«أنجح تحالف في التاريخ» يفشل في حل مشاكله

«أنجح تحالف في التاريخ» يفشل في حل مشاكله

استضافت العاصمة البريطانية لندن اجتماعاً لمجلس حلف شمال الأطلسي «NATO» في يومي 3 و 4 من شهر كانون الأول الجاري، ويأتي هذا الاجتماع بالتزامن مع الذكرى السبعين لتأسيس حلف الناتو في واشنطن 1949. وتضمن جدول أعمال هذا الاجتماع العديد من القضايا الساخنة التي تشكل تحدياتٍ إستراتيجية حقيقية أمام هذا التحالف الذي وصفه بيان الاجتماع الختامي بأنه «أنجح وأقوى تحالف في التاريخ»!

لم يكن من الصعب التنبؤ بجدول أعمال هذا الاجتماع، فالخلافات التي نشبت بين «الحلفاء» كانت تطفو على السطح منذ مدة، ويبدو أنها تحتاج إلى أكثر من حفلة عيد ميلاد لحلها!.
تشمل هذه الخلافات العديد من القضايا، منها السلوك التركي في سورية، وشراء تركيا أنظمة دفاعية من روسيا، بالإضافة إلى التصريحات الفرنسية الأخيرة التي تفرض على دول التحالف نقاش التحديات الإستراتيجية التي تواجههم، وماهية الخطوات التي يجب اتخاذها لإصلاح الحلف، ونقاش ما يجب على الناتو أن يفعله حيال صعود الصين وروسيا كقوى عالمياً جديدة، إلى جانب نقاش خطة الناتو حول «الدفاع عن دول البلطيق وبولندا»، وبالطبع تضع الولايات المتحدة الأمريكية موضوع التوزيع العادل للنفقات على رأس جدول الأعمال هذا.

هل يعاني الحلف موتاً دماغياً؟

كان الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون قد وصف الحلف بأنه يعاني «موتاً دماغياً» في تصريحاتٍ أدلى بها لمجلة «ذي إيكونوميست» في 7 تشرين الثاني، وطرح سؤالاً حول مصير المادة الخامسة من اتفاقية واشنطن «لتأسيس الناتو» والتي تنص على اعتبار أيّ هجوم مسلح على أحد الحلفاء داخل الناتو هجوماً على جميع الدول الأعضاء بالحلف، ويبدو أن هذه الكلمات أخذت الكثير من الوقت والنقاش ضمن الاجتماع المذكور، وعلى الرغم من المواقف المتناقضة من هذا التصريح أبدى ماكرون في أثناء انعقاد القمة إصراراً على كلماته، ورأى أن التصريح قد «أثار بعض النقاشات الضرورية».
لم يبنِ ماكرون موقفه هذا من لا شيء، فهو يستند إلى الموقف الأمريكي الذي يظهر اهتماماً أقل بمصير الناتو، وتركيا التي اتخذت خطوات في سورية دون الأخذ بعين الاعتبار موقف الحلف من هذه الخطوات، وهو ما يرى فيه الرئيس الفرنسي نزعة للعمل خارج إطار التحالف، فالولايات المتحدة تركت ميدان المعركة في سورية دون نقاش هذا الانسحاب الإستراتيجي مع دول الناتو، وأعزى ماكرون هذه الأفعال إلى عدم قدرة الحلف اليوم على ضبط تصرفات أعضائه. وفي تصريحات أدلى بها بعد اللقاء مع نظيره الأمريكي على هامش الاجتماع، اعتبر أن «الحوار الإستراتيجي مع روسيا ضروري، إذا كنا مهتمين بأوروبا مستقرة. نحن نعيش في وضع تاريخي جديد وبحاجة إلى وضع جدول أعمال جديد». ولا ننسى طبعاً أن موقف فرنسا- وهي التي سبق أن تركت التحالف في عام 1966– لا يتوقف عند هذا الحد، فهي تعتبر أهم الداعمين لفكرة تأسيس «جيش أوروبي» كبديل عن الناتو ويتمتع باستقلالية أكبر.

أزمة تركيا مع الحلف

بالنسبة لتركيا كان على الاجتماع إيجاد تفاهمات حول جملة من القضايا، فكان الرئيس التركي قد هدد بعرقلة التصويت على خطط الناتو لـ «حماية منطقة البلطيق وبولندا من الخطر الروسي» في حال لم يعترف الحلف بالمنظمات الكردية في شمال سورية كمنظمات إرهابية، وكانت اليونان تطمح لوضع حدٍ للتقارب بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية الذي نتج عنه مذكرة تفاهم للتعاون الأمني وأخرى لتوسيع عمليات البحث عن الغاز الطبيعي شرق المتوسط، وهو ما ترى فيه اليونان تهديداً لمصالحها.
وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قال في تصريحات له إن الاجتماع لم يناقش نشر تركيا لمنظومات الدفاع الروسي، إلا أن أمين عام الناتو، ينس ستولتنبرغ أكّد أن الكثير من دول الناتو تشعر بالقلق بسبب قرار تركيا استخدام S-400، لكن الموضوع بالنسبة لتركيا لم يعد مطروحاً للنقاش، بل على العكس من ذلك، فتصريحات أردوغان تؤكِّد على أن تـأييد تركيا «للعلاقات البناءة القائمة على التفاهم المتبادل مع الصين» التي رأى فيها قوة ناشئة، وأضاف إن «روسيا واحدة من القوى الفاعلة إقليميا ودولياً» واعتبر أن علاقته مع روسيا والصين لا تشكل تهديداً لدول الناتو.

أمريكا تشرف على ما يعنيها فقط!

شغل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معظم وقته في الاجتماع بمراجعة فواتير دول الناتو، وقال في تغريدة له عقب انتهاء الاجتماع بأنه ضغط «بنجاح فائق على قادة دول التحالف»، وجعلهم يدفعون- حسب تعبيره- 130 مليار دولار سنوياً و400 مليار دولار إضافية إلى مدة 3 سنوات. وتأتي مراجعة دفاتر الحسابات هذه بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن ضرورة أن تخصص دول الناتو 2% من ناتجها لميزانية دفاع الناتو. وعلى الرغم من الضغط الأمريكي الكبير حول موضوع النفقات إلّا أن تسع دول فقط من مجموع الـ 29 دولة وصلت إلى هذه النسبة، ومن المقرر أن تلتزم بقية الدول بحلول 2024، لكن هذا الحلم يبدو بعيداً جداً فالمستشارة الألمانية أنجليلا ميركل أكدت أن بلادها لن تصل إلى هذه النسبة حتى عام 2035، وفرنسا ترى بأنها غير ملزمة بذلك، وعدم قدرة دول كبيرة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على الالتزام بهذه النسبة سيجر ردّ فعلٍ أمريكي لا يمكن التنبؤ به، فترامب كان قد أعلن أن بلاده ليست مستعدة لتحمُّل هذه النفقات لحماية دول أوروبا وأن على الأخيرة تحمل مسؤوليتها بهذا الخصوص.
ومن الجدير بالذكر، أن الرئيس الأمريكي كان قد ألغى مؤتمراً صحفياً بختام الاجتماع وتشير التقارير إلى أن هذا الإلغاء جاء رداً على نشر فيديو يُظهر سخرية بعض الزعماء من ترامب.

الأزمات التي تولد أزمات

يبدو البيان الختامي فارغاً إذا ما نظرنا إلى المشكلات ذات الحجم الكبير التي تنتصب أمام حلف الناتو، ويحاول التوفيق بشكل اعتباطي بين وجهات النظر المتباينة، فهو يثبت نسبة 2% للإنفاق التي جرى الاتفاق عليها منذ خمس سنوات مضت متجاهلاً عدم قدرة الدول الإيفاء بهذه العهود، ويحاول البيان الختامي حسم الموقف من روسيا والصين إلا أنه يلجأ إلى الصيغ الضبابية التي تعكس عدم قدرة دول الناتو على صياغة موقف نهائي من هذه القضية، فماكرون مثلاً أعلن صراحة أنه لا يعتبر روسيا عدواً للناتو، بل إن عدو الناتو الحقيقي هو المنظمات الإرهابية، وهذا هو موقف تركيا أيضاً التي لم يفوت رئيسها أردوغان فرصةً لتذكير القادة المجتمعين بأن بلاده من أكبر المساهمين في الناتو، في إشارة واضحة إلى أن مصالح بلاده يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وبقي مصير خطة «الدفاع عن دول البلطيق وبولندا» معلقاً فتركيا لا تزل مصرّةً على موافقتها المشروطة لهذه الخطة، ولم يستطع الاجتماع إيجاد حل للخلاف اليوناني- التركي حول الاتفاق البحري بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية.
يؤكد البيان أيضاً على التزام التحالف بالمادة الخامسة متجاهلاً أنها في الواقع باتت مجمدة أو انتقائية بأقل تقدير، فترامب كان قد سخر منذ سنة من فكرة أن تدافع الولايات المتحدة عن بلدٍ صغير وبعيد مثل مونتينيغرو، وبقيت طروحات ماكرون دون جواب واضح، وأوكلت هذه المهمة السياسية الكبرى إلى «لجنة متخصصة» ستقدم مقترحات تخص مستقبل الناتو!
الأزمات التي تعصف بالناتو لا تزل قائمة وتتجذر أكثر من قبل، وما جرى فعلياً لا يتعدى كونه نقلاً لجدول الأعمال إلى الاجتماع القادم بعد أن تضاف إليه طبعاً الخلافات الجديدة التي ستنشأ إلى انعقاده

معلومات إضافية

العدد رقم:
943
آخر تعديل على الجمعة, 16 نيسان/أبريل 2021 16:24