«العالم على مفترق طرق، ونظام علاقات دولية من أجل المستقبل»/ الترجمة العربية الكاملة
سيرغي لافروف سيرغي لافروف

«العالم على مفترق طرق، ونظام علاقات دولية من أجل المستقبل»/ الترجمة العربية الكاملة

كتب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هذا المقال، الذي نشرته اليوم مجلة «روسيا في الشؤون العالمية» وموقع وزارة الخارجية الروسية، 20 أيلول/سبتمبر 2019. قامت قاسيون بترجمته وتنشره فيما يلي.

في هذه الأيام، تُفتَح الجلسة الرابعة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة. وكذلك يفتَتَحُ «موسم سياسي» دولي جديد.

تبدأ الجلسة في لحظة تاريخية رمزية للغاية. في العام القادم سنحتفل بمناسَبتَين مترابطتَين، كل منهما ذكرى سنوية عظيمة – الذكرى 75 للنصر في الحرب الوطنية العظمى والحرب العالمية الثانية، وإنشاء الأمم المتحدة.

عند التفكير في الأهمية الروحية والأخلاقية لهذه الأحداث التاريخية، يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار المعنى السياسي الهائل للنصر الذي أنهى واحدة من أكثر الحروب وحشية في تاريخ البشرية.

لقد أثرت هزيمة الفاشية في عام 1945 بشكل أساسي على المسار اللاحق للتاريخ العالمي وخلقت ظروفًا لإقامة نظامٍ عالمي بعد الحرب، أصبح ميثاق الأمم المتحدة إطاره الحامل ومصدرًا رئيسيًا للقانون الدولي حتى يومنا هذا. ما يزال النظام المركزي للأمم المتحدة يحافظ على استدامته ولديه درجة كبير من المرونة. إنه في الواقع نوع من شبكة الأمان التي تضمن التطور السلمي للبشرية وسط تباين كبير وطبيعي في المصالح والتنافس بين القوى الكبرى. لا تزال تجربة زمن الحرب للتعاون الخالي من الأيديولوجيات بين الدول ذات النظم الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية المختلفة، تجربةً على قدرٍ عالٍ من الملاءمة.

من المؤسف أن هذه الحقائق الواضحة يتم إسكاتها أو تجاهلها عمداً من جانب بعض القوى المؤثرة في الغرب. وعلاوة على ذلك، كثف البعض من محاولاته لخصخصة النصر، ولشطب دور الاتحاد السوفياتي في هزيمة النازية من الذاكرة، نافياً إلى غياهب النسيان الإنجاز الفذ للجيش الأحمر في التضحية والتحرير، متناسياً الملايين العديدة من المواطنين السوفييت الذين قضوا نحبهم خلال الحرب، ماحياً من التاريخ عواقب سياسة الاسترضاء المدمِّرة. من هذا المنظور، من السهل فهم جوهر فكرة المساواة بين الأنظمة الشمولية. إذ إنّ هدفها ليس فقط التقليل من شأن المساهمة السوفيتية في النصر، ولكن أيضًا تجريد بلادنا من دورها التاريخي، بأثرٍ رجعي، كمهندسٍ وضامن للنظام العالمي لما بعد الحرب، ووصمها بأنها «قوة تحريفية» تشكل تهديداً لسلامة ما يسمى العالم الحر.

إن تفسير الماضي بهذه الطريقة يعني أيضًا أن بعض شركائنا يرون في إنشاء صلة عبر الأطلسي والغرس الدائم للوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، إنجازاً رئيسياً لنظام العلاقات الدولية بعد الحرب. هذا بالتأكيد ليس هو السيناريو الذي كان في ذهن الحلفاء عند إنشاء الأمم المتحدة.

تفكُّك الاتحاد السوفيتي؛ وسقوط جدار برلين، الذي كان يفصل رمزياً بين «المعسكرَين»؛ والمواجهة الأيديولوجية التي لا يمكن التوفيق بين أطرافها، والتي حددت إطار السياسة العالمية في جميع المجالات والمناطق تقريبًا – أصبحت جميعها أشياء من الماضي، ومع ذلك، فإن هذه الانزياحات التكتونية فشلت للأسف في تحقيق انتصار أجندةٍ توحيدية. بدلاً من ذلك، كل ما سمعناه كان عبارة عن تصريحاتٍ ظافرة بأنّ «نهاية التاريخ» جاءت وأنه من الآن فصاعدًا سيكون هناك مركز عالمي واحد فقط لصنع القرار.

من الواضح اليوم أن الجهود المبذولة لإنشاء نموذج أحادي القطب قد فشلت. إنّ تغيُّر النظام العالمي أصبح لا رجعة فيه. ولاعبون رئيسيون جدد يمسكون بقاعدة اقتصادية مستدامة من أجل زيادة نفوذهم في التطورات الإقليمية والعالمية؛ وإنّ لهم الحق الكامل في المطالبة بدور أكبر في عملية صنع القرار. وثمّة مطلبٌ متزايد لنظام أكثر عدلاً وشمولاً. الغالبية الساحقة من أعضاء المجتمع الدولي يرفضون السياسات الاستعمارية الجديدة المتعجرفة التي يتم توظيفها مرة أخرى لتمكين بعض البلدان من فرض إرادتها على الآخرين.

كل هذا مزعجٌ للغاية لأولئك الذين اعتادوا لقرون على تحديد أنماط التطور العالمي من خلال استخدام مزايا حصرية. وبينما تطمح غالبية الدول إلى نظامِ علاقات دولية أكثر عدلاً، واحترامٍ حقيقيٍّ وليس تصريحيّ لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فإن هذه المطالب تعارض السياسات الموضوعة للحفاظ على نظام يسمح لمجموعة ضيقة من البلدان والشركات العابر للقوميات بأن تجني من ثمار العولمة. إن استجابة الغرب للتطورات الجارية تكشف عن الرؤية الحقيقية لأنصاره. إذْ يسير خطابهم حول الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان جنبًا إلى جنب مع سياسات عدم المساواة والظلم والأنانية والإيمان باستثنائيتهم.

إنّ «الليبرالية» التي يدَّعي الغرب أنّه يدافع عنها، تُركِّز على الأفراد وحقوقهم وحرياتهم. هذا يستدعي السؤال التالي: كيف يتوافق هذا مع سياسة العقوبات والخنق الاقتصادي والتهديدات العسكرية العلنية ضد عدد من الدول المستقلة مثل كوبا أو إيران أو فنزويلا أو كوريا الشمالية أو سوريا؟ إنّ العقوبات تضرب مباشرة الناس العاديين وسلامتهم وتنتهك حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية. كيف لقصفِ الدول ذات السيادة، و اتباعِ سياسةٍ متعمّدة لتدمير دولهم تؤدّي لفقدان مئات الآلاف من الأرواح وتلقي بملايين العراقيين والليبيين والسوريين وممثِّلي الشعوب الأخرى إلى معاناة لا حصر لها – كيف لهذا أن يضيف إلى الالتزام بحماية حقوق الإنسان؟ إنّ مقامرة الربيع العربي المتهوِّرة دمّرت الفسيفساء العرقية والدينية الفريدة في الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا.

في أوروبا، يتماشى مؤيدو المفاهيم الليبرالية تمامًا مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق السكان الناطقين بالروسية في عدد من دول الاتحاد الأوروبي وجواره. تلك الدول تنتهك الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف من خلال اعتماد قوانين تنتهك حقوق الأقليات العرقية في التعليم واللغة.

ما هو الشيء «الليبرالي» في رفض التأشيرات والعقوبات الأخرى التي يفرضها الغرب على سكان شبه جزيرة القرم في روسيا؟ إنهم يعاقبون على تصويتهم الديمقراطي لصالح إعادة التوحيد مع وطنهم التاريخي. ألا يتعارض هذا مع الحق الأساسي للشعب في حرية تقرير المصير، ناهيك عن حق المواطنين في حرية التنقل المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية؟

كانت الليبرالية، أو بالأحرى جوهرها الحقيقي غير المشوَّه، مكوِّنًا مهمّاً للفلسفة السياسية في كل من روسيا والعالم. ومع ذلك، فإن تعدد نماذج التنمية لا يسمح لنا بالقول إن «سلة» القيم الليبرالية الغربية ليس لها بديل. وبالطبع، لا يمكن حمل هذه القيم «على الحراب» – في تجاهلٍ لتاريخ الدول وهوياتها الثقافية والسياسية. والأسى والدمار الناجم عن القصف الجوي «الليبرالي» مؤشرٌ واضح على ما يمكن أن تؤدي إليه.

عدم رغبة الغرب في قبول حقائق اليوم، وفقدانه صلاحيته بأن يكون الوحيد الذي يضع جدول الأعمال العالمي بعد قرون من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، أدى إلى نشوء مفهوم «النظام القائم على القواعد». إذ يتم اختراع «القواعد» وتوليفها بشكل انتقائي اعتمادًا على الاحتياجات العابرة للأشخاص الذين يقفون وراءها، ويقوم الغرب باستمرار بإدخال هذه اللغة في الاستخدام اليومي. وهذا المفهوم ليس مجرداً بأية حال ويجري تنفيذه بشكل فعّال. والغرض منه هو الاستعاضة عن الأدوات والآليات القانونية الدولية المتَّفَق عليها عالمياً بإحلال صِيَغٍ ضيقة بدلاً منها، حيث يتم تطوير أساليب بديلة غير متفق عليها لحلِّ مختلف المشكلات الدولية في تحايلٍ على إطار شرعي متعدد الأطراف. وبعبارة أخرى، المتوقّعُ هو اغتصاب عملية صنع القرار بشأن القضايا الرئيسية.

تؤثر نوايا من بدأوا مفهوم «النظام القائم على القواعد» على الصلاحيات الاستثنائية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. مثال حديث: عندما فشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في إقناع مجلس الأمن بالموافقة على القرارات السياسية التي اتهمت، دون أي دليل، الحكومةَ السورية باستخدام المواد السامة المحظورة، بدأوا بالترويج لـ«القواعد» التي يحتاجون إليها من خلال منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW). ومن خلال التلاعب بالإجراءات الحالية، وفي انتهاكٍ صارخ لاتفاقية الأسلحة الكيميائية، تمكَّنوا (بتصويت أقلية من الدول المشاركة في هذه الاتفاقية) من تخويل الأمانة الفنية لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتحديد المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية، الأمر الذي شكَّل تدخلاً مباشراً في صلاحيات مجلس الأمن الدولي. يمكن للمرء أن يلاحظ أيضاً محاولات مماثلة «لخصخصة» أمانات المنظمات الدولية من أجل تعزيز المصالح خارج إطار الآليات بين الحكومية الدولية العالمية في مجالات مثل عدم الانتشار البيولوجي وحفظ السلام ومنع تعاطي المنشطات في الألعاب الرياضية، وغيرها.

إن مبادرات تنظيم الصحافة التي تسعى إلى قمع حرية الإعلام بطريقة تعسفية، وأيديولوجية التدخل المتمثلة في «مسؤولية الحماية»، والتي تبرِّر «التدخلات الإنسانية» العنيفة دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بذريعة وجود تهديد وشيك لسلامة المدنيين، هي جزء من السياسة نفسها.

وبمعزل عن هذا، ينبغي إيلاء الاهتمام للمفهوم المثير للجدل «مكافحة التطرف العنيف»، والذي يلقي اللوم على نشر الأيديولوجيات المتطرفة وتوسيع القاعدة الاجتماعية للإرهاب على الأنظمة السياسية التي أعلن الغرب أنها غير ديمقراطية أو غير ليبرالية أو استبدادية. يوفر هذا المفهوم التواصل المباشر مع المجتمع المدني من فوق رؤوس الحكومات الشرعية. ومن الواضح أن الهدف الحقيقي هو سحب جهود مكافحة الإرهاب من تحت مظلة الأمم المتحدة والحصول على أداة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.

إدخال مثل هذه المفاهيم الجديدة هو ظاهرة تحريفية خطيرة، ترفض مبادئ القانون الدولي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وتمهد الطريق للعودة إلى أزمان المواجهة والعداء. ومناقشة الغرب الصريحة لوجود فجوة جديدة بين «النظام الليبرالي القائم على القواعد» و «القوى الاستبدادية»، ليست مناقشةً بلا سبب.

إنّ التحريفية تتجلى بوضوح في مجال الاستقرار الاستراتيجي. فالولايات المتحدة التي نسفت أولاً «معاهدة الحد من المنظومات المضادة للقذائف التسيارية» ABM، والآن «معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى» INF (وهو قرار يتمتع بدعم أعضاء الناتو بالإجماع)، قد ولَّدت مخاطر تفكيك هيكل اتفاقات الحد من الأسلحة النووية بأكمله. وما تزال غامضةً آفاق «معاهدة تدابير زيادة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحد منها» (ستارت الجديدة) – لأن الولايات المتحدة لم تقدم إجابة واضحة على الاقتراح الروسي بالموافقة على تمديد معاهدة ستارت الجديدة إلى ما بعد تاريخ انتهاء صلاحيتها في شباط/فبراير 2021.

نشهد الآن إشارات مفزعة عن إطلاق حملة إعلامية في الولايات المتحدة لإرساء الأساس للتخلي عن «معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية» (التي لم تصادق عليها الولايات المتحدة). وهذا يشكك في مستقبل هذه المعاهدة، التي تعد حيوية للسلم والأمن الدوليين. شرعت واشنطن في تنفيذ خططها لنشر أسلحة في الفضاء الخارجي، ورفضت اقتراحات للاتفاق على وقف عالمي لهذه الأنشطة.

وهناك مثال آخر على إدخال «قواعد» تحريفية: انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهو اتفاق متعدد الأطراف أقره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والذي له أهمية أساسية لعدم انتشار الأسلحة النووية.

ومثال آخر أيضاً، هو رفض واشنطن الصريح لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بالإجماع بشأن تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

في المجال الاقتصادي، تتكون «القواعد» من الحواجز الحمائية، والعقوبات، وإساءة استخدام وضع الدولار الأمريكي كوسيلة دفع أساسية، وضمان المزايا التنافسية بالطرق غير السوقية، واستخدام الولايات المتحدة لقوانينها خارج حدودها الإقليمية، حتى تجاه أقرب حلفائها.

في الوقت نفسه، يحاول زملاؤنا الأمريكيون بثبات تعبئة جميع شركائهم الأجانب لاحتواء روسيا والصين. في الوقت نفسه، لا يخفون رغبتهم في زرع الشقاق بين موسكو وبكين وتقويض التحالفات متعددة الأطراف ومشروعات التكامل الإقليمي في أوراسيا وآسيا والمحيط الهادئ التي تعمل خارج إشراف الولايات المتحدة. تمارَس الضغوط على البلدان التي لا تلتزم بالقواعد المفروضة عليها وتجرؤ على اتخاذ «خيار خاطئ» للتعاون مع «أعداء» الولايات المتحدة.

إذَنْ، ماذا لدينا بالنتيجة؟ في السياسة، تآكلُ الأساس القانوني الدولي، تنامي عدم الاستقرار وعدم الاستدامة، تفتيت فوضوي للمشهد العالمي، وتعميقٌ لعدم الثقة بين المشاركين في الحياة الدولية. في مجال الأمن، تشويش الخط الفاصل بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، عسكرة العلاقات الدولية، زيادة الاعتماد على الأسلحة النووية في العقائد الأمنية الأمريكية وخفض عتبة استخدام هذه الأسلحة، ظهور بؤرٍ جديدة للنزاعات المسلحة، واستمرار التهديد الإرهابي العالمي، وعسكرة الفضاء الإلكتروني. في الاقتصاد العالمي، زيادة التقلبات، المنافسة الشديدة على الأسواق وموارد الطاقة وطرق الإمداد بها، والحروب التجارية وتقويض النظام التجاري متعدد الأطراف. يمكننا إضافة موجة الهجرة وتعميق الصراع العرقي والديني. فهل نحن بحاجة إلى مثل هذا النظام العالمي «القائم على القواعد»؟

على هذه الخلفية، فإن محاولات الأيديولوجيين الليبراليين الغربيين تصويرَ روسيا على أنها «قوة تحريفية» هي مجرد محاولات سخيفة. كنا مِن أوائل من لفتوا الانتباه إلى تحول النظم السياسية والاقتصادية العالمية التي لا يمكن أن تظل ثابتة بسبب المسيرة الموضوعية للتاريخ. من المناسب أن نذكر هنا أن مفهوم التعددية القطبية في العلاقات الدولية الذي يعكس بدقة الحقائق الاقتصادية والجيوسياسية الناشئة تمت صياغته قبل عقدين من قبل رجل الدولة الروسي البارز يفغيني بريماكوف. وما يزال إرثه الفكري ملائماً الآن ونحن نحتفل بالذكرى التسعين لميلاده.

كما يتضح من تجربة السنوات الأخيرة ، فإن استخدام الأدوات أحادية الجانب لمعالجة المشكلات العالمية محكوم عليه بالفشل. «النظام» الذي يروج له الغرب لا يلبي احتياجات التنمية المتناغمة للبشرية. هذا «النظام» غير جامع، ويهدف إلى تحريف الآليات القانونية الدولية الرئيسية، ويرفض مبدأ العمل الجماعي في العلاقات بين الدول، وهو بالتعريف لا يمكن أن يولد حلولًا للمشاكل العالمية بحيث تكون حلولاً قابلة للحياة ومستقرة على المدى الطويل، بقدر ما أنه بدلاً من ذلك يسعى للحصول على تأثير دعائي ضمن دورة انتخابية في هذا البلد أو ذاك.

ما الذي تقترحه روسيا؟ بادئ ذي بدء، من الضروري مواكبة العصر والتعرف على ما هو واضح: ظهور بنية عالم متعدد المراكز عمليةٌ لا رجعة فيها، مهما حاول أي أحد جهده لكبحها بشكل مصطنع (ناهيك عن دفعها في الاتجاه المعاكس). لا ترغب معظم الدول في أن تكون رهينةً للحسابات الجيوسياسية لأحدٍ آخر، وهي مصممة على إدارة سياسات داخلية وخارجية ذات توجه وطني. من مصلحتنا المشتركة التأكد من ألّا تستند التعددية القطبية إلى توازن صارخ للقوة كما كان في المراحل الأولى من تاريخ البشرية (على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين)، بل أنْ تحمل طبيعة ديمقراطية وتوحيدية، آخذةً في الاعتبار مقاربات وهموم جميع المشاركين في العلاقات الدولية دون استثناء، وضامنةً مستقبل مستقر وآمن.

هناك بعض الأشخاص في الغرب كثيراً ما يتكهنون بأن نظاماً عالمياً متعدد المراكز يؤدي حتماً إلى مزيد من الفوضى والمواجهة لأن «مراكز القوة» ستفشل في التوصل إلى اتفاق فيما بينها واتخاذ قرارات مسؤولة. ولكن، أولاً، لماذا لا نحاول؟ ماذا لو كان يعمل؟ لذلك، كل ما هو ضروري هو بدء المحادثات على أساس أن الأطراف يجب أن تسعى إلى تحقيق توازن في المصالح. ويجب إيقاف محاولات اختراع «القواعد» الخاصة بالآخرين وفرضها عليهم. من الآن فصاعدًا، يجب على جميع الأطراف الامتثال الصارم للمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بدءًا من احترام المساواة في السيادة بين الدول بصرف النظر عن الحجم أو نظام الحكم أو نموذج التنمية. ومن المفارقات أن البلدان التي تصور نفسها على أنها نماذج من الديمقراطية، إنما تهتم بها فعليًا فقط لتطالب الدول الأخرى «بترتيب منزلها» على نمط مستوحى من الغرب. ولكن بمجرد الحاجة إلى الديمقراطية في العلاقات الدولية بين الحكومات، فإنهم يتهربون فورًا من الحديث الصادق أو يحاولون تفسير القواعد القانونية الدولية حسب تقديرهم الخاص.

لا شك أن الحياة لا تهدأ. وفي حين ينبغي العناية جيداً بنظام العلاقات الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يعتمد على الأمم المتحدة، من الضروري أيضًا توخي الحرص في ملاءمته تدريجياً مع واقع المشهد الجيوسياسي الحالي. هذا مهم تمامًا لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث إنّ الغرب، وفقًا لمعايير اليوم، قد بالَغ في التمثيل غير العادل. نحن على ثقة بأن إصلاح مجلس الأمن يجب أن يأخذ في الاعتبار مصالح الدول الآسيوية والأفريقية ودول أمريكا اللاتينية، في الوقت نفسه الذي يعتمد فيه أي تصميم من هذا القبيل على مبدأ أوسع توافق بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ويجب أن ينطبق النهج نفسه على تحسين نظام التجارة العالمي، مع إيلاء اهتمام خاص لمواءمة مشاريع التكامل في مختلف المناطق.

يجب أن نستخدم إلى أقصى حد إمكانات مجموعة العشرين، وهي هيئة حوكمة عالمية طموحة وشاملة وتمثل مصالح جميع الأطراف الفاعلة الرئيسية وتتخذ قرارات بالإجماع. تلعب الرابطات الأخرى دورًا متناميًا أيضًا، كتحالفات تنبئ بروح التعددية القطبية الحقيقية والديمقراطية، بناءً على المشاركة الطوعية والإجماع وقيم المساواة والبراغماتية السليمة والامتناع عن نهج المواجهة والتكتُّل. وهي تشمل بريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون، وبلدنا روسيا عضوٌ ناشط فيها وهي سوف ترأسها في عام 2020.

من الواضح أنه بدون جهد جماعي ودون شراكة غير متحيزة في إطار الدور التنسيقي المركزي للأمم المتحدة، من المستحيل الحد من اتجاهات المواجهة، وبناء الثقة والتعامل مع التهديدات والتحديات المشتركة. لقد حان الوقت للتوصل إلى اتفاق بشأن التفسير الموحد لمبادئ وقواعد القانون الدولي بدلاً من محاولة اتباع المقولة القديمة «القوة تتقدَّم على الحق». التوسط في الصفقات أصعب من طرح المطالب. لكن المقايضات التي يتم التفاوض بشأنها بصبر ستكون وسيلة أكثر موثوقية للتعامل بشكل متوقَّع مع الشؤون الدولية. هناك حاجة ماسة لمثل هذا النهج لبدء محادثات موضوعية حول شروط وأحكام نظام موثوق وعادل للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوروبا الأطلسية وأوراسيا. تم الإعلان عن هذا الهدف عدة مرات على أعلى مستوى في وثائق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. من الضروري الانتقال من الأقوال إلى الأفعال. وقد أعربت رابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي مرارًا وتكرارًا عن استعدادهما للمساهمة في هذه الجهود.

من المهم زيادة مساعدتنا للحل السلمي للعديد من الصراعات، سواء في الشرق الأوسط أو إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية أو الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي. النقطة الأساسية هي الارتقاء إلى مستوى الترتيبات السابقة بدلاً من اختراع ذرائع لرفض الإيفاء بالالتزامات.

اعتباراً من اليوم، من المهم بشكل خاص مواجهة التعصب الديني والإثني. نحثُّ جميع الدول على العمل سويًا للتحضير للمؤتمر العالمي للحوار بين الأديان والأعراق الذي سيعقد في روسيا في أيار/مايو 2022 تحت رعاية الاتحاد البرلماني الدولي والأمم المتحدة. يجب على منظمة الأمن والتعاون في أوروبا التي صاغت موقفًا مبدئيًا يدين معاداة السامية أن تتصرف بعزم مماثل تجاه رهاب المسيحية والإسلاموفوبيا.

إن أولويتنا غير المشروطة هي مواصلة تقديم المساعدة لتشكيل الشراكة الأوراسية الكبرى دون عوائق، وهي إطار تكامل واسع يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ والذي يشمل الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وجميع البلدان الأخرى في القارة الأوراسية، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي. سيكون من عدم الحكمة تطويق العمليات التوحيدية أو، الأسوأ من ذلك، نصب الأسوار. سيكون من الخطأ رفض المزايا الاستراتيجية الواضحة للمنطقة الأوروبية الآسيوية المشتركة في عالم متزايد التنافس.

إن التحرك المستمر نحو هذا الهدف البنّاء سيتيح لنا ليس فقط الحفاظ على التطور الديناميكي للاقتصادات الوطنية وإزالة العقبات أمام حركة البضائع ورأس المال والعمل والخدمات، ولكنه سيخلق أيضًا أساسًا قويًا للأمن والاستقرار في جميع أنحاء المنطقة الواسعة من لشبونة إلى جاكرتا.

هل سيستمر العالم متعدد الأقطاب في الظهور من خلال التعاون وتنسيق المصالح أم من خلال المواجهة والتنافس؟ هذا يعتمد علينا جميعاً. ستواصل روسيا الترويج لأجندة إيجابية وتوحيدية تهدف إلى إزالة الخطوط الفاصلة القديمة ومنع ظهور خطوط جديدة. قامت روسيا بمبادرات متقدمة لمنع سباق التسلح في الفضاء الخارجي، وإنشاء آليات فعالة لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك الإرهاب الكيميائي والبيولوجي، والاتفاق على تدابير عملية لمنع استخدام الفضاء الإلكتروني لتقويض الأمن القومي أو لأغراض إجرامية أخرى.

لا تزال مقترحاتنا لإطلاق مناقشة جادّة حول جميع جوانب الاستقرار الاستراتيجي في العصر الحديث مطروحة على الطاولة.

كانت هناك أفكار طفت على السطح مؤخرًا لتعديل جدول الأعمال وتحديث الشروط. وتختلف الموضوعات المقترحة للمناقشة بين «التنافس الاستراتيجي» و «الردع المتعدد الأطراف». المصطلحات قابلة للتفاوض، ولكن ما يهمّ حقاً هو ليس مصطلحات بل جوهر المسألة. من الأهمية بمكان الآن بدء حوار استراتيجي حول التهديدات والمخاطر الحالية والسعي إلى توافق في الآراء حول جدول أعمال مقبول بشكل عام. وكان رجل دولة بارز آخر من بلدنا، أندريه غروميكو (والذي نشهد الذكرى رقم 110 لمولده هذا العام) قد قال بحكمة: «من الأفضل أن تكون عشر سنوات من المفاوضات على أن يكون يومٌ واحد من الحرب».

آخر تعديل على الجمعة, 20 أيلول/سبتمبر 2019 18:58