رغم سُعار الولايات المتحدة: أمريكا اللاتينية تنهض من جديد
يزن بوظو يزن بوظو

رغم سُعار الولايات المتحدة: أمريكا اللاتينية تنهض من جديد

يزداد سعي الولايات المتحدة الأمريكية- بالتوازي مع تراجعها دولياً- إلى تأمين أمريكا اللاتينية لصالحها، عبر محاولات تقويض وإنهاء الحكومات المعارضة لسياساتها، كفنزويلا وكوبا وبوليفيا ونيكاراغوا، بعد أن نجحت بذلك مؤقتاً في الأرجنتين والبرازيل، ومؤخراً بوليفيا... لكن بالمقابل، بدأ شبح خطير يظهر هناك، لا يُهدد خططها فقط، وإنما الحكومات التابعة لواشنطن نفسها.

إنّ المشهد في القارة اللاتينية الآن بأعلى مستوياته تعقيداً، فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي: تتشارك هذه القارة بكل دولها في تدهور وتدنٍّ معيشي غير مسبوق لشعوبها، لأسباب عديدة ومتنوعة، عناوينها الرئيسة: الاستغلال الأجنبي، السياسيات النيوليبرالية والخصخصة، العقوبات والحصار الاقتصادي، والفساد الحكومي. وتنقسم الدول فيها إلى حكومات تابعة لواشنطن، وأخرى مُعارضة لها، خَلفاً للإرث اليساري اللاتيني في القرن الماضي واستمراراً له على المستوى السياسي الخارجي. أمّا على المستوى الداخلي، بات يظهر انقسام جديد بمثابة صدى للحالة الأمريكية بـ«يمينها» على النموذج «الترامبي» في كل من البرازيل/بولسونارو، وفنزويلا/غوايدو، وأخيراً بوليفيا/ميسا وآنيز، بالتوازي مع تدنّي مستوى العلاقة بين الحكومات والتيارات اليسارية التقليدية مع شعوبها... بالإضافة إلى الصراع الدولي بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في المنطقة بعد وقوف الأخيرة بوجه محاولة واشنطن إقامة انقلاب في فنزويلا في بدايات العام الجاري. لتتشارك جميع شعوب القارة اللاتينية من حالة احتقانٍ إثر الوضع المعيشي المتردّي أوّلاً، فتكون عرضة للانفجار «العفوي» بأيّة لحظة، في ظرفٍ سياسيّ تعجز فيه حكومات هذه الدول- جميعها وبتياراتها- عن تلبية مطالب شعوبها قبل قيادتها، مما يجعل الأخيرة عُرضة أكثر للاستغلال الأمريكي عبر تزخيم هذه الاحتقانات أو الحراكات العفوية ودفعها نحو أهداف سياسية تخدم مطامعها.

التحذير بانقلاب في بوليفيا

قبل إجراء الانتخابات، وقبل أيّة حركة شعبية، حذّر الرئيس البوليفي إيفو موراليس بتاريخ 14 تشرين الأول من «احتمال حدوث انقلاب محتمل تمهّد له المعارضة بمساعدة جنود سابقين»، جاء هذا التحذير بالتوازي مع المشهد السياسي في فنزويلا بعد فشل محاولة الانقلاب فيها، وتواتر تصريحات أمريكية تُهدد دولاً أخرى. جرت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في 20 تشرين الأول، وأشارت نتائجها إلى فوز موراليس بنسبة 47,07% من الأصوات، فيما بلغت النسبة لأقرب منافسيه، وما يُسمى بـ«زعيم المعارضة» أيضاً، «كارلوس ميسا» 36,51%، وبحسب الدستور البوليفي: فللفوز من الجولة الأولى، يجب على المُرشح جمع أكثر من 50% من الأصوات، أو ما لا يقل عن 40% شرط هامشِ فرقٍ يزيد عن 10% من أقرب منافسيه.

بدء التنفيذ

في أثناء ظهور النتائج الأوّلية التي أشارت إلى فوز موراليس، انطلقت موجة احتجاجات في 22 من الشهر نفسه، مُنددة بنتائج الانتخابات ومُتهمة العملية بالتزوير والخداع، تخللتها مواجهات عنيفة بين المُتظاهرين وقوات الشُرطة، بالإضافة إلى إضرام نيران في مناطق متفرقة، وعمليات نهب وتخريب عشوائية، على إثر ذلك، أعلن الرئيس موافقته على إجراء جولة ثانية في حال التأكد من حصول أيّ تزوير، لتتحول شعارات الشارع في اليوم نفسه إلى مطالبات برحيل موراليس دون انتظار عملية التحقق من النتائج.
في 31 تشرين الأول، قامت «منظمة الدول الأمريكية» - والتي تضم في غالبيتها دولاً تابعة لواشنطن بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها - وبطلب من الحكومة البوليفية، بإجراء تحقيق بنتائج الانتخابات الرئاسية، لتصدر تقريراً بعد أيامٍ يُفيد بوجود تلاعبٍ بها. وبدأ يظهر في الفترة ذاتها تمرّدٌ لوحدات من الشرطة البوليفية في 3 مدن رئيسة، حيث أعلنت عدم التزامها بالأوامر الموجهة لها. تلا ذلك استيلاء «المعارضة» على القناة التلفزيونية الوطنية والمحطة الإذاعية الحكومية.

محاولات لاحتواء العملية

إثر تصاعد زخم العملية الانقلابية، وفي محاولة لتأريضها واحتوائها شعبياً، أعلن موراليس في 10 تشرين الثاني نيّته لتحديث كامل لتشكيل محكمة الانتخابات العليا، وإجراء انتخابات جديدة في البلاد. لكن وفي اليوم نفسه: قامت القوات المسلحة واتحاد نقابات العمّال بشكلٍ رسميّ بدعوة موراليس إلى الاستقالة. ليعلن الأخير بعد ذلك بدقائق استقالته مُصرحاً: «إنّ من واجبي الآن كرئيس هو إيجاد طريقة لتهدئة الوضع»، ويتجه في اليوم التالي إلى المكسيك بعد حصوله من حكومتها على حق اللجوء السياسي فيها.

أولى خطوات المعارضة بعد الانقلاب

في 11 من الشهر الجاري بعد الاستقالة، استولت «المعارضة» على السفارة الفنزويلية وطردت موظفيها، وقامت بكتابة شعارات استفزازية على سفارة كوبا. وفي اليوم نفسه أصدرت الخارجيتان الأمريكية والروسية بيانات توضّح مواقف كلاً منهما في الأزمة البوليفية، جاء في البيان الأمريكي ترحيباً باستقالة الرئيس موراليس، ومشيدة بالشعب البوليفي «لمطالبته بالحرية»، وتضمن البيان تهديداً لدولٍ مجاورة، ذُكر فيه أنّ «هذه الأحداث تبعث إشارة قوية إلى النظامين غير الشرعيين في فنزويلا ونيكاراغوا».
فيما اعتبرت الخارجية الروسية أن ما جرى في بوليفيا «انقلاب أُعدّ له مسبقاً» وأعربت فيه عن قلقها العميق، مؤكدةً أن على «الحكومة البحث عن حلول بنّاءة على أسس الحوار».
في يوم الخميس الماضي، نصّبت «جانين آنيز» نفسها رئيسة انتقالية، ووافقتها المحكمة الدستورية على ذلك استناداً لإعلان دستوري صادر عام 2001 يقضي بأنه «لا ينبغي تعليق عمل السلطة التنفيذية، بحيث إن التالي في التسلسل يتولى الرئاسة». وتلقت فور ذلك اعتراف كلٍّ من البرازيل والولايات المتحدة وكولومبيا وغيرهم، فيما اعترفت روسيا بها بعد يومٍ استناداً إلى الحالة القانونية في تسلسل الأحداث. لتبدأ «آنيز» باتخاذ إجراءات حكومية كان من أوائلها اعتراف الحكومة البوليفية بـ«غوايدو» رئيساً لفنزويلا، ثم منع موراليس من المشاركة بالانتخابات المقبلة، وانسحاب بوليفيا من «التحالف البوليفاري لشعوب أمريكا».
على إثر ذلك، تحوّل مشهد الاحتجاجات العام في البلاد من تلك «المعارضة»، لصالح تيار موراليس، وأعلن عمال «الكوكا» عدم اعترافهم بآنيز وإطلاقهم اعتصاماً مفتوحاً حتى عودة رئيسهم للبلاد. ليتصاعد مشهد الاحتجاجات هذا ويجرى على إثره في يوم السبت، مقتل 5 من المزارعين المُضربين والمشاركين في المظاهرات، بأثناء مواجهات مع وحدات الشرطة في مدينة «كوتشامامبا»، وهي الوحدات نفسها التي أعلنت تمردها وعدم تنفيذها الأوامر قبل أيام في أثناء حكومة موراليس.

العوامل داخلية أولاً

قامت الولايات المتحدة بإعلان دعمها للعملية الانقلابية منذ انطلاقها في يومها الأوّل، ومُشككةً لدرجة التأكيد قبل أيّ تحقيق أساساً بوجود تلاعبٍ بالنتائج الانتخابية. لكن لا بدّ من التأكيد على أنّ زخم هذه العملية شعبياً كان له أساسٌ مرتبطٌ بتدنّي المستوى المعيشي في البلاد، وغياب الإرادة الجدّية الحكومية لمعالجة هذا الأمر، بالإضافة إلى غياب قوى سياسية قادرة على الموازنة بين المسائل المطلبية والتعقيدات السياسية والموقف الوطني في مواجهة التدخلات الخارجية، مما أفسح المجال لواشنطن عبر حلفائها السياسيين ومنظماتها المتغلغلة في البلاد بتعبئة الاحتقان وتفجيره ودفعه بهذا الاتجاه. أيّ وبمعنى آخر فإن الحركة الشعبية العفوية كانت ضحيّة قصور سياسيّ داخلي أوّلاً، يأتي نتيجة عدم قدرة «الفضاء السياسي القديم» في البلاد على التكيّف مع الظروف والضرورات الجديدة الناشئة حتى الآن، على المستوى الداخلي والخارجي، ليشكّل هذا الحدث اليوم خضّةً كان لا بدّ منها للحركة اليسارية التاريخية في المنطقة، لإنعاشها بشكلها «الجديد»، ليس على مستوى بوليفيا وحدها، وإنما مجمل القارة اللاتينية... فالوضع الاقتصادي- الاجتماعي لا يتعلق في هذه الدول وحدها، وإنما يشمل الدول ذوات الحكومات «النيوليبرالية» المرتهنة والتابعة لواشنطن، فبالتوازي مع عملية الانقلاب هذا، انطلقت تحركات شعبية أشدّ وأكبر في كلٍّ من الإكوادور وتشيلي، مما حرّك روح هذا «الشبح الجديد» وبدأت بإخراجه.

الإكوادور

في تاريخ 1 تشرين الأول، وبعد مضيّ أكثر من 4 عقود على العمل فيه، أعلنت حكومة الإكوادور قراراً يقضي برفع الدعم عن الوقود اعتباراً من 3 من الشهر نفسه، مما كان الشرارة التي أدت إلى انفجار موجة احتجاجات عارمة عمّت كُلّ البلاد، بعد إعلان نقابات عمّال النقل إضراباً عاماً للعاملين، أدت إلى شلّ الحركة تماماً في العاصمة «بيزو». تخللت ذلك عمليات قمع عنيفة من قوات الأمن والشرطة والجيش بعد إعلان الأخير حالة الطوارئ في البلاد... لتعلن النقابات بعد يومين تعليقها الاحتجاجات بغاية التهدئة، إلّا أنها لم تتوقف، بل استمرت بالتصاعد... إنّ هذه الحركة لم تتلقَّ أيّ دعمٍ من دولٍ مجاورة أو بعيدة، على العكس: فقد أصدرت خارجية دولة البيرو بياناً باسمها هي وست دول أخرى، يعربون عن «دعمهم الثابت للخطوات التي اتخذها الرئيس الإكوادوري لينين مورينو».
دعا مورينو إلى إجراء حوارٍ مباشر، لكن ممثلي الاحتجاجات أصدروا بياناً أوضحوا فيه عدم ثقتهم بالحوار، وعدم قبولهم به قبل أن يُلغى قرار رفع الدعم عن الوقود. لتستمر الاحتجاجات وصولاً إلى 14 تشرين الأول، بعد أسبوعين من التظاهرات والمواجهات العنيفة في كل البلاد، حيث أعلن الرئيس الإكوادوري إلغاء قرار رفع الدعم، والاتفاق مع قادة الاحتجاجات على إنهاء المظاهرات.
تلا ذلك ظهور أوّلي لنشاط «حركة سياسية» بعد بروز «ممثلين عن الحركة الشعبية» بمساعدة نقابات العمال، بدأت بفتح مسألة تنفيذ الرئيس مورينو حزمة مالية تقشفية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي يقضي بتقديم قرض قيمته 4,2 مليار دولار، مما سوف يؤدي إلى أزمة اجتماعية كبيرة بحال عدم إجراء تغييرات جذرية للسياسات «النيوليبرالية» والخصخصة، وخطوات جدية بمواجهة النهب الغربي للبلاد.

تشيلي

أمّا تشيلي فكانت شرارتها بسبب إعلان الحكومة زيادة بنسبة 3,75% على رسوم تذاكر المترو، لتنطلق على إثرها في 18 تشرين الأول مظاهرات حاشدة في العاصمة «سانتياغو»، منددة بالوضع المعيشي وسياسات الخصخصة والتفاوت الطبقي الحاد، بالإضافة إلى تدنّي الرواتب وارتفاع تكاليف التعليم والرعاية الصحية، حيث إنّ أحد شعارات الحركة: «تشيلي ستكون قبر النيوليبرالية»، وبالمثل من الإكوادور، أعلنت حكومة تشيلي وجيشها حالة الطوارئ، وفرض حظر تجوّل في العاصمة منذ اليوم الأول، جرت بعد ذلك مواجهات واشتباكات عنيفة أيضاً، إلّا أنّ تشيلي، بخلاف الإكوادور، لم تمتلك حركتها قيادةً داخلية من النقابات، أو ممثلين عنها بعد، ليكون طابعها أقلّ تنظيماً وأكثر عفويةً، فيتخلل نشاطها عمليات حرقٍ لمنشآت محسوبة على «القطاع الخاص» في البلاد كمحطات مترو، وشركة «إينيل» للكهرباء، ومركز تجاري تابع لسلسلة «وولمارت» الأمريكية، وجامعة «بيدرو دو لافالديفيا»، بالإضافة إلى فرعان لـ«مصرف تشيلي الوطني»، عوضاً عن الاستيلاء عليها.
على إثر هذه التطورات، أعلن الرئيس التشيلي والملياردير «سيباستيان بينيرا» تراجعاً عن قراره بزياده رسوم التذاكر، إلا أنّ هذه المحاولة لم تهدِّئ من الاحتجاجات، ففي اليوم التالي في 25 تشرين الأول، بيّنت حاكمة سانتياغو «كارلا روبيلار» على تويتر أن حوالي مليون شخص شاركوا بالمظاهرات في سانتياغو وحدها فضلاً عن باقي مدن البلاد.
أدى تصاعد الحركة هذا وزيادة حدة المواجهات إلى فرض عدد من التنازلات التي قدّمتها الحكومة التشيلية، منها: زيادة الحدّ الأدنى للأجور، وخفض تكاليف الخدمات الصحية، والعمل على صياغة دستور جديدٍ للبلاد. لكن ورغم ذلك، لا تزال التظاهرات والاحتجاجات مستمرة حتى الآن، وكما قال أحد المتظاهرين: «الأشخاص الذين يديرون هذه الحكومة هم الأشخاص الذين يمتلكون القوّة الاقتصادية نفسهم، إنها دائرة مثالية: فهم يقرّون قوانين لكسب المزيد من المال، والبقية منّا يُصبحون أفقر»، لتؤكد الحركة أن لا حلّ إلّا بإنهاء السياسات النيوليبرالية والتغيير الكامل.
رغم وجود حوالي 25 قتيل وألف جريح مُعلنون رسمياً حتى الآن في صفوف المتظاهرين، بالإضافة إلى 7000 معتقل وفقاً للتصريحات الحكومية الرسمية، ووجود 180 دعوى قضائية تشمل جرائم قتل وعنف ارتكبتها الشرطة العسكرية وحدها، لم تُبدِ الولايات المتحدة وحلفاؤها أيّ تنديدٍ بالحكومة التشيلية أو «ديمقراطيتها»، لما تمتلكه هذه الحركة وشبيهتها في الإكوادور- وما سيأتي لاحقاً في بوليفيا وفنزويلا وباقي أمريكا اللاتينية- من تعارضٍ مع واشنطن، ورُعبٍ تُدركه جيداً... ولا مهرب منه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
940
آخر تعديل على الأربعاء, 20 تشرين2/نوفمبر 2019 12:18