الليبرالية وسِفاح القربى مع الجريمة المنظمة!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الليبرالية وسِفاح القربى مع الجريمة المنظمة!

تداولت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مؤخراً ما نُسب إلى رئيس الحكومة خلال ورشة العمل التي عقدت مطلع الشهر الحالي في رئاسة مجلس الوزراء «لدراسة آليات النهوض بالصناعات الحرفية»، بقوله: «لن نسكت عن وجود مافيا بأي مكان، ولا في أية مؤسسة حكومية»، ومطالبته «بتقديم الأدلة والبراهين»، وكل من هذه الوسائل تعامل مع هذا التصريح من زاوية معينة، تتفق أو تتعارض مع مضمونه.

من المفروغ منه أن يصرح رئيس الحكومة، أو أي مسؤول رسمي، بعدم السكوت عن وجود «مافيا» بأي قطاع أو مؤسسة، لكن ربما الحديث عن الأدلة والبراهين بهذا الخصوص، وجمعها وتقديمها، هو شأن آخر تماماً، ولعل مسؤولية ذلك تقع أولاً على أجهزة الدولة المختصة نفسها قبل غيرها، خاصة وأنها كثيرة، وكل منها باختصاص ومهامَّ مبوبة ومقوننة، علماً أنَّ مضمون حديث رئيس الحكومة أعلاه لم ينف وجود «المافيا»، بل فيه تأكيد على عدم السكوت عنها، الذي يحتاج للأدلة والبراهين.

موجودة فعلاً ومنصوص عليها قانوناً

لا شكَّ أن مفردة «مافيا» تثير الكثير من الهواجس والرعب في الأذهان، ولعل عبارة «الجريمة المنظمة» تعتبر أخف وطأة منها نوعاً ما، علماً أن كلتيهما تحملان نفس المعنى والمضمون، كما أنهما تشتركان بالكثير من التوصيفات، أما الأقل تأثيراً والأكثر تداولاً بين الناس وعبر وسائل الإعلام فهو الحديث عن «شبكات» التجارات السوداء المنظمة، وكل الممارسات الشاذة الخارجة عن القانون.
فقد ارتبطت مفردة «المافيا» بالجريمة المنظمة، ولئن كانت الجرائم المنظمة بالمعنى الدقيق لها لم تكن موجودة في سورية حتى وقت قريب، فإن ذلك لا يعني أنها لم توجد بعد، وخاصة خلال سني الحرب والأزمة وحال الانفلات والتّفلت كأحد نتائجها وتداعياتها، اعتباراً من أشكالها البسيطة، وانتهاءً بأشكالها المركبة والمعقدة عابرة الحدود، مع ارتباطاتها بالمصالح المتشابكة مع غيرها من تكوينات لها الطابع الإجرامي المنظّم، إقليمياً ودولياً.
فمفردة «المافيا» بحد ذاتها غير متداولة رسمياً، كما أنها غير واردة ضمن المصطلحات القانونية المعمول بها، أو ضمن النصوص القانونية النافذة، لكن في المقابل، فإن «الجريمة المنظمة»، بمعناها ومدلولها، وجدت لها مصطلحات مرادفة وشبيهة في القوانين النافذة.
فالأفعال الجنائية التي يرتكبها شخصان أو أكثر، أو مكافحة الدعارة والبغاء، وتكوين جمعية الأشرار، وكذلك جرائم المؤامرة والتنظيمات السِّرية، والتي تعد كلها شبيهة بالجريمة المنظمة، لها نصوصها وعقوباتها في القوانين النافذة، بالإضافة إلى جرائم الفساد والاختلاس والرشوة وإساءة استعمال السلطة، كما أن هناك قوانين خاصة لمكافحة المخدرات، وجرائم غسل الأموال، والإرهاب، وغيرها من التشريعات والقوانين الأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تمت المصادقة عليه من اتفاقات إقليمية ودولية تتعلق بالجريمة المنظمة ومكافحتها.
وبالتالي، فإنَّ عناصر الجريمة المنظمة، ومكوناتها وأهدافها وغاياتها وارتباطاتها، لها الكثير مما يمكن إسقاطه على الكثير من الجرائم المقترفة محلياً، سواء تلك التي يتم وضع اليد عليها وضبطها والمحاسبة والعقوبة عليها، أو تلك التي ما زالت بعيدة عن الضبط والمساءلة.

أمثلة وبراهين ملموسة

بعيداً عن مفردة «المافيا» بذاتها، أو عن الجرائم ذات التوصيف الإرهابي، أليس الحديث عن شبكات تهريب المخدِّرات أو التجارة بالأعضاء هو حديث عن جريمة منظمة عابرة للحدود؟ وكذلك الحديث عن شبكات تهريب الأسلحة والأدوية والمحروقات وأغنام العواس وغيرها من المواد، وعن شبكات الدعارة، أو عن شبكات تهريب الدقيق التمويني والاتجار فيه، أو عن مسلسلات الحرائق السنوية التي تطال الغابات والحراج والأراضي الزراعية، أو عن شبكات غسيل الأموال والسوق السوداء للعملة، وشبكات الخطف من أجل الفدية، أو شبكات النهب والفساد والكسب غير المشروع، وغيرها الكثير من الأنشطة ذات الطبيعة الجرمية، بما في ذلك ما درج على تسميته «بالتعفيش» مؤَخَّراً، أليست كل هذه الجرائم أصبحت منظمة، وتستعمل العنف والقوة والاستقواء في كثير من الأحيان، ولها شبكاتها العاملة والمستفيدة منها محلياً، وبعضها مرتبط إقليمياً ودولياً؟.
ألا يكفي الاستشهاد بعناصر كل هذه الجرائم التي أصبحت ملموسة، بل وبعضها مضبوط، لتكون أدلة وبراهين على وجود «مافيا»، بل «مافيات» أصبحت تتقاسم الأدوار والمهام، وكأن بينها ميثاق «شرف» تتعاضد وتتكاتف فيما بينها، ومع مثيلاتها خارجاً، كي تستمر بممارسة كل أشكال الأنشطة الجرمية اللاأخلاقية وغير المشروعة والسوداء، بما في ذلك من أدوات ووسائل عنف، والتي تهدد بمجملها القيم الإنسانية والبنى المجتمعية والاقتصادية، معززة بدورها على تفشي كل الظواهر والمظاهر السلبية في المجتمع؟!.
فهل عدم الاعتراف بوجود هذه «المافيات»، أو «عصابات الجريمة المنظمة»، وجرائمها يعني انعدام وجودها؟ أم إنه يعني الهروب من مواجهتها، وغض الطرف عن وسائل وأدوات محاربتها ومكافحتها بشكل جدي؟!.

الاختباء خلف الأصابع

الحديث عن المكافحة والمحاربة للجريمة المنظمة، بتوصيفها ومدلولها، الأمر لا يتعلق بالنصوص القانونية، أو بالجهات المعنية رسمياً بهذه المكافحة والمحاربة، فالنصوص القانونية متوفرة كما أسلفنا، وربما تحتاج إلى التعديلات أو الإضافات وهو أمر مفروغ منه تماشياً مع المتغيرات والضرورات، وكذلك هناك الكثير من الهياكل الإدارية الرسمية المعنية بتطبيق هذه النصوص وإنفاذها، وصولاً إلى ضبط الجرائم على اختلافها والمحاسبة عليها.
لكن كل ذلك من الناحية العملية غير كافٍ على ما يبدو، فما هي المشكلة إذاً، وأين تكمن الحلول؟
من الناحية العملية، وبدون مواربة، فإن السياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود هي المفرخة الحقيقية لكل الأشكال والمظاهر والظواهر السلبية، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ومعرفياً و..، بما في ذلك الجرائم، والأهم تلك التي أصبحت منظمة وذات بعد وترابط عابر للحدود، إقليميٍّ ودوليٍّ، والتي تزايد حجمها ودورها وفاعليتها خلال سني الحرب والأزمة بشكل كبير.
فإذا كان الفساد، باعتباره صفة ملازمة للسياسات الليبرالية، أحد عوامل وأسباب تغييب الكثير من الجرائم عن حيّز الضبط والمحاسبة، وفي الكثير من الأحيان يكون شريكاً بها بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن ذلك لا يعفي جملة السياسات المتبعة نفسها والقائمين عليها من مسؤولياتهم، سواء تجاه تنامي ظاهرة الجريمة المنظمة، أو غيرها من الجرائم والجنح والظواهر السلبية الأخرى التي دخلت حيّز التنظيم هي الأخرى، والأمثلة الحية كثيرة على ذلك ولا تحتاج للأدلة والبراهين.
لا غرابة بعد كل ذلك بالقول إن «الجريمة المنظمة» و»المافيا» وجميع الظواهر السلبية هي المولود الشرعي لجملة السياسات الليبرالية، والتي دخلت مرحلة التوحُّش من خلال سِفاح القربى بينها، ولا يمكن التخلص من إحداها إلا عبر الخلاص من الأخرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
939
آخر تعديل على الإثنين, 11 تشرين2/نوفمبر 2019 11:39