حليب الأطفال والتجارة بحياتهم
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

حليب الأطفال والتجارة بحياتهم

يبحث أهالي الأطفال، وخاصة الرضع منهم ممن هم بعمر الأشهر، من صيدلية لأخرى عن عبوة حليب تناسب أطفالهم، فالأنواع المتوفرة محدودة، وكل منها مخصص لعمر محدد، وليس بالضرورة أن يكون المتوفر مناسباً لجميع الأطفال، وذلك بحسب عمر وبنية كل منهم وطبيعة تقبلهم لبعض الأنواع، وبمطلق الأحوال فذوو الأطفال محكومون بما يصفه الطبيب لطفلهم، ماركةً ونوعاً ومصدراً، وما تفرضه الضرورة بحسب ما هو متوفر لدى الصيدليات كبدائل، مستوردة أو مهربة.

فالمشكلة المرتبطة بتوفر مادة حليب الأطفال تعتبر أزمة قديمة مستجدة، فقد تكاثرت حولها وبعمقها العديد من الأسباب والذرائع طيلة السنوات الماضية من عمر الأزمة، اعتباراً من ذريعة العقوبات الاقتصادية، وليس انتهاء بذريعة تذبذب سعر الصرف، وما بين هذه وتلك تتزايد أوجه الاستغلال، التي لم تعد انعكاساتها السلبية تقتصر على صحة الأطفال والرضع، بل وصلت لتكون على حساب بقائهم على قيد الحياة في بعض الأحيان، ولم لا؟ فالتجارة شطارة، حتى وإن كانت بالحياة!.

أزمة دورية على حساب الحياة

مشكلة توفر مادة حليب الأطفال، والمتممات الغذائية الخاصة بهم، أصبحت شبه دورية، وهي ليست محصورة في مدينة دون سواها، بل لها صفة العمومية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها ربما تشتد أو تنخفض فقط.
فبين الحين والآخر تتفاقم هذه المشكلة لتصبح أزمة حقيقية، حيث تُفقد جميع الأنواع، وتحت أي من المسميات والمصادر، لتعاود بعض أنواعها بالظهور لاحقاً مقننة وبالقطارة مجدداً، طبعاً بعد رفع سعرها استغلالاً لذوي الأطفال.
هذه الأزمة الدورية لفقدان المادة أصبحت تتراوح بين الشهرين وأربعة أشهر على أبعد تقدير، وذلك بحسب الكميات الواصلة استيراداً لصالح الشركات والمستودعات الطبية، بالترافق طبعاً مع آليات العرض والطلب المتحكم بها احتكارياً، والتي تتشابك مع ذرائع العقوبات والحصار وسعر الصرف المتذبذب ارتفاعاً، والنتيجة: أن ذوي الأطفال يتخبطون بحثاً عن المادة، مع رضوخهم لما يُفرض عليهم، من أنواع وأصناف ومصادر وأسعار، بمقابلها اضطراراً، وإلّا فإن صحة وحياة أطفالهم تصبح مهددة.
ولعل الأزمة الحالية لا تختلف عن غيرها من حيث الذرائع والأسباب، فهي ربما مقترنة بارتفاع سعر الدولار الأخير، وما يرتبط به من محاولة البحث عن هوامش ربح إضافية لقاء الكميات المتوفرة من المادة عبر منعها من الوصول من الأسواق إلّا وفقاً لهامش الربح الاحتكاري المطلوب، على حساب ذوي الأطفال طبعاً.

كافة الحلقات بيد القطاع الخاص

لا صناعة محلية لمادة حليب الأطفال والمكملات الغذائية الخاصة بهم، وبالتالي، فإن كل الاحتياجات من هذه المواد يتم تأمينها عن طريق الاستيراد، مع حصة منها تدخل تهريباً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدولة لا تقوم بعمليات الاستيراد لهذه المادة عبر مؤسساتها المعنية ولصالح وزارة الصحة كما غيرها من المواد والأدوية والمستلزمات الطبية، فهي متروكة للقطاع الخاص عبر بعض المستوردين لصالح بعض الشركات والمستودعات الطبية فقط، والنتيجة: أن السوق المتحكم بالمادة من ألفه إلى يائه بيد هذا القطاع، الذي لا يعنيه إلا ما يحققه من ربح من هذه المادة، سواء دخلت بشكل نظامي وتم توزيعها بالقطارة على الصيدليات، أو بشكل غير نظامي تهريباً مع هوامش ربح إضافية، وفوق هذا وذاك الأرباح الاحتكارية المرتبطة بالكم المتوفر وحسب النوع والمصدر المرتبط بالأزمة الدورية لتوفر هذه المادة مع ذرائعها المُساقة.
وجل ما يتم القيام به على هذا المستوى، بشكل شبه رسمي، هو أن تتدخل نقابة الصيادلة أحياناً بالإشراف على بعض عمليات التوزيع للمادة على الصيدليات، بحسب الكميات الداخلة استيراداً لصالح الشركات والمستودعات.
بمعنى آخر: إن عمليات تقنين التوزيع، كماً ونوعاً، يتم تقاذف مسؤولياتها بالنتيجة بين هذه المستودعات وبين النقابة والصيادلة، في مقابل متاهة البحث عن المادة من قبل ذوي الأطفال ورضوخهم لأسعارها كنتيجة محتومة.
أمّا ما تقوم به وزارة الصحة بهذا الشأن فهو محصور بالمواصفة والتحاليل المخبرية للأنواع المستوردة فقط لا غير.

التصنيع والاستيراد

سبق أن ورد عبر إحدى الصحف الرسمية مطلع العام الحالي عن «مصدر طبي« قوله أنه: «من الصعب إقامة معمل حليب أطفال في سورية نظراً لحاجته إلى طاقة إنتاجية تغطي الوطن العربي تقريباً حتى يكون رابحاً»، مشيراً إلى أنه: «لا يوجد مستثمر يمكن أن يتبرع لإقامة مشروع كهذا يعد خاسراً بالنسبة له، بسبب تكاليف التأسيس والإنتاج العالية, إضافة إلى حاجة هذه المادة إلى طاقة إنتاجية كبيرة لتكون مربحة»، مضيفاً: «تكلفة استيراد هذه المادة من الخارج ستكون أقل من تكلفة إنتاجها محلياً».
في المقابل، جرى الحديث عبر الصحيفة الرسمية نفسها عن لسان معاون وزير الصحة بأن: «هناك خمسة طلبات على طاولة وزارة الصحة لإقامة منشآت لصناعة الحليب»، موضحاً أن: «طلبات إقامة المعامل جميعها تابعة للقطاع الخاص»، وبأن: «الطلبات قيد الدراسة ليتم وضع ضوابط التصنيع بما يوفر منتجاً يطابق كل المواصفات المطلوبة»، مع البيان بأن: «البلاد ليست بحاجة إلى خمسة معامل, وإنما معمل واحد كافٍ لسد حاجتها».
ما يعني: أن موضوعة الربح الاستثماري من هذه المنشآت الصناعية الطبية محقق ومضمون.
وإلى حين البَتّ بالطلبات المقدمة، وصولاً لإقلاع العمل في هذه المنشآت مستقبلاً، بحال الموافقة عليها، فإن موضوع تأمين وتوفر المادة محكوم بعمليات الاستيراد التي يقوم بها القطاع الخاص فقط، وما يرتبط بها من عمليات تمويل من عدمه، وذلك بحسب القوائم المعتمدة من قبل وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، سواء على مستوى المسموح منها أو على مستوى ما يتم تمويله من أصنافها، وهو أمر بين أخذ وجذب أيضاً، بحسب نوع المادة المقترنة بعمر محدد للطفل الرضيع.

الحكومة والسلبية المقصودة

برغم أهمية المادة وضرورتها الصحية والحياتية للأطفال، فإن الأزمة ستبقى مستمرة على ما يبدو في ظل استمرار الظروف والواقع الراهن، المرتهن لمصلحة المستوردين والمهربين والمحتكرين، كبارهم قبل صغارهم، كما سيبقى حال ذوي الأطفال على ما هو عليه من بحث مضنٍ عن المادة من صيدلية لأخرى، ومن مُهربٍ لآخر، ومن مدينة لأخرى أو من بلد لآخر في بعض الأحيان، مع اضطرارهم لدفع الأسعار الاحتكارية لقاء توفرها، فصحّة أطفالهم وحياتهم هي الرهينة من الناحية العملية لأهواء ومصالح هؤلاء الكبار والصغار، خاصة وأن الحكومة عبر وزارتها المعنية تقف على هامش هذه المشكلة بكل سلبية، وصولاً إلى أنها أصبحت أزمة دورية يستفيد منها هؤلاء الكبار دون رحمة أو شفقة على حساب صحة وحياة الأطفال والرضع.
فإذا كانت الظروف الحالية صعبة على الحكومة لتمويل إقامة معمل لإنتاج حليب الأطفال بكافة أصنافه ولكافة الأعمار، فربما من الأسهل البدء بخطوط إنتاج لبعض الأصناف مؤقتاً بالحد الأدنى، خاصة وأن هذه الصناعة تعتبر مربحة بدليل بدء دخول القطاع الاستثماري الخاص عليها.
وربما الحد الأقل من ذلك هو أن تقوم مؤسسة التجارة الخارجية باستيراد هذه المادة الهامة لصالح وزارة الصحة، كما غيرها من بعض الأدوية والمستلزمات الطبية الأخرى نظراً لأهميتها، وذلك لتوزيعها تحت إشرافها المباشر على الصيدليات، وذلك أضعف الإيمان.
أما أن تقف الحكومة ووزارتها المعنية وجهاتها الرسمية الأخرى وكأنها عاجزة عن حل هذه المشكلة، التي أصبحت أزمة دورية مستفحلة، فهو أمر لا يمكن تبريره إلّا ضمن سياق الحفاظ على مصالح هؤلاء الكبار من المستوردين والمهربين على حساب المواطنين، كما جرت العادة طبعاً بالتوافق مع السياسات المعمول بها، والتي لا تصب إلا في مصلحة تعزيز دور هؤلاء وزيادة حصتهم من الثروة على حساب المواطن والوطن.
فهل من بُؤسٍ أكثر من أن تصبح التجارة بصحة وحياة الأطفال والرضع، على مستوى مادة الحليب فقط، بوابة للاستغلال، ومصدراً للأرباح الاحتكارية، على أيدي حفنة من كبار المستوردين والتجار والمهربين، مع أدواتهم من المستفيدين الصغار، بعلم ودراية حكومية، بل وسلبية مقصودة منها؟!.

معلومات إضافية

العدد رقم:
919
آخر تعديل على الإثنين, 24 حزيران/يونيو 2019 15:00