في تفسير حمّى «البحث عن بديل لـ2254»!

في تفسير حمّى «البحث عن بديل لـ2254»!

أتابع في هذه المادة النقاش المفتوح مع المثقف المحترم، الأستاذ فؤاد شربجي، وآخر فصوله مادةٌ للدكتور شربجي نشرت اليوم الخميس 17 أيار بعنوان: «نقاش مستمر مع قطب معارض: كل البدائل متاحة من أجل سورية».

وأبدأ النقاش بتثبيت مسألتين لهما بعدهما الفلسفي، وأعتقد أن ذلك ضروري لتحقيق أرضية لفهم مشترك:

أولاً: حول (الحتمية)

يفتتح د. شربجي مقاله بانتقاد ناعمٍ للحتمية المتضمنة في قولنا: «لا بديل عن 2254»، ويسارع إلى تبرئتنا وتنزيهنا عن «تهمة الوقوع في الحتميات». ولذا لا بديل أمامنا سوى أن نؤكد له هذه التهمة! نعم 2254 هو حتمية: والحتمية بالمعنى الفلسفي الماركسي مشتقة من الضرورة القانونية الموضوعية، وهي بالضد تماماً من «الجبرية» الفلسفية التي تشابه القضاء والقدر ضمن التفكير المثالي الفلسفي. وبهذا المعنى فإنّ زمن الحتميات لم ولن ينتهي، فالحتمية بما هي الضرورة المترتبة على القوانين الموضوعية، باقية بقاء المادة وبقاء الوجود الموضوعي، شأنها في ذلك شأن قوانين انحفاظ الطاقة والمادة، وقوانين التطور وغيرها من القوانين العلمية.

ثانياً: حول (العام)

ينتقل د. شربجي بعد ذلك إلى البناء على قولنا إنّ «2254 ليس إلا تصوراً عاماً»، ليستنتج منه أنّ 2254 (وما دام مجرد تصور عام) فإنّه قابل للاستبدال، وأنّه بطريقة أو بأخرى: قليل الأهمية. وهنا أيضاً نجد أنّ من الضرورة بمكان إعادة الاعتبار لما تعنيه كلمة (عام) ببعدها الفلسفي: فإذا كان الاستخدام الدارج لكلمات (عام، وعمومي، وبشكل عام... وإلخ) توحي بسطحية الأمر المعني، بل وبقلة شأنه (وهذا الإيحاء واضح في مقال د. شربجي)، فإنّ المعنى الفلسفي لكلمة عام هو على العكس من ذلك تماماً: العام هو (الجوهري) المشترك بين جملة من الظواهر، وهو ما يميزها نوعياً عن ظواهر أخرى. وعليه فحين نقول إنّ «القرار 2254، ومنذ البداية، لم يكن إلا تصوراً عاماً» فلسنا نقصد التقليل من شأنه إطلاقاً، على العكس فإننا نكشف عن جانبه الجوهري الذي «يحفظه ضد التقادم (...) ويبقيه جديداً كل الجدة» كما أشرنا في مقالنا السابق، لأنّ «(الجوهري) في القرار 2254، كان ولا يزال، أنّ على السوريين أن يجدوا الحل بأنفسهم، وأن يتفقوا عليه عبر الحوار فيما بينهم».

يفنّد د. شربجي -ونوافقه في ذلك- تفسير بعض أطراف المعارضة لـ2254 بأنّه طريقة لاستلام وتسليم السلطة، ولكن ما نخالفه فيه هو مطابقته بين 2254 وبين هذا التفسير! وليس جديداً على متشددين في الموالاة (ولا نقصد د. شربجي هنا بأي شكل من الأشكال)، أنْ يقوموا بهذه المطابقة، وأن يستندوا إليها ليرفضوا 2254. ولكن قبل الحديث عن هذا الصنف من المتشددين (في الموالاة)، لا بد من التذكير بأسئلة ثلاث تركتها مفتوحة في مادتي السابقة، ولم أحصل على إجابة عليها، هي التالية (باختصار):

  1. لماذا يضع البيت الأبيض شرطاً تعجيزياً على استئناف محادثات جنيف، هو «تصريح الحكومة السورية بمخزونها من الأسلحة الكيمائية»، وهو ما يعني أنّ البيت الأبيض يقول بشكل غير مباشر: «نعم سنذهب لجنيف لتطبيق 2254 ولكن سننسف إمكانية تطبيقه قبل ذلك»!؟
  2. لماذا يسعى الغربيون لتقديم مشروع قرار جديد «شامل» بما يتعلق بسورية، أيْ قرار بديل عن 2254؟
  3. لماذا قدمت مجموعة الخمسة ورقة مناقضة لـ2254 باعتبارها وصفة الحل؟

ويمكننا أن نضيف إلى الأسئلة السابقة، عدداً كبيراً من أسئلة (لماذا؟) تعليقاً على تصريحاتٍ وكتاباتٍ بالجملة من الصنف المتشدد من المعارضة، يرفضون فيها 2254 ويعتبرونه «صناعة روسية معادية».

بالعودة إلى الصنف الآخر من المتشددين، متشددي الموالاة الذين لم يتوقفوا يوماً عن مهاجمة 2254، وإذا كان توصيف «حمّى الكرسي» صحيحاً بما يتعلق بمتشددي المعارضة، فإنّه لا يقل صحة إذا ما استخدم لوصف متشددي الموالاة؛ فما يضيرهم في 2254 أنّه يتحدث عن حوار حقيقي بين السوريين تكون نتائجه ملزمة، وليس كحال التوصيات الـ18 للقاء التشاوري في تموز 2011، والتي لم ينفذ منها سوى النزر اليسير.

ما يضيرهم أيضاً، هو الحديث عن شراكة بين الحكومة والمعارضة ضمن جسم حكم انتقالي، وهنا ينبغي التوقف قليلاً... إنّ المطابقة بين جسم الحكم الانتقالي (وهو جسم بلا تعريف محدد ضمن القرار، بل تُرك للسوريين أنفسهم ليحددوا ماهيته وطبيعته على أساس الحوار فيما بينهم)، وبين استلام وتسليم السلطة، هو ما يمكن وصفه فعلاً بحمى الكرسي لدى متشددي المعارضة، والتي تكافئ شعار «إسقاط النظام». ولكن بالمقابل فإنّ محاولة نسف 2254 بغرض نسف الحوار ونسف جسم الحكم الانتقالي (الذي، ومرة أخرى، تخضع ماهيته وتعريفه للحوار والاتفاق بين السوريين)، هو المكافئ لشعار «الحسم» الذي يتبناه متشددو الموالاة، ويعني ضمناً أن مسائل الصلاحيات والسلطات غير قابلة للنقاش، ليس مع دول وأطراف خارجية (وهذا طبيعي ومحق)، ولكن أيضاً غير قابلة للنقاش مع السوريين أنفسهم! بما يعني أنّ ما يقال عن «حوار تحت سقف الوطن» إنما يقصد منه حوار لا يقترب من «المحرمات» وهذه المحرمات هي مسائل السلطة!

يتجسد الرفض السابق عبر حمّى البحث عن بديل لـ2254، بديل يصبح معه الحوار بين السوريين (عاماً: بمعنى سطحي وشكلي وغير ملزم)، والتجربة خير برهان. هنا، لا بد من الاتفاق مع د. شربجي أنّ العمل السياسي هو بحث مستمر عن بدائل أفضل، ولكن بجانب منه فقط! فالعمل السياسي يعني أيضاً النضال لتحقيق الأهداف والخيارات المبدئية؛ هل يمكن القول إنّ من الضروري البحث عن بديل لخيار مقاومة الصهيوني والأمريكي وحلفائه، مثلاً؟ متأكد أن د. شربجي يوافقني أنْ لا. كذلك الأمر فيما يتعلق بالأزمة السورية وإنهائها: لا بديل عن استمرار محاربة الإرهاب حتى إنهائه، لا بديل عن الحوار الحقيقي بين السوريين، وأيضاً لا بديل عن الخروج من الأزمة، وهذا الخروج لن يحدث برضى المتشددين، موالاة ومعارضة، لذا علينا أن نتحمل معاً (زعل) المتشددين، وخاصة (زعلهم) من 2254 الذي لا بديل عنه، لأنّ سورية والشعب السوري أكبر وأهم.

 
 
آخر تعديل على الخميس, 17 أيار 2018 20:56