إيران: تحصين الداخل ليس تنازلاً للغرب

إيران: تحصين الداخل ليس تنازلاً للغرب

تشهد الساحة الإيرانية منذ أكثر من أسبوع احتجاجات وإضرابات أمنية على خلفيّة قرار برفع أسعار البنزين، وعلى الرغم من أنَّ المشهد يميل ظاهرياً إلى الهدوء حسب آخر الأنباء الواردة، إلّا أنّ ما جرى ويجري يطرح أسئلة حول تطورات المشهد السياسي في الداخل الإيراني، نحاول في هذه المادة إعادة سردٍ للأحداث في محاولةٍ إضفاء مزيدٍ من الوضوح على الصورة هناك.

أعلنت الشركة الوطنية للنفط في يوم الخميس 14 من شهر تشرين الثاني الجاري عن رفع أسعار البنزين، وجاءت هذه الزيادة على شكل متصاعد حسب كمية الاستهلاك، لتصل إلى 50% لاستهلاك 60 لتراً، و300% لمن يزيد استهلاكه عن هذا الحد.

الاحتجاجات ورد الفعل مباشر

لم تمض 24 ساعة حتى بدأت الساحة الإيرانية تشهد احتجاجات في مناطق متفرقة، تركزت بشكل أساس في جنوب البلاد في محافظات، مثل كرمان وبوشهر، لتشمل العاصمة والعديد من المدن الأخرى، وقام المحتجون بإطفاء محركات سياراتهم وأغلقوا شوارع رئيسة في طهران، واندلعت مواجهات تخللتها أعمال عنف، فأعلنت وكالات الأنباء عن سقوط قتلى وجرحى في هذه المواجهات، وأعلنت السلطات عن «أعمال شغب وتخريب» للممتلكات العامة، وجرى بث أخبار مصوّرة لإضرام النيران في عددٍ من محطات الوقود والمرافق العامة، مثل مصرف «شهر» في مدينة أصفهان. ورفعت الاحتجاجات شعارات، ركزت بمعظمها على قرار رفع الوقود الأخير، وردد المتظاهرون شعارات مثل «البنزين بات أعلى سعراً والفقير بات أكثر فقراً» إلّا أنّ الشعارات لم تقف عند هذا الحد، بل وصلت إلى شعارات سياسية نددت بعضها بالرئيس الإيراني حسن روحاني والمرشد الأعلى علي الخامنئي.
وارتفعت في السياق نفسه بعض الأصوات من البرلمان الإيراني للمطالبة بالرجوع عن هذا القرار، إذ قال أحد أعضاء لجنة التخطيط والموازنة في البرلمان إن النواب سيقدمون مشروع قانون عاجل يلزم الحكومة بإلغاء قرار رفع أسعار البنزين، لكن التطورات التالية جاءت في اتجاه معاكس تماماً، إذ أكدت السلطات الإيرانية الثلاث «التنفيذية والتشريعية والقضائية» خلال اجتماع المجلس الاقتصادي الأعلى على ضرورة التنسيق فيما بينها لتطبيق خطة تقنين ورفع أسعار البنزين، وأعلنوا في هذا الاجتماع أن هدف الخطة «إيجاد العدالة الاجتماعية لستين مليون إيراني من محدودي الدخل، ومحاربة تهريب الوقود، وتقليص الفساد، وإدارة استهلاك الوقود، على أن يتم دفع العائدات المالية الناجمة عن القرار إلى الشرائح الضعيفة منذ الأسبوع المقبل».

ردود رسمية وتصعيد

استمرت وتيرة الاحتجاج دون انخفاض، ولكنها بدأت تصطدم بإجراءات أشد من قبل السلطة، فأصدر مجلس الأمن القومي قراراً يقضي بقطع خدمات الإنترنت عن البلاد، وأعلنت وكالة فارس الإيرانية نقلاً عن مصادر أمنية أن السلطات اعتقلت نحو ألف شخص خلال يومين، وجرى إغلاق رسمي للمدارس. وفي البرلمان علت أصوات تطلب باستجواب الرئيس الإيراني وتحميله مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية وبسبب اتخاذه لقرار رفع السعر دون التشاور مع البرلمان,
وبدا الخطاب الرسمي الإيراني موحداً، فجاءت التأكيدات على عزم النظام بكافة أركانه على تنفيذ هذه القرارات من جهة، واعتبرت الاحتجاجات من جهة أخرى أنها أعمال تخريبية تدار من الخارج، وتعهد النائب العام بمعاقبة «المشاغبين»، ومن جانبه عبَّر المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي «أنه ليس من أصحاب الاختصاص في هذا المجال كما أن آراء الخبراء متفاوتة، لكنه بالمحصلة يدعم قرار رؤساء السلطات الثلاث» وأضاف أن هذا القرار جاء بعد «دراسة دقيقة، وبالتالي لابد من تطبيقه»، واعتبر الرئيس روحاني وفي خطابٍ ألقاه يوم الأحد 17 تشرين الثاني، أنه يجب «ألّا يسمح بعدم الاستقرار في البلاد» وأشار إلى أن استهلاك الوقود في إيران بلغ مستويات مرتفعة «وأنّه سيحوِّل إيران إلى دولة مستوردة للوقود خلال عامين» وقدّم روحاني في خطابه تأكيدات جديدة على أن الحكومة ستقوم بتقديم المساعدات إلى الطبقات الفقيرة، وكان المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، قال في وقت سابق إن العوائد التي سيجري تحصيلها من تعديل أسعار البنزين لن تدخل ميزانية البلاد الجارية، بل ستستخدم في مشروع الدعم المعيشي لـ 18 مليون أسرة.

انحسار وهدوء قلق

على الرغم من ورود أنباء متفرقة من عدة مناطق عن استمرار الاحتجاجات في بعض المناطق وبشكل متفرق، إلّا أن الهدوء يسيطر على المشهد، وأعلنت السلطات أنه سينتهي التحقيق مع الموقوفين خلال أيام قليلة، وسيجري إطلاق سراح من لم توجه إليه اتهامات تتعلق بارتكاب جرائم ما. وفي تأكيد جديد على الخطاب الرسمي اعتبر روحاني أنَّ «أحداث الأيام الأخيرة كانت مسألة أمنية، ولم تأت من الشعب» وأكد يوم الأربعاء أن نحو 800 ألف أسرة استفادت من المساعدات المالية التي صرفت يوم الاثنين، على أن تستكمل هذه العملية «والتي يفترض أن تشمل أكثر من 4 ملايين أسرة» خلال الأيام القليلة القادمة. وبدأت خدمة الإنترنيت بالعودة بشكلٍ تدريجي إلى أغلب المناطق.

استنتاجات أولية

تشير الكثير من التقديرات إلى تردي الأوضاع الاقتصادية في إيران، وعلى الرغم من دور العقوبات الأمريكية التي تترك ثقلاً كبيراً على الشعب الإيراني، وتساهم في تردي الأوضاع، إلّا أنه من غير الوارد اعتبارها المسبب الوحيد لتراجع مستويات المعيشة، فالعقوبات تهدف حسب إستراتيجية واضعيها إلى الضغط على الشعوب اقتصادياً وهو ما يؤدي إلى ازدياد نقمتهم على الأنظمة وتدفعهم للتحرك ضدها، وبالطبع يدرك النظام الإيراني إستراتيجية العقوبات هذه والهدف منها، وبالتالي لا يجب أن ينظر إلى تحصين الداخل على أنه تنازلٌ للغرب، فتلبية المطالب المحقة وإيجاد مخارج حقيقية لضرب الفساد، وتعويض نقص الموارد من غير جيوب الفقراء. يُعد درعاً يحصن الداخل من كلِّ المؤامرات الخارجية التي لن تتوقف.
بات من غير المجدي اليوم فصل ما يجري وسيجري في إيران عن كل ما يجري في المنطقة والعالم، فالشارع اليوم أكثر حساسية من قبل ولم تعد قرارات كهذه تمر دون عواقب، وكان هذا واضحاً في تصريح الخارجية الروسية حول الأحداث التي شهدتها إيران، إذ قال زامير كابولوف مدير قسم شؤون آسيا في وزارة الخارجية الروسية إن «الوضع متوتر، وزيادة أسعار النفط أضافت الزيت إلى النار، لكن قوى خارجية تعمل بنشاط، وهكذا فإن كل (العوامل) اجتمعت».
يصّر الخطاب الرسمي على أن محاولة «زعزعة الاستقرار» التي استمرت لمدة يومين قد انتهت، ويؤكد أن الدعم يجب أن يصل إلى مستحقيه الأكثر فقراً، وإذا كانت الأمور اليوم تحت السيطرة، فهذا يعني أن الظرف سيكون ملائماً لإيجاد المخارج الحقيقية قبل أن تتعمق الأزمة، والحديث لا يدور عن المخارج الأمنية فقط- التي تعد أداةٌ ضرورية لفصل العناصر الخارجية عن الحراك- بل الحديث أيضاً عن المخارج السياسية والاقتصادية التي تنعكس إيجاباً على شعب إيران، وهذه مهمة ملحة أكثر من أي وقت مضى، وإلا ستصبح المنطقة ساحة جاهزة بالنسبة للأعداء لتغذية المؤامرات وعدم الاستقرار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
941
آخر تعديل على الأحد, 16 آب/أغسطس 2020 12:28