الثقافة والعمل السياسي المنظم

الثقافة والعمل السياسي المنظم

أينما تنظر هناك هاوية. أزمات اقتصادية وشعور بالمشاكل الاجتماعية والكوارث البيئية في كل مكان على ظهر الكوكب. تقف الليبرالية عاجزة أمام هذه المشاكل وقد استسلمت للاحتكارات الرأسمالية منذ عقود طويلة. في كلّ مكان نرى «الأقوياء» يعلنون عن أنفسهم بأنّهم المخلصون والمنقذون، لكن يصعب إيجاد الأفكار الجديدة، وتحديداً تلك الأفكار التي تلتمع كشرارة في عتمة المستقبل. في هذا السياق علينا جميعاً أن نسهم في معركة الأفكار والالتزام بإنتاج مثقفين جدد.

«معركة الأفكار»

في عام 1999 قدّم فيديل كاسترو مفهوم «معركة الأفكار» إلى الجماهير. كان هناك حدثان متوازيان أجبرا كاسترو على بدء حملة عامّة حول الأفكار والأخلاق، أولهما: سقوط الاتحاد السوفييتي. وثانيهما: تأثير هذا السقوط على كوبا.
سقط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وانحلّت معه الأحلام التي بدأت مع ثورة 1917. ومع هذا الانهيار بدا بأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها هم المنتصرون في الصراع على تحديد المسار الذي ستسلكه البشرية. في ذلك الوقت، برز أحد موظفي وزارة الخارجية الأمريكيين كأحد «المثقفين» النخبويين الذين استخدموا فهمهم لهيغل ليعبّروا عن المرحلة بنشر ما بدا حتمياً في وقتها. كان هذا الموظف هو فرانسيس فوكوياما الذي أعلن «نهاية التاريخ». وكانت عناصر حاضرة هي:
- النظام العالمي حيث الولايات المتحدة وحلفاؤها هم القوى المهيمنة.
- سياسات السوق المفروضة ستضمن استمرار هيمنة رأس المال الاحتكاري.
- يجب تصدير نوع الحكومات الديمقراطية- الليبرالية إلى البلدان حول العالم.
وضع فوكوياما ومن شابهوه الماركسية جانباً، وتمّ التعامل معها كما لو كانت شيئاً عفا عليه الزمن. كان يُقال بأنّ الاشتراكية والشيوعية قد انهزمتا في الحرب الباردة وانتهى الأمر. لقد انتصرت الفكرة الليبرالية القائلة بأنّ الفرد يجب أن يبقى بمأمن من تدخل الدولة، وذلك على حساب الفكرة القائلة: بأنّه يجب استخدام جميع الأدوات «بما فيها تدخل الدولة» لخلق عالم أكثر عدلاً.
كما قال كاسترو: لقد أجبرت الحقبة الجديدة اليسار على الدخول في معركة فكرية مع النيوليبراليين الذين أرادوا أن يصبح العالم ملعباً لذوي الأملاك. لقد كانت أفكار البرجوازيين خانقة. افترضوا بأنّه يمكن فهم التركيبة الاجتماعية- النفسية للإنسان بكاملها عبر الطمع، وبأنّ تعظيم الربح– وهو المدى العاطفي لرجل الأعمال– يمكنه أن يصف ويصنف ويفسر كامل السلوك البشري. لقد آمنت هذه الفكرة كما قال كاسترو: بأنّ الإنسان مجرّد حيوان «يتحرّك إمّا عبر جزرة أو عندما يُضرب بالسوط». لم يرَ الليبراليون في الإنسان ذلك الكائن الذي يراه الاشتراكيون، كائناً معقداً يحبّ ويهتم ويفكر ويعتبر.
كانت تلك هي اللحظة، لحظة إغلاق الأبواب الأكاديمية ببطء أمام عالم الماركسية وغيرها من النظريات التحررية، هي التي دفعت كاسترو وحكومته إلى إطلاق معركة الأفكار للدفاع عن إبداع ونقدية الماركسية. اقتبس كاسترو قول خوسيه مارتي: «إنّ خندق الأفكار هو بذات أهمية خندق الحجارة»، فالصراع داخل مختلف المؤسسات الفكرية والثقافية كان بأهمية الصراع في الشوارع.

أثر التراجع– كوبا نموذجاً

أدّى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى مرور كوبا بتحديات صعبة جداً. لقد اعتمدت كوبا بشكل كلي على الاتحاد السوفييتي من أجل واردات القمح والأرز. كما تداعت الصادرات الكوبية من السكر إلى الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية بشكل هائل. أوقفت روسيا الجديدة كامل المساعدات إلى كوبا. والسفن التي كانت تحمل المحاصيل الكوبية إلى أنحاء العالم على سبيل التضامن، بدأت تطلب أجورها بالعملة الصعبة، الأمر الذي كان مستحيلاً على كوبا. كما شددت الولايات المتحدة من حصارها على كوبا، لتبدو بأنّها منعزلة. كان الأمر كارثياً على كوبا.
كان على كوبا أن تقاوم. وقد حملت الكارثة بعض النتائج الإيجابية كتعزيز الاعتماد على الزراعة الصديقة للبيئة، وخلق مؤسسات جديدة تستفيد من البيئة إلى أقصى حد دون تدميرها، مثل: الحفاظ على الشعاب المرجانية الكثيفة وتشجيع استخدام الطاقات المتجددة لتلبية الحاجات الكوبية. لكنّ هذا لم يكن كافياً لتلبية الاحتياجات النقدية لكوبا، ولهذا شرعوا بتعزيز السياحة والتعدين.
كان على «معركة الأفكار» أن توجد، كان عليها أن تمنح الآلية لحشد عمل شعبي يسدّ الطريق على الإرباك الذي أدت إليه السياحة واستخراج الموارد والبؤس الاقتصادي. كانت الشبيبة الشيوعية هي من أخذت زمام المبادرة. فقد دافعت عن القيم الشيوعية عبر حملات جماهيرية لتوضيح دور الإمبريالية في المعاناة التي تمرّ بها كوبا. عبّر كاسترو عن هذه المقاومة بالقول: «... لقد ركزنا على تحسين الأشياء المادية، المزيد من الحليب والمزيد من الملابس والمزيد من الجبن والمزيد من الأشياء المادية. بالنسبة لي إنّ الاشتراكية هي تغيير كلي في حياة الناس وتأسيس قيم جديدة وثقافة جديدة؟، يجب أن تستند بشكل أساس على التضامن بين الناس، وليس على الأنانية والفردية».

تأخّر «نهاية التاريخ»

مرّ وقت طويل منذ إطلاق معركة الأفكار في كوبا، وقد أنُقذت بشكل جزئي مع وصول المشروع البوليفاري إلى أمريكا اللاتينية، حيث أدى تعزيز التعاون بين فنزويلا التشافيزية وكوبا إلى فكّ عزلة كوبا واستفادة فنزويلا من المساعدة التقنية الكوبية. وذلك رغم المرحلة الخطرة التي تمرّ فيها فنزويلا اليوم وما يحمله ذلك من تأثيرات سلبية على كوبا.
لكنّ ما لم يمرّ عليه ما يكفي من الوقت لنسيانه، هو فرانسيس فوكوياما ونهاية التاريخ التي أنكرها بعد مدّة. لقد أجّل بشكل أو بآخر نهايته للتاريخ. لقد عادت الكتب إلى تناول مدى خطورة التفاوت في الثروة الذي وصل إلى مستويات فاحشة. دفعت الأزمة المالية 2007-2008 الكثير من المراقبين إلى الإشارة إلى أنّه يتوجب العودة إلى كارل ماركس من جديد لفهم ما يحدث. في معقل الغرب بدأنا نسمع عن سياسيين يحتلون الساحات بمطالبتهم بالاشتراكية. بينما اندلعت الاحتجاجات على طول الخطّ الذي تتناوله النظرية الماركسية، من أوكلاند في كاليفورنيا إلى باريس في فرنسا. 
ليست قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي سوى إشارات متزايدة على تصدّع الهيمنة. لم يعد الأثرياء يدعون بأنّ لديهم الحلول لمشاكل العالم، وقلّة هم الذين لا يزالون يصدقون بأنّ الخصخصة وريادة الأعمال هي الطرق نحو المستقبل. حتّى المليارديرية لديهم شكوكهم بأنّ الجدران المرتفعة والحرس المسلحين سيكونون قادرين على حمايتهم من المياه التي يرتفع منسوبها بفعل التغيّر المناخي، أو من تجمّع الحشود واتجاهها نحوهم. لم تعد الأفكار البرجوازية عن نهاية التاريخ قادرة على الوقوف بصلابة في وجه مشاهد هجوم قوات الكيان الصهيوني على الفلسطينيين في غزة، ولا في وجه هجوم القوات الأمريكية على الهندوراسيين في ريو غرانده. لا نهاية للتاريخ، والصراع مستمر بين النظام الحالي والأمل بمستقبل أفضل.

ما يعرفه الفأر

قال ماركس: «لم يفعل الفلاسفة إلى اليوم سوى محاولة فهم العالم، بينما ما يجب أن يحدث هو تغييره». يمكن اقتباس ماركس هنا للإشارة إلى من يطلقون على نفسهم- يساعدهم في ذلك هيمنة الإعلام- اسم «مثقفين». يطمر هؤلاء رأسهم في مشاغل يومهم، ولا يبدو بأنّهم يريدون أن يغيروا أيّ شيء. لقد قال عنهم ماركس قبل ذلك: «قطيع صامت ومذعن ويطيع معدته». يجب أن ينتهي هذا السلوك، وهو ينتهي فقط عبر ما سمّاه ماركس «الممارسة الثورية». تشير هذه الممارسة إلى كلا السلوك من المجتمع والالتزام بالإسهام في تحويله. إنّ السلوك من المجتمع، أو الموقف، هو ما يشير إلى أنّ التشكيلات الاجتماعية ليست خالدة بل عرضة للتغيير، فهي دائماً في حالة حركة. وبما أنّها دوماً في حالة حركة فمن الممكن الكفاح لجعلها أكثر إنسانية. هذه ببساطة مهمة المثقفين.
لقد وجد ماركس بأنّه يستحيل إنكار الرغبة بالتغيير. وهذه الرغبة هي ذاتها التي دفعت ماركس والعديد من المثقفين الذين أتوا بعده إلى المضي بحثاً عن جذور وأسباب اللامساواة والبؤس في المجتمع. لم يكن رفض البرجوازية هو فقط ما قادهم إلى الحقيقة. إنّ إنشاء نظام معرفي جديد وإنتاجهم لأدوات جديدة تعتمد بالكامل على صيغ مختلفة هو من قادهم إليها. إنّ النظر إلى الواقع من منظور تاريخي وفهم أنّ الأفكار مشروطة بزمانها هو ما يجعلهم مثقفين. عليهم فهم أنّ البنى البشرية والعمليات الاجتماعية تأتي من مكان ما، وبالتالي هي تذهب إلى مكان آخر.
هؤلاء المثقفون الذين توالوا جيلاً بعد آخر هم من صاغوا المبادئ التحررية. لكنّهم قلّة، سواء في الفضاء الأكاديمي أو الفني. فالالتزامات القديمة بالرتبة الاجتماعية والمال ليست أمراً يسهل تفاديه. لقد كان هؤلاء «المثقفون» ممّن عزلوا أنفسهم كأنهم أرباب يعيشون بعيداً في جبلهم الشاهق، ناسين أنّهم منتجات الدولة والمجتمع الذي استخدم فائض القيمة لبناء مؤسساتهم.
يكتب هؤلاء عن العالم، ولكنهم يعتقدون بأنّهم مترفعون عن تناقضاته. مع أنّ هذه التناقضات تحديداً هي من تنتج لهم رتبهم الاجتماعية. منذ عقود طويلة وهؤلاء يتلّطون خلف الأسوار والشهادات والمصطلحات اللغوية الطنانة. كتب فرانز فانون عن اللغة الطنانة: «إن عمل اللغة الغامضة أن تخفي وراءها ما يجري من أعمال النهب الكبرى». يظنّ هذا النوع من المثقفين بأنّ كلماتهم أسمى من كلّ ما حولهم، لكنّ الفأر الذي يقضم الورق المدون يعلم بأنّهم يعيشون في هذا العالم ومتجذرون فيه وبأنّهم يمارسون فقط عادات طبقتهم ويحوزون على غريزة طبقتهم. يقول فانون عن المثقف الملتزم بقضايا ومشاريع الطبقة العاملة بأنّه يفكر: «بإمكانية شرح كلّ شيء للناس، ولكن بشرط أن تملك الرغبة بالقيام بذلك».
وكما قال غرامشي بوضوح، وهو الذي أتى بعد نصف قرن من ماركس: ليس هناك شيء يسمّى نوع مثقف واحد، بل هناك العديد من أنواع المثقفين. ولهذا ميّز غرامشي بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي، ومثقف النوع الجديد. ليس المثقفون طبقة بحدّ ذاتها، بل هم متجذرون في الطبقة التي ينتمون إليها وراثياً أو في الطبقة التي تطوروا وباتوا ملتزمين بها. وعليه تنتج كلّ طبقة مثقفيها. تحتاج الطبقة الرأسمالية إلى مثقفيها الخاصين، اقتصاديون ليبراليون «مختصون بالاقتصاد السياسي» ومدراء إعلان «منظمو الثقافة الجديدة». كلّ واحد من هؤلاء المثقفين يسوّق نفسه على أنّه محايد ومترفّع عن الطبقات وملتزم بالعلم. لكن في حقيقة الأمر هم محكومون بموقع طبقي محدد، وبنظرة للعالم تمّ تشكيلها بناء على احتياجات الطبقة الرأسمالية. على سبيل المثال: يصرّ الاقتصاديون الرأسماليون على أنّ الجوع في العالم سببه الندرة، ومثل هؤلاء لا يعرفون، أو يتجاهلون أن يعرفوا، بأنّ العالم ينتج في حقيقة الأمر 150% من مستلزماته الغذائية. المزارعون يفهمون المحاصيل وأوبئتها والطقس الخاص بها، وهم الذين يتشاورون مع المزارعين الآخرين حول الأخطاء في الحقل أو يسعون للنصيحة من أجل الري. هؤلاء هم المثقفون الحقيقيون في مجال الزراعة. كلّ مثقف هو عضوي لطبقته. هؤلاء هم المثقفون العضويون. هؤلاء المثقفون كما لاحظ غرامشي: «يمنحون التجانس والوعي بوظيفتهم» للطبقات التي ينتمون إليها.

التجديد الثقافي معركة مستمرة:

كتب المسرحي الماركسي برتولد بريخت في عام 1935 ملاحظة صغيرة عن الرأسمالية والفاشية: «هؤلاء الذين يقفون ضدّ الفاشيّة دون أن يكونوا ضدّ الرأسمالية هم كالذين يرغبون بأكل لحم العجل، لكنّهم يقفون ضدّ ذبحه. هؤلاء يرضون بسهولة إن قام الجزّار بغسل يديه قبل أن يزن لهم اللحم. هؤلاء لا يقفون ضدّ علاقات الملكية التي تولّد البربرية، بل هم فقط البربرية نفسها». تسمح الإستراتيجيات الرأسمالية للرأسماليين بزيادة ثرواتهم، ولكن في ذات الوقت تُفقر بقية الناس والمجتمع. يُطلب إلى الناس أن يكونوا «وطنيين»، بينما لا يطلب من رأس المال سوى أن يكون مدراً للربح.
إنّ الأوضاع الثقافية الحالية تشكّل تحدياً جدياً لليسار. المجموعة الأولى: من التحديات تتلخص في إيجاد طريقة لتنظيم الناس الذين لمسوا تشظي مجتمعهم وتمّت إعاقة توقعاتهم. المجموعة الثانية: من التحديات تتضمن كيفية إيجاد سياسة للخروج من هذا النظام وتخطي محدوديته.
يستمر مثقفو البرجوازية بتجريعنا الفكرة الغبية وكأنّها من المسلمات: «إنّ تخيّل نهاية العالم هو أسهل من تخيّل نهاية الرأسمالية». لقد باعونا لفترة طويلة أفكارهم عن أنّ الإبادة متجذرة في طبيعة البشر وأنّنا أنانيون بالفطرة وأشرار بالولادة، وقد اشترينا منهم ما يكفي لنكتشف بأنّ بضائعهم فاسدة وزائفة. هل سنسمح لهؤلاء في السلطة أن يحطموا المزيد من الأفكار عن مستقبل جديد؟ هذا سؤال ثقافي بالدرجة الأولى.
يطرح البعض أنّ علينا التخلّص من المفاهيم والظواهر الاجتماعية الناجمة عن الرأسمالية، ليكون النضال ضدها فعالاً... فيقولون إن علينا رمي أفكارٍ وتبني أخرى، إذ علينا مثلاً أن نتخلص من التسليع والتشييء والفردية، وأن نتخلص من التشظي في الحركة الاجتماعية والاغتراب عن الواقع المحسوس والعزلة بالافتراضي، وأن ننبذ الكره والفاشية، وأن نعيد للديمقراطية وجهها الحق... وإن كانت هذه النتائج هي نتائج على بنية الوعي، وتعيق الوعي الثوري، إلّا أن الحقيقة المادية تقول إنّ نقل الأفكار إلى قوّة مادية يحتاج إلى اكتمال الشروط الواقعية الفعلية، شروط البنية المادية التحتية، ليستطيع الوعي البشري تحطيم مخلفات البنية الفوقية للواقع القديم. لا نستطيع أن نحقق الديمقراطية الحقّة حيث يتساوى الجميع، إلا بمهاجمة الملكية وليس عدم المساواة فقط، ولا نستطيع أن ننهي الفردية والتشظي والاغتراب الاجتماعي، إلا بالنضالات الجماعية السياسية التي تدمج الجميع وتعزل النخبة، ولن نستطيع أن ننهي ثقافة العنف والكره إلا بقبول «العنف الضروري» والصراع ضد مولّدي البربرية والفاشية المستعدين للدفاع عن منظومتهم حتى آخر بشري. لن تنتصر معركة الأفكار إلا بإعادة الاعتبار لوعي الضرورات المرحلية لعملية النضال الثوري... إلا بإعادة الاعتبار للعمل السياسي المنظم للجماهير، والمثقف المسيّس المنتمي لنضالات مجتمعه.

 
آخر تعديل على الإثنين, 26 آب/أغسطس 2019 21:13