دون تسوية سياسية...  «لا اقتصاد» بل و«لا سورية»

دون تسوية سياسية... «لا اقتصاد» بل و«لا سورية»

الواقع الاقتصادي السوري محكوم بالسياسة بكل تفاصيله ويومياته، وهو في مطب عميق لا يمكن الخروج منه بأنصاف الحلول... بل فقط بتسوية سياسية شاملة تعيد تشكيل وجه البلاد وتجمع أجزاءها وتنهي شتات أبنائها. تدرك جميع القوى الفاعلة سياسياً واقتصادياً في الوضع السوري هذا بوضوح، سواء من يريد الاستثمار في إعمار سورية ومستقبلها، أو من يستثمر في خرابها اليوم! قوى «الاستثمار» هذه تقطّع الوقت حتى تتجلى طبيعة وإمكانات الشراكات المقبلة بمنظورهم. ولا أحد ضمنها يسعى جدياً في المرحلة الحالية للقيام بأية خطوة إلا بمقدار ما يمنع الانهيار الشامل، ويسمح بالبقاء عند حافة الهاوية.

المصير الاقتصادي مرهون لتسويف التسوية السياسية وتجميدها، الأمر الذي يستهدف ترسيخ أمر واقع: مناطق نفوذ مبتورة الموارد، ومستلبة بأمراء الحرب، ومتكئة على الإمداد الدولي والإقليمي السياسي.

دون تسوية: استمرار الأزمات وأمراء الحرب

منع الحلول يمنع استعادة وحدة البلاد ويقطع اتصال طرقها ومواردها وسوقها وقواها البشرية. وهذا يعني بالحد الأدنى: استمرار أزمة الطاقة والخبز، أي: الأساسيات. ليضع حدّاً موضوعياً لقاعدة الإنتاج الحالية لتنتج بأقل من نصف طاقتها بأحسن الأحوال. ويجعل القمح والطحين معتمداً على المساعدات، وعلى مشتريات سنوية ضخمة مسعّرة بالدولار، الأمر الذي يحكم التقشف في رغيف الخبز الذي تقلّص إنتاجه بنسبة قد تقارب 45% ليشتق من هذا استمرار أزمات: كهرباء، وبطالة، ونقل، وتدفئة، وطوابير، وجوع وغيرها.
إن واقع انفصال مناطق سورية عن بعضها البعض، سيبقي موارد الحكومة السورية بحدودها الدنيا وسيجعل اعتمادها الأساسي على التقشف من جهة، والجباية والتحصيل من بقايا الحركة في سوق الإنتاج والتداول من جهة أخرى.
بينما الشريحة الضيقة من أمراء الحرب وقوى النفوذ فهم أكثر من يعلم أن اللحظة ليست للعمل والبناء، والمرحلة الحالية لها عنوان بالنسبة لهم: تكديس ثروات من الهيمنة على معظم أوجه النشاط الاقتصادي الشرعي وغير الشرعي، والسعي إلى جمع كل ما يمكن جمعه من مال وقوّة لمواجهة خيارين سياسيين: إمّا تسوية تتيح تحوّلهم «لشركاء البزنس» الأوليّن في اللحظة القادمة، أو تسوية تفرض عليهم الهرب بحقائب دولارية.
وما ينطبق على مناطق الحكومة، ينطبق على مناطق الإدارة الذاتية والشمال السوري، وفي كل منها تقل الموارد وتحكم السوق قوى أمر واقع من أمراء الحرب، ويرتفع الضغط على المجتمع لحدود قصوى.

دون تسوية لن يعود أي سوري!

أيضاً دون تسوية، فإن نصف السوريين سيبقون خارج بلادهم، وهذا أمر واقع يعني خسارة نصف طاقات البلاد: شغيلتها وكوادرها أطبائها وفنييها ومدرسيها وغيره... بل حتى نصف مدخراتها وإنفاقها، ونصف أطفالها ومستقبلها، إن بلاداً بنصف سكانها هي نصف بلاد!
وهؤلاء الملايين لن يعودوا عودة جدية وجماعية إلا عندما تتجلى بوضوح معالم الوصول إلى تسوية وتغييرات سياسية كبرى تطوي صفحة العنف والخطاب المتشدد الإقصائي، وتفتح صفحة جديدة تكون فيها البلاد لجميع أبنائها، وربما الأهم من هذا وذاك، فإن هذه العودة موضوعياً لن تكون قبل انطلاق إعادة إعمار البلاد.
الملايين الذين غادروا سورية هم من فئات وشرائح اقتصادية مختلفة، حرّكهم بالدرجة الأولى السعي إلى إرسال أبنائهم بعيداً عن الحرب، ومع التعقد السياسي وتوسّع دائرة العنف، انتقلت عائلات كبرى بأكملها لمحاولة إنقاذ مستقبلها، كثر من هؤلاء باعوا كل مدخراتهم في هذه الهجرة وانتقلت العقارات والأعمال والنشاط اليومي، لتبني هذه الأسر استقراراً نسبياً وأعمالاً في الإقليم وتحديداً في تركيا والأردن ومصر والخليج.
أما الأكثر من مليون في أوروبا فهؤلاء أيضاً يصعب إعادتهم في ظرف غير مستقر لأن هذه الشريحة الشابة دفعت غالياً للوصول إلى «بر الأمان الأوروبي» حيث رغم كل التعقيدات الاجتماعية المرتبطة بظروف اللجوء، فإن هذه الأسر الصغيرة بمعظمها قد استقر أولادها في منظومات تعليمية وبيئات جديدة وأصبح هذا محدداً في الاستقرار. أمّا الشباب الدارس والعامل وحتى العاطل يمتلك أماناً سياسياً واقتصادياً في دول المركز أعلى مما قد يمتلكه داخل البلاد، وكلاهما أكثر حسماً من الجانب الاجتماعي في اتخاذ القرارات المصيرية بالبقاء أو العودة.
يتبقى الشريحة الواسعة الأضعف بين اللاجئين المتركزة في لبنان والأردن وتركيا، فهؤلاء قد لفظهم العنف إلى واقع متردٍ جداً في الخارج، وهم لم يبيعوا بيوتهم بل هربوا من دمارها، ولم يعد لمعظمهم أحياء وقرى ومجتمع في سورية... إنّ هذه الشريحة لا تمتلك ترف خيار العودة الجماعية دون منظومة تعويضات كبرى وإنفاق اجتماعي واسع لإعادة تأهيل قرى وأحياء مدمرة، وهي أكثر الشرائح خوفاً من التشدد السياسي لأنهم لا يمتلكون وزناً أو مالاً يكفي ليضمنوا «تسوية أوضاعهم» دون تحوّلهم إلى جزء من ميليشيا ما!
البلاد لن تستعيد نصف قواها البشرية، بل لن تستطيع أن تمنع مزيداً من النزيف البشري، دون تسوية سياسية شاملة تغير وجه السياسة في سورية وتفتح مستقبلها الاقتصادي.

دون تسوية لا إعادة إعمار ولا استثمار

أخيراً التسوية السياسية هي الشرط الموضوعي لإعادة الإعمار، فسورية كأزمة مدوّلة تحتاج فعلاً إلى اتفاق وإنفاق دولي. أولاً: لأن الحق والعدل يقتضي أن تعوّض سورية عن كل الدمار الذي أصابها جراء تحوّلها لساحة معركة كبرى، وثانياً: لأن الحاجة الموضوعية ستقتضي إنفاق ما يقارب بضع مئات مليارات الدولارات في وقت قصير نسبياً لتعود هذه البلاد، بلاداً.
وثالثاً: وهو الأهم لأن الوصول إلى لحظة إعادة الإعمار لن يحصل إلا بعتبة سياسية إقليمية جديدة، وقد لا تشهد إعادة إعمار سورية وحدها بل انتشال سورية ولبنان والعراق معاً على الأقل! وقد يترافق مع الوصول لنواة تسوية إقليمية واسعة: تخفف التوتر الخليجي الإيراني المستمر لعقود بمضار على الجميع، وتضع تركيا في حدودها الموضوعية، وتكشف مستوى هشاشة الكيان الصهيوني الذي يعتاش على مشروع التوتير في «الشرق الأوسط» وتساهم في تهميش دوره ووجوده في المنطقة.
دون نضج مثل هذه الظروف الدولية والإقليمية، لن يتدفق مال الخليج ولا غيره كما يأمل البعض، ولن تكون القوى الدولية والإقليمية المهتمة بالشأن السوري معنية «بتحسين شامل للحياة»، بل قد يكفي بمفهومهم ومن موقعهم وضع البلاد المريضة على جهاز الإنعاش في الظرف المعقّد الحالي لمنعها من الموت، بينما يسعى أصحاب مشروع الفوضى لمنعها من النهوض عبر تعطيل وظائفها الحيوية: تقطيع أوصالها، إبعاد وتهميش أبنائها، وتربية الطفيليين من أمراء الحرب وتغذيتهم ليبتلعوا مستقبلها.
دون تسوية سياسية تستنهض بقايا القوى الحية في البلاد وتحفّز التسوية الإقليمية، فإننا لن نستطيع أن نبقى طويلاً على «منفسة التوازن الدولي»، وقد ننتقل من الموت السريري إلى واقع أشد إيلاماً قد يطعم سورية التي نعرفها لحركة التاريخ التي سبق أن طوت صفحات مضيئة كثيرة في مسيرة صراعه الصعب للأمام.

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1022
آخر تعديل على الثلاثاء, 27 تموز/يوليو 2021 12:43