الاحتجاجات الشعبية في العراق: «مؤامرة»... أم ثورة جياع؟
هشام الأحمد هشام الأحمد

الاحتجاجات الشعبية في العراق: «مؤامرة»... أم ثورة جياع؟

شهد العراق في الأسبوع الأخير تحركات جماهيرية واسعة احتجاجاً على الفساد والبطالة وتردي الواقع المعيشي، لتقابلها الحكومة بالعنف على الأرض، توازياً مع إطلاق وعود لتحسين الواقع المعيشي. جاء ذلك مترافقاً مع صدور روايات تضع خروج المظاهرات في إطار تصفية الحسابات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وسعي الأخيرة إلى معاقبة حكومة بغداد على «خياراتها السياسية»..

لم يكن مستبعداً لدى غالبية المتابعين أن يشهد العراق احتجاجات جماهيرية ضد واقع الانهيار المعيشي والتردّي الاقتصادي- الاجتماعي المترافق مع تركة الاحتلال الأمريكي، منذ 2003، وما خلفته من فساد على كل المستويات: حيث إن البنية السياسية المستندة للتحاصص الطائفي، تقوم على أساس تقاسم أطرافها عمولات وريعيات الفساد كأثمان للوصاية الدولية والإقليمية على البلاد، مقابل قيامهم بتخدير الشارع بالخطاب المذهبي، وإثارة الطائفية والكراهية المحلية لتحييده وشق صفه ومنعه من لعب دور سياسي مستقل..
وبالنظر إلى تردي الأحوال في العراق، وإلى درجة امتهان السيادة الوطنية ورداءة أداء الحركة السياسية- الطائفية فيه، يصبح الغريب ألا يشهد هذا البلد احتجاجات شعبية واسعة حتى الوصول إلى التغيير الوطني والديمقراطي المطلوب، وليس العكس. والحال أن العراق لم يشهد استقراراً سياسياً منذ احتلاله سنة 2003، وما التحركات الشعبية فيه في الأسبوع الأخير إلا امتدادٌ وتطوّرٌ لسابقاتها منذ ذلك التاريخ، وليست احتجاجات البصرة قبل عدة أشهر إلا المحطة قبل الحالية..

على الأرض

بالرغم من شح الأخبار الميدانية في معظم محافظات العراق، وانقطاع شبكة الإنترنت، وثّقت وسائل إعلام متعدّدة مقتل نحو 113 عراقياً وجرح أكثر من 4000 آخرين، حتى اللحظة، بعضهم من القوى الأمنية والشرطة، فيما اتفقت المصادر الحكومية والمعارضة على وجود دور مشبوه لـ«قناصة» على هوامش الاحتجاجات لتوتير الوضع وإشعاله بين الشارع والحكومة. واختلفوا في تحديد هوية هؤلاء القنّاصة؛ ففيما تنسب مصادر محلية القناصة إلى الأجهزة الحكومية بهدف تشويه صورة الحراك، يتّهم الإعلام المحلي والعربي الموالي لحكومة عادل عبد المهدي القنصلية السعودية والسفارة الأمريكية في العراق بالوقوف خلف ظاهرة «القناصة» خصوصاً، وخلف الاحتجاجات عموماً، كردّ إستراتيجي على خيارات حكومة بغداد في الآونة الأخيرة، والمتمثلة أولاً، زيارة عبد المهدي إلى الصين منتصف شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، وتوقيعه اتفاقيات مع بكين لبناء وتطوير البنى التحتية العراقية، وفتح أوسع أبواب الاستثمار أمام الإدارة الصينية للعمل.
ثانياً، اتهامه إسرائيل بالوقوف وراء استهداف عدد من مقارّ «الحشد الشعبي» خلال شهرَي تموز/ يوليو وآب/ أغسطس الماضيين، وتلميحه إلى أن بغداد في صدد التحضير لحراك دبلوماسي بهدف إدانة تل أبيب، وانتزاع الحقّ في الردّ على اعتداءاتها، بحسب المزاعم الحكومية.

هل هي «مؤامرة»؟!

عابت الرواية الحكومية على المتظاهرين غياب قياداتهم وبدائلهم وبرنامجهم السياسي، وألمحت أن تحريك عشرات أو مئات الألوف من العراقيين ما هو إلا جزء من مؤامرة ضد خيارات الحكومة، ونتيجة لوجود «مندسين» بين صفوف «الجماهير الغاضبة» وذوي «المطالب المحقة» يعملون لصالح الأمريكيين والسعوديين.
على الأرض لا يشير الوضع إلى أنّ الحكومة قادرة بخطابها وردود أفعالها على ضبط الوضع، على العكس، لم تثر التصريحات الحكومية إلا مزيداً من الغضب؛ بعض ردود الفعل أشارت إلى أنه لا يمكن لحكومة هي جزء من نظام المحاصصة الطائفي، مرتهنة لهيمنة قوى دولية وإقليمية، تغض النظر عن الفساد بدلاً من ضربه بيد من حديد، تتقاعس عن أصغر مطلب شعبي، كتوفير مياه الشرب وحل مشاكل الصرف الصحي، مكونة من زعماء طائفيين ومكونات قبل وطنية.. إلخ، لا يمكن لها أن تنتهج خياراً وطنياً لمصلحة العراق، طالما أن تكوينها مستند بالأساس إلى أشخاص فاسدين كلياً، بدءاً من أعضاء البرلمان إلى الحكومة وغيرها من سلطات البلاد، وأن مزاعم الحكومة ما هي إلا تعبير عن اتحاد النخبة الحاكمة بخطاب موحد أخيراً ضد الاحتجاجات الجماهيرية المتكررة الظهور منذ نحو 10 سنوات، بعد أن حاولت الركوب على موجاته غير مرة وباءت بالفشل. وأن الربط المبكر بين الحراك الاحتجاجي والدور الخارجي يكشف عن أن الحكومة تبنت سياسة مقابلته بالعنف منذ البداية..

خطاب مرتبك

على غير العادة، لم تدعم بعض القوى السياسية- الطائفية التظاهرات منذ البداية هذه المرّة ، كالتيار الصدري الذي اعتاد الركوب على الموجات الاحتجاجية، ولكن عندما اتسعت دائرة الاحتجاجات سارع التيار المذكور المنضوي ضمن تحالف «سائرون» إلى مطالبة الحكومة بالاستقالة، وتبعه إلى ذلك العديدون من تيار رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي وتيار عمار الحكيم وغيرهم. إلى ذلك، أصدرت «المرجعية الدينية العليا» (السيستاني) بياناً أبدت فيه تعاطفها مع «المطالب المحقة» للجماهير وحرصها في الوقت ذاته على «دماء العراقيين من مدنيين وعسكريين» ودعت إلى إعطاء حكومة عبد المهدي الفرصة للقيام بـ«الإصلاح» بدلاً من المطالبة بإسقاطه.
وبالرغم من أن الكثير من التحليلات أشارت إلى ضلوع واشنطن بتحمية الأجواء، وأنها هددت قبل أشهر عادل عبد المهدي غير مرة على لسان مسؤوليها من مغبة المضي تجاه الصين وروسيا في اتفاقات تجارية وعسكرية، إلا أن قيام الحكومة بوضع الاحتجاجات كلها بسلة «التدخل الخارجي» لمقابلتها بالعنف ساهم في إذكاء نار الأزمة بدلاً من حلّها.

الآفاق؟!

ترى بعض المصادر المقربة من الاحتجاجات أن الحكومة الحالية، كجزء من نظام كامل، لا تفهم الغضب الشعبي إلا على أساس كونه أداة لتصفية حساب بين أطراف سياسية؛ إمّا أطراف عراقية- عراقية أو لصالح نفوذ القوة الإقليمية والدولية. وكأنّ الانهيار في الواقع المعيشي ليس سبباً في حد ذاته إلى خروج كل العراقيين إلى الشارع. وأنّ «تدخلات» أمريكا أو إيران أو السعودية.. وغيرهم، هي موجودة فعلاً، ولكن ليس بسبب وجود احتجاجات متجددة من الفقراء أو حملة الشهادات والمعطلين عن العمل وغيرهم، بل أن نظام المحاصصة هو من شرَّع الأبواب لكل أنواع التدخلات، وحالياً فإن أركان هذا النظام لا تزال منشغلة بتقاسم العمولات بدلاً من القيام بأي دور وطني مستقل..
ومع اتساع دائرة الأزمة، وارتفاع منسوب الدم فيها خلال الأيام الماضية، اتّسعت دائرة الدعوات إلى ضرورة البدء بالحوار للحفاظ على الأمن أولاً، ولصياغة مطالب المحتجين. ومن المرجح أن تقبل الأطراف الحكومية، ولو مؤقتاَ، بمثل هذه الدعوات لكونها تعطي مهلة للملمة الوضع بعد أن أدّى العنف بحق المتظاهرين إلى اتساع الاحتجاجات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
934
آخر تعديل على الإثنين, 07 تشرين1/أكتوير 2019 14:24