استحقاق تحسين المستوى المعيشي للمواطن السوري يضع الحكومة أمام سيناريوهين!  إذا كان رفع الرواتب خياراً مؤجّلاً حتى تتوفّر الموارد... فلمَ لا تسعى لتخفيض الأسعار إذاً؟!

استحقاق تحسين المستوى المعيشي للمواطن السوري يضع الحكومة أمام سيناريوهين! إذا كان رفع الرواتب خياراً مؤجّلاً حتى تتوفّر الموارد... فلمَ لا تسعى لتخفيض الأسعار إذاً؟!

تتعالى الأصوات المطالبة بزيادة الرواتب والأجور على الوسط الشعبي، هؤلاء المطالبون الذين أنهكتهم ارتفاعات الاسعار خلال الفترة الماضية، والتي وصل متوسطها إلى %100 بفترة زمنية لا تتجاوز العام ونصف العام تقريباً، وهذا ما أرخى بثقله على تراجع القدرة الشرائية للسوريين المتهالكة أساساً، ولم يبقَ أمام هؤلاء سوى الأمل بتعويضهم عبر أية زيادة مفترضة في الرواتب علها تعيد جزءاً من قوتهم الشرائية، إلا أن «النق» الحكومي أفقدهم بصيص الأمل الذي يحلمون به، وخاصة بعد قول وزير الاقتصاد والتجارة بعدم القدرة على رفع الأجور حتى بنسبة %5، ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه: هل رفع الرواتب هو الأسلوب الأوحد لرفع المستوى المعيشي للسوريين؟! أم أن هناك طرقاً أخرى يمكن أن تحقق فاعلية أكبر مما قد تحققه زيادة الرواتب؟! ولمَ لا يجري الحديث عنها كبديل حتى الآن؟!

القوة الشرائية «الضائعة»

وضعت الحكومة الحالية تحسين المستوى المعيشي للسوريين كأولوية لا بد منها، وهي في هذا السياق أمام خيارين لا ثالث لهما، فزيادة الرواتب التي تعد ضرورة لاستعادة جزء من القوة الشرائية الضائعة، أحالها البعض لغياب الإمكانات، فخزينة الدولة «ُتنَازع»، ومواردها على «قد حالها» كما يدعون، ولا يبدو أن محاسبة كبار الفاسدين، ومعاقبة مليارديرية الأزمات مشاريع مطروحة على الطاولة الحكومية ضمن الآجال الزمنية القصيرة، على الرغم من كل ما توفره من موارد مالية كبيرة، ولكن أليس هناك أسلوب آخر على المستوى المباشر يمكن أن يؤثر إيجاباً في تحسين معيشة السوريين، فإذا لم تكن الحكومة قادرة على تأمين الموارد اللازمة لزيادة الأجور، عبر مصادرة تلك الثروات غير المشروعة، فلمَ لا تسعى لتخفيض الأسعار في الأسواق بنسبة %50 بدلاً من زيادة الرواتب بنحو %25؟! وما قد يرافق تلك الزيادة من ارتفاعات الأسعار مما يحولها لزيادة فقط؟! وتجارب السنوات السابقة لا تزال شاهدة على ذلك، فكل زيادات الرواتب قوبلت بارتفاعات في الأسعار، أكلت دسم تلك الزيادات، وحرمت السوريين منها..

دور اقتصادي مغيّب

قد يعتبر البعض دعوتنا إلى ضبط الأسواق وتخفيض الأسعار ضرباً من الخيال، إلا أن تكلفة زيادة الرواتب التي ستتراوح بين 50 إلى 75 مليار ليرة، يمكن ضخ ما هو أقل من ذلك بكثير في دور اقتصادي فاعل من جانب الدولة في الأسواق، وقد تأتي بنتائج أكثر إيجابية، فمن حق المتابعين التساؤل: لمَ لا تخفض مؤسسات الخزن والتسويق أسعارها بأقل من الأسواق بدلاً من تباهي ادارتها بتحقيقها ملياري ليرة كأرباح سنوية؟! في الوقت الذي يشكو الكثير من السوريين ارتفاع الأسعار داخل تلك المؤسسات حتى أنها أغلى من أسعار الأسواق في بعض الأحيان؟! فهل واجب تلك المؤسسات تحقيق أرباح مالية بالدرجة الأولى أم أن هدفها هو الاستحواذ على ثقة المستهلك بدلاً من «تطفيشه» بشكل متعمد بعدما تثبت له أسعار تلك المؤسسات بالدليل القاطع أنها أغلى من الأسواق؟! وفي هذا المثال البسيط دليل حسي على إمكانية تفعيل أحد الأذرع الاقتصادية للدولة في مجال تخفيض الأسعار؟!

وتيرة ارتفاع الأسعار بالماضي أبطأ

الخلل الحاصل في الأسواق ليس وليد حقبة زمنية لا تتجاوز العام ونصف العام فقط كما يحاول البعض تصويره، ليتفنن هو ذاته فيما بعد بإيجاد الذرائع والمبررات لرفع أسعار السلع والمواد الاستهلاكية، والإبقاء على ارتفاعها، وهذا ما عرّته دراسة ارتفاعات أسعار سلسلة من المواد الغذائية على امتداد 19 عاماً، فالسنوات الـ 19 المدروسة بين 1992 – 2010، جرى تقسيمها إلى مرحلتين، وتمتد الحقبة الأولى (1992 – 2005)، والمرحلة الثانية تمتد لخمس سنوات فقط (2006 – 2010)، وفي النتائج، وصل متوسط ارتفاع أسعار المواد والسلع الغذائية خلال المرحلة الأولى كان بحدود %51، بينما وصل متوسط الارتفاع خلال المرحلة الثانية بم يتراوح بين %63 بالحد الأدنى و %68.5 بالحد الأعلى، وذلك وفق أرقام رسمية صادرة عن وزارة الاقتصاد، وهذا يجيب على الكثير من التساؤلات، ويرد على الرافضين للعب الدولة دوراً قوياً في الحياة الاقتصادية..

وهذه الدراسة تؤكد أن تيرة ارتفاع الأسعار في المرحلة الثانية (2006 – 2010) أعلى بكثير من وتيرتها في المرحلة الأولى (1992 – 2005)، وهذه القدرة على الحد من ارتفاع الأسعار في المرحلة الأولى لم تأت من فراغ، بل هي نتاج دور اقتصادي واجتماعي كانت تلعبه الدولة في مراحل سابقة، ولم يكن نتاج خطوات رقابية هشة تُتخذ لرفع العتب بين الحين والأخر، والتي تعد خطوة مكلمة لواقع اقتصادي قوي، بينما شكل غياب هذا الدور نكسة على هذا الصعيد..

تدخل على ثلاثة مستويات

الجزم من جانب بعض الحكوميين بعدم القدرة على رفع رواتب السوريين لا يعفيهم من ضرورة تحسين مستوى معيشة السوريين، والبحث عن بدائل متاحة، والمتمثل بقدرتهم على تخفيض الأسعار في الأسواق بنسب مقبولة يشعر بنتائجها المستهلكون، ويلمسها السوريون، فحلقات التأثير التي جعلت من الدولة تاجراً مؤثراً في الحياة الاقتصادية في السابق يجب أن تعود، فالدور الاقتصادي للدولة في السابق كان كبيراً، واستند لحالات تدخل متشعب على ثلاثة مستويات، من خلال دخول الدولة كمنافس قوي في استيراد السلع الغذائية، وفي الإنتاج والتوزيع أيضاً، ولهذا كان لها اليد الطولى في الأسواق، من خلال اعتمادها سياسة التسعير المحدد للمواد، وقدرتها على ضبط هذا التسعير من خلال دورها الاقتصادي وليس الرقابي فقط، ودخولها في مجال إنتاج العديد من المواد الأساسية، والتي كانت تنتجها مؤسسات القطاع العام، ووجود القسائم التموينية التي كانت تحد من ارتفاع الأسعار أيضاً، واستيراد الحكومة لأغلب السلع والمنتجات بخاصة الغذائية منها، ودخول الدولة عبر مؤسسات التدخل الايجابي كبائع في الأسواق، حيث كانت تلك المؤسسات أكثر فاعلية من الآن، ووجود وزارة التموين ودورها الرقابي أيضاً، ومجموع كل ذلك، رغم الملاحظات على أدائها في تلك الفترة، إلا أنه ساهم بتوازن الأسعار نسبياً..