائت.

هناك طريقة أفضل لتتبعها الولايات المتحدة: إنّها استراتيجيّة «التوازن الخارجي». ستتخلّى واشنطن من خلال اتباع هذه الاستراتيجيّة عن الجهود الطموحة لإعادة تشكيل المجتمعات الأخرى والتركيز على ما يهم حقّاً: الحفاظ على الهيمنة الأمريكيّة في نصف الكرة الأرضيّة الغربي ومواجهة الهيمنة المحتملة في أوروبا وشمال شرقي آسيا والخليج الفارسي/العربي. فبدلاً من لعب دور الشرطي العالمي، ستشجّع الولايات المتحدة البلدان الأخرى على تولي زمام المبادرة في تفحّص القوى الصاعدة، والقيام بنفسها بالتدخل عند الضرورة.

هذا لا يعني التخلّي عن موقع الولايات المتحدة كقوّة عظمى وحيدة، أو التراجع إلى «حصن أمريكا». بل يعني عوضاً عن ذلك بأنّ التوازن الخارجي، من خلال تعزيزه لقوّة الولايات المتحدة، سوف يحافظ على أولويّة الولايات المتحدة في المستقبل وسوف يضمن الحريات في الداخل.

وضع الأهداف الصحيحة:

إنّ الولايات المتحدة هي القوّة العظمى الأكثر حظّاً في التاريخ الحديث. كان على الدول الرائدة الأخرى أن تعيش مع خصوم يهددونهم في فنائهم الخلفي، فحتّى بريطانيا واجهت احتمال غزوها عبر القنال الإنكليزيّة في أكثر من مرّة. بينما لم تختبر الولايات المتحدة مثل هذا الشيء لأكثر من قرنين، كما أنّ القوى الكبرى البعيدة لم تشكّل الكثير من الخطر لوجود محيطين هائلين يقفان في الطريق. وكما صاغ جان يوليوس جوسراند، السفير الفرنسي في الولايات المتحدة بين عامي 1902 و1924، الأمر: «لدى الولايات المتحدة في الشمال جارة ضعيفة، وفي الجنوب جارة ضعيفة أخرى، وفي الشرق هناك سمك، وفي الغرب هناك سمك».

سمح لها هذا، إضافة لبعض العوامل الأخرى، أن تبقى قويّة وآمنة دون اتباع استراتيجيّة كبرى مكلفة وواسعة. ستلعب استراتيجيّة التوازن الخارجي ذات هذا الدور. سيكون شاغل هذه الاستراتيجيّة الرئيسي هو إبقاء الولايات المتحدة قويّة قدر الإمكان، بحيث تبقى الدولة المهيمنة في الكوكب.

بأيّ حال، وخلافاً للعزلة، يعتقد مؤيدو التوازن الخارجي بأنّ هناك أقاليم خارج نصف الكرة الغربي تستحق أن يبذل الأمريكيون الدم والمال للدفاع عنها. هناك اليوم ثلاثة مناطق مهمّة للولايات المتحدة: أوروبا وشمالي شرق آسيا والخليج الفارسي/العربي. تعدّ أوروبا وشمالي شرق آسيا مركزا القدرة الصناعيّة الرئيسيّة وموطن القوى الكبرى العالميّة، وينتج الخليج حوالي 30% من النفط العالمي.

في أوروبا وشمال شرق آسيا: يكمن التهديد الرئيسي في صعود قوّة إقليميّة مهيمنة سوف تسيطر على الإقليم، بذات القدر الذي تسيطر فيه الولايات المتحدة على نصف الكرة الغربي. سيكون لهذه الدولة نفوذ اقتصاديّ كبير، وقدرة على تطوير الأسلحة الفائقة، وإمكانيّة استعراض القوّة في جميع أنحاء العالم، وربّما الإطاحة بالولايات المتحدة في سباق التسلّح. وقد تتحالف هذه الدولة مع بلدان نصف الكرة الغربي وتتدخل بالشؤون القريبة من تراب الولايات المتحدة. وعليه فإنّ هدف الولايات المتحدة الرئيسي في أوروبا وشمالي شرق آسيا يجب أن يكون الحفاظ على توازن القوى الإقليمي بحيث تبقى أقوى دولة في كلّ إقليم، وهما في الوقت الحالي روسيا في أوروبا والصين في آسيا، قلقة جدّاً من تجوّل جاراتها في نصف الكرة الغربي. أمّا في الخليج، فإنّه من مصلحة الولايات المتحدة أن تمنع صعود أيّ قوّة مهيمنة توقف تدفّق النفط من ذلك الإقليم، ممّا سيضرّ بالاقتصاد العالمي وسيهدد الرخاء الأمريكي.

كيف سينجح ذلك:

ستقوم الولايات المتحدة وفقاً لاستراتيجيّة التوازن الخارجي بمعايرة وضعها العسكري وفقاً لتوزّع القوّة في الأقاليم الرئيسيّة. إن لم يكن هناك هيمنة محتملة في الأفق في أوروبا أو في شمال شرق آسيا أو في الخليج، فعندها لا داعي لنشر قوّات بريّة أو جويّة هناك، وتقلّ الحاجة للمؤسسة العسكريّة في الوطن أيضاً. ولأنّ الأمر يحتاج إلى سنوات عديدة كي يكتسب أيّ بلد الهيمنة على إقليمه، فسيكون لدى واشنطن الوقت الكافي كي تقوم بالرد الملائم لمنع هكذا هيمنة.

في هذه الحال، يجب على الولايات المتحدة أن تولي اهتمامها بالقوّات الإقليميّة بوصفها خطّ الدفاع الأوّل، ممّا يجعلهم يتولون مهام موازنة القوى في مناطقهم الخاصّة. ورغم أنّه بإمكان واشنطن أن تزوّد حلفائها بالمساعدة وأن تتعهّد بدعمهم إن تعرضوا لخطر الغزو، فيجب أن تمتنع عن نشر أعدادٍ كبيرة من القوّات الأمريكية في الخارج. يمكنها بشكل منطقي أن تبقي على أصول محددة عبر البحار، مثل وحدات عسكريّة صغيرة أو مرافق جمع المعلومات الاستخبارية أو المعدّات التي تمّ تثبيتها بشكل سابق، لكن يجب على واشنطن عموماً أن تمرر السلطة للقوى الإقليميّة التي تملك مصلحة أكبر بكثير في منع هيمنة أيّ دولة عليها.

بأيّ حال، إن لم يكن بمقدور هذه القوى أن تحتوي الهيمنة المحتملة بنفسها، يجب عندها على الولايات المتحدة أن تساعد في إنهاء العمل، عبر نشر ما يكفي من القوات العسكرية في الإقليم بحيث تقلب الموازين لصالحها. قد يعني هذا في بعض الأحيان أن يتم إرسال القوات قبل أن تندلع الحرب.

أثناء الحرب الباردة كمثال، أبقت الولايات المتحدة على أعداد كبيرة من القوات البرية والجوية في أوروبا، تبعاً للاعتقاد بأنّ دول أوروبا الغربية لن يكون بمقدورها أن تحتوي الاتحاد السوفييتي بنفسها. في وقت آخر كانت الولايات المتحدة لتنتظر نشوب حرب قبل أن تتدخل، إن بدا بأنّه من المرجح أن يُظهر أحد الجانبين هيمنة إقليميّة. لقد كانت هذه هي الحال أثناء الحربين العالميتين: أتت الولايات المتحدة فقط بعد أن بدا بأنّ ألمانيا ستهيمن على أوروبا.

للتوازن الخارجي فضائل عديدة. فمن خلال الحدّ من المناطق التي التزم الجيش الأمريكي بالدفاع عنها وإجبار الدول الأخرى على سحب وزنها، سوف يتم تقليل الموارد التي يجب على واشنطن أن تكرسها من أجل الدفاع، ممّا سيسمح بزيادة الاستثمار والاستهلاك في الوطن، ويقلل من تعريض حياة الأمريكيين للخطر. لقد بات حلفاء اليوم الواقعين تحت الحماية الأمريكيّة يشكلون مشكلة لم تتوقف عن النمو منذ نهاية الحرب الباردة. لنأخذ الناتو على سبيل المثال: تشكّل مساهمة الولايات المتحدة الإجمالية قرابة 46% من الناتج الإجمالي وحوالي 75% من الإنفاق العسكري.

ومن شأن التوازن الخارجي أن يقلل أيضاً من خطر الإرهاب. إنّ الهيمنة الليبراليّة تلزم الولايات المتحدة بنشر الديمقراطيّة في أماكن غير مألوفة، ممّا يستدعي في بعض الأحيان احتلالاً عسكرياً وتدخلاً بالترتيبات السياسيّة المحليّة. تعزز مثل هذه الأعمال الاستياء القومي بشكل دائم، ولأنّ المعارضين ضعفاء جدّاً في مواجهة الولايات المتحدة بشكل مباشر، يتحولون في بعض الأحيان إلى الإرهاب. وبالإضافة إلى إلهام الإرهابيين، فإنّ الهيمنة الليبراليّة تسهّل عملياتهم: يقوض استخدام تغيير النظام من أجل نشر القيم الأمريكيّة، المؤسسات المحليّة ويخلق مساحات غير خاضعة للرقابة، يمكن أن يترعرع فيها التطرّف العنيف.

وفقاً للاستراتيجيّة، ستتمركز القوات الأمريكية في الأراضي الأجنبيّة فقط عندما يكون هذا البلد في منطقة حيويّة وتصبح محلّ تهديد بالهيمنة عليها. وفي هذه الحال، فإنّ الضحايا المحتملين سينظرون إلى الولايات المتحدة بوصفها محرراً ومنقذاً بدلاً من النظر إليها على أنّها محتل. وما أن يتم التعامل مع التهديد، يمكن للقوات الأمريكية أن تعود إلى أماكنها دون أن تبقى وتتدخل بالسياسة المحليّة. سوف يقلل التوازن الخارجي من تعزيز الإرهاب المناهض للولايات المتحدة الأمريكية عبر احترام سيادة الدول الأخرى.

التاريخ المطمئن:

قد تبدو استراتيجيّة التوازن الخارجي جذريّة اليوم، لكنّها زودت السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالمنطق التوجيهي لعقود كثيرة، وخدمت البلاد كذلك. أثناء القرن التاسع عشر، انشغلت الولايات المتحدة بالتوسّع في جميع أنحاء أمريكا الشماليّة، وببناء دولة قويّة وبإقامة هيمنة في نصف الكرة الغربي. بعد أن أتمّت هذه المهمّة في نهاية القرن، أصبحت بعد وقت قريب مهتمّة بالحفاظ على توازن القوى في أوروبا وفي شمال شرق آسيا. ومع ذلك، فقد سمحت للقوى العظمى في تلك المناطق بمراقبة بعضها البعض، ولم تتدخل إلّا حين يتم الإخلال بميزان القوى كما حصل في كلا الحربين العالميتين.

خلال الحرب الباردة، لم يكن أمام الولايات المتحدة خيار سوى الذهاب الدخول إلى أوروبا وشمال شرق آسيا، حيث لم يكن باستطاعة حلفاءها في هذه المناطق أن يحتووا الاتحاد السوفييتي بأنفسهم. ولهذا أقامت واشنطن التحالفات وركزت القواعد العسكرية في الإقليمين، وحاربت في الحرب الكوريّة من أجل احتواء تأثير السوفييت في شمال شرق آسيا.

غير أنّ الولايات المتحدة بقيت في الخليج الفارسي/العربي دون أن تتدخل على الأرض، تاركة بريطانيا تأخذ زمام المبادرة في منع أيّ دولة من الهيمنة على الإقليم المليء بالنفط. بعد إعلان البريطانيين انسحابهم من الخليج في عام 1968، تحوّلت الولايات المتحدة إلى شاه إيران وإلى الملكيّة السعودية للاضطلاع بهذا الدور. عندما سقط الشاه عام 1979، بدأت إدارة كارتر ببناء «قوّات الانتشار السريع Rapid Deployment Force»، وهي قدرة عسكريّة خارجيّة مصممة لمنع إيران أو الاتحاد السوفييتي من الهيمنة على المنطقة. ساعدت إدارة ريغان العراق أثناء حربه مع إيران بين عامي 1980 و1988 لذات الأسباب. بقيت الولايات المتحدة خارجاً حتّى عام 1990، عندما هدد احتلال صدام حسين للكويت بتعزيز قوّة العراق، ووضع السعوديّة وبقيّة منتجي النفط الخليجيين في خطر. ومن أجل إعادة توازن القوى الإقليمي، أرسلت إدارة جورج بوش حملة عسكريّة لتحرير الكويت وسحق آلة صدّام العسكريّة.

باختصار، لقرابة قرن، منعت استراتيجيّة التوازن الخارجي ظهور هيمنة إقليميّة خطرة وحافظت على توازن قوى عالمي عزز الأمن الأمريكي. ومن الجدير بالذكر أنّه عند انحراف صانعي السياسة الأمريكيين عن هذه الاستراتيجيّة، كما فعلوا في فيتنام حيث لم يكن لدى الولايات المتحدة مصالح حيوية، كانت النتائج فشلاً ذو كلفة عالية.

تعلمنا الأحداث منذ نهاية الحرب الباردة ذات الدرس. ففي أوروبا، وحال انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يعد هناك في الإقليم قوّة مهيمنة. كان على الولايات المتحدة أن تخفّض وجودها العسكري بشكل مستمر، وأن تقيم علاقات طيبة مع روسيا، وأن تضع عبء الأمن الأوربي على الأوربيين. لكنّها قامت عوضاً عن ذلك بتوسيع الناتو وتجاهل المصالح الروسية، ممّا ساعد على إثارة الصراع مع أوكرانيا، وعلى تقريب موسكو من الصين.

وكان على الولايات المتحدة أن تفعل المثل في الشرق الأوسط، بأن تتحوّل إلى الخارج بعد حرب الخليج وأن تدع إيران والعراق يوازنان بعضهما البعض. لكن عوضاً عن ذلك، قامت إدارة كلينتون بتبني سياسة «الاحتواء المزدوج»، وهو ما تتطلّب إبقاء قوّات بريّة وجويّة في السعوديّة من أجل مراقبة إيران والعراق في وقت واحد. ثمّ تبنّت إدارة بوش الابن استراتيجيّة أكثر طموحاً أطلق عليها اسم «التحوّل الإقليمي»، حيث نتج عنها فشلٌ ذريع في أفغانستان والعراق. وكررت إدارة أوباما الخطأ عندما ساعدت على الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا، وعندما فاقمت الفوضى في سوريا عبر الإصرار على أنّ بشار الأسد «يجب أن يرحل» وعبر دعم بعض خصومه. لقد كان التخلي عن التوازن الخارجي بعد الحرب الباردة هو الوصفة من أجل الفشل.

آمال الهيمنة الفارغة:

يلقي التاريخ الحديث ظلالاً من الشك على الادعاء بأنّ القيادة الأمريكيّة قد حافظت على السلام. على مدى الـ 25 عاماً الماضية، قامت واشنطن إمّا بالتسبب أو بدعم عدّة حروب في الشرق الأوسط، وأثارت صراعات متفرقة في أماكن أخرى. إن كان يفترض بالهيمنة الليبرالية أن تعزز الاستقرار العالمي، فقد قامت بعمل سيء. كما أنّ هذه الاستراتيجيّة لم تنتج الكثير في مجال تحقيق منافع اقتصاديّة.

في الحقيقة، كان الاقتصاد الأمريكي ليكون في وضع أفضل اليوم لو لم تنفق الحكومة هذا القدر من المال وهي تحاول إدارة العالم. كما أنّ أنصار الهيمنة الليبرالية يدعون بأنّ على الولايات المتحدة أن تبقى ملتزمة بمنع الانتشار النووي في جميع أنحاء العالم. لكنّ هذه الاستراتيجيّة فشلت بكل الأحوال، فهي لم تمنع الهند وباكستان من زيادة قدراتهما النووية، ولا كوريا الشمالية من أن تصبح أحدث عضو في النادي النووي، ولا إيران من إحراز تقدّم كبير في برنامجها النووي. غالباً ما تسعى البلدان للحصول على القنبلة لأنّها تخشى أن تتمّ مهاجمتها، وسلوك الولايات المتحدة قد عزز من هذه المخاوف فقط.

وهم الديمقراطيّة:

يرفض بعض النقّاد الآخرون استراتيجيّة التوازن الخارجي لأنّهم يظنون بأنّ الولايات المتحدة تحمل واجباً أخلاقياً واستراتيجياً لتعزيز الحريّة ولحماية حقوق الإنسان. وبأنّ نشر الديمقراطيّة سوف يحدّ بشكل كبير من الحرب والفظائع.

إنّ أسوأ ما حصل هو أنّ القيام بنشر القيم الليبراليّة بالإكراه في الخارج قد عرّض هؤلاء الذين ينشرونها للخطر في وطنهم. إنّ الحرب العالمية على الإرهاب والجهود المتصلة به لفرض الديمقراطيّة في أفغانستان والعراق، قاد لتعذيب السجناء والقتل وللرقابة الإلكترونية الهائلة على مواطني الولايات المتحدة.

يتطلّب تعزيز الديمقراطيّة هندسة اجتماعيّة واسعة النطاق في مجتمعات أجنبيّة يفهما الأمريكيون بشكل سيء، وهو ما يساعد على شرح سبب فشل جهود واشنطن. إنّ تفكيك المؤسسات السياسيّة القائمة واستبدالها بأخرى سيؤدي حتماً إلى خلق فائزين وخاسرين، وكثيراً ما يلجأ الخاسرون إلى السلاح في معارضتهم. عندما يحدث هذا، يعتقد المسؤولون الأميركيون بأنّ مصداقيّة بلادهم على المحك، وتغريهم عندها فكرة أنّ استخدام القوّة العسكريّة الرهيبة للولايات المتحدة سوف يحلّ المشاكل، ممّا يؤدي لسحب البلاد إلى المزيد من النزاعات.

الاستراتيجيّة موضع التنفيذ:

ما الذي يمكن لاستراتيجيّة التوازن الخارجي أن تبدو عليه في عالم اليوم؟ الخبر السار هو أنّه يصعب علينا أن نتنبأ بالتحدي الخطير للهيمنة الأمريكيّة في نصف الكرة الغربي. وفي الوقت الحاضر، لا يوجد هيمنة محتملة في أوروبا أو في الخليج. أمّا الخبر السيء: إن استمرّت الصين صعودها المذهل، فمن المحتمل بأن تسعى للهيمنة على آسيا. على الولايات المتحدة أن تبذل جهوداً كبيرة لمنعها من النجاح.

بشكل نموذجي، كانت واشنطن لتعتمد على القوى المحليّة من أجل احتواء الصين، ولكنّ هذه الاستراتيجيّة قد لا تنجح. ولا يعود السبب فقط إلى أنّ الصين أقوى بكثير من جيرانها، بل أيضاً إلى كون هذه الدول تقع بعيداً جدّاً عن بعضها البعض، ممّا يصعّب تشكيل تحالف ذا وزن بينها. ستضطرّ الولايات المتحدة إلى تنسيق جهودها وقد يكون عليها وضع ثقلها فيه. في آسيا: يمكن للولايات المتحدة أن تكون الأمّة التي لا غنى عنها بكل تأكيد.

في أوروبا: يجب على الولايات المتحدة أن تنهي وجودها العسكري وأن تسلّم الناتو إلى الأوربيين. ليس هناك سبب وجيه لإبقاء قوّات الولايات المتحدة في أوروبا، حيث ليس هناك أيّ دولة تملك القدرة على الهيمنة على الإقليم.  إنّ المنافسين الأقوى هما روسيا وألمانيا، وستخسر كلتاهما قوتها بشكل نسبي بتقلّص حجم سكانها، ولا يوجد أيّ هيمنة محتملة أخرى في الأفق. ومن المسلّم به أنّ ترك الأمن الأوربي للأوربيين قد يزيد من احتمال المشاكل هناك، بيد أنّ أيّ نزاع ينشأ هناك لن يكون له أيّ تهديد على المصالح الأمريكيّة الحيويّة. وعليه، ليس هناك من داعٍ لإنفاق مليارات الدولارات سنوياً (وتعريض حياة المواطنين للخطر) من أجل منع نشوب أحد هذه النزاعات.

في الخليج: ينبغي على الولايات المتحدة أن تعود إلى استراتيجيّة التوازن الخارجي التي خدمتها بشكل جيّد إلى حين ظهور الاحتواء المزدوج. لا توجد ولا قوّة محليّة قادرة على الهيمنة على المنطقة الآن، وبالتالي يمكن للولايات المتحدة أن تعيد معظم قواتها إلى الأفق المناسب لها.

أمّا بما يخصّ داعش، فعلى الولايات المتحدة ترك القوى الإقليميّة تتعامل مع تلك المجموعة وأن تقصر جهودها الخاصّة على توفير الأسلحة والمعلومات الاستخباريّة والتدريب العسكري. «فالدولة الإسلاميّة» تشكّل خطراً كبيراً عليهم، بينما هي مشكلة صغيرة بالنسبة للولايات المتحدة. والحلول طويلة الأمد يمكن فقط أن تقوم بها المؤسسات المحليّة، وهو أمر لن تستطع واشنطن القيام به.

في سوريا: يجب على الولايات المتحدة أن تدع روسيا تأخذ زمام المبادرة. إنّ سوريا التي كانت مستقرة تحت سيطرة الأسد، أو المقسمة بين متنافسين صغار، لن تشكّل خطراً يذكر على مصالح الولايات المتحدة. إنّ لكلا الحزبين: الديمقراطي والجمهوري، تاريخ حافل بالعمل مع نظام الأسد، وسوريا مقسمة وضعيفة لن تهدد توازن القوى الإقليمي. إن استمرّت الحرب الأهليّة، فهي ستكون مشكلة موسكو بشكل كبير، رغم أنّ واشنطن يجب أن تكون مستعدّة لتقديم العون في الوساطة للوصول لتسوية سياسيّة.

في الوقت الراهن يجب السعي لتحسين العلاقات مع إيران. ليس من مصلحة واشنطن أن تتخلّى طهران عن الاتفاق النووي وأن تتسابق للحصول على القنبلة، وهي النتيجة الأكثر احتمالاً للحدوث إن خشيت هجوم الولايات المتحدة، ولهذا فمن المنطقي إصلاح العلاقات. علاوة على ذلك، كلما نمت طموحات الصين، كلما أرادات حلفاء أكثر في الخليج، ومن المرجح أن تتصدّر إيران اللائحة المتاحة. إنّ مصلحة الولايات المتحدة الواضحة تكمن في تثبيط التعاون الأمني الصيني الإيراني، وهذا الأمر يتطلّب كي تحقق أن تصل إلى إيران.

إنّ لدى إيران عدد أكبر بكثير من السكان وقدرات اقتصاديّة أعظم من جيرانها العرب، وقد تصبح في نهاية المطاف في وضع ملائم للهيمنة على الخليج. إن بدأت بالتحرّك بهذا الاتجاه، فعلى الولايات المتحدة أن تساعد بقيّة دول الخليج على موازنة الوضع مع طهران، وأن تعاير جهودها ووجودها العسكري الإقليمي من أجل مواجهة الخطر

زبدة القول:

ستسمح هذه الخطوات مجتمعة للولايات المتحدة بتخفيض إنفاقها العسكري بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من أنّ القوات الأمريكيّة سوف تبقى في آسيا، فإنّ سحبها من أوروبا والخليج سوف يحرر مليارات الدولارات، كما سيقلل من الإنفاق على مكافحة الإرهاب ويضع حدّاً للحرب في أفغانستان وغيرها من التدخلات الخارجيّة. ستحتفظ الولايات المتحدة بأرصدة بحريّة وجويّة كبيرة وقوى بريّة صغيرة ولكن فاعلة، وستكون مستعدة لتوسيع قدراتها إذا اقتضت الظروف ذلك. لكن في المدى المنظور، يمكن للحكومة الأمريكيّة أن تنفق المزيد من الأموال على الاحتياجات المحليّة، أو أن تتركها في جيوب دافعي الضرائب.

إنّ التوازن الخارجي هو استراتيجيّة من حجم كبير.

عن موقع دائرة أبحاث الكونغرس

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الأربعاء, 15 تشرين2/نوفمبر 2017 16:16