تايوان... أهم من مضيق هرمز حلقة الرقائق العالمية بين الصين والغرب

تايوان... أهم من مضيق هرمز حلقة الرقائق العالمية بين الصين والغرب

كل ما نستخدمه في حياتنا اليومية يرتبط بدارات صغيرة جداً تُسمّى بالرقائق الإلكترونية CHIPS، من الكمبيوترات الفائقة إلى الهواتف الخليوية، وصولاً إلى ما يشغّل الراديو في السيارة، فمختلف المعدّات اليومية تحتوي على الرقائق. التي ينتج منها عالمياً ما يقارب تريليون سنوياً، إنّ هذه الصناعة تتحول إلى (النفط العالمي اليوم) وربما يمكن تشبيه تايوان- حيث تنتج معظم أشباه الموصلات اليوم- بمضيق هرمز بالأمس، حيث تعبر معظم الطاقة العالمية، بل ربما يتجاوزه أهمية.

السباق العالمي في هذه الحلقة الهامة للتكنولوجيا العالية في منعطف حاد، والقطاع يلخّص مستوى تمركز الإنتاج العالي، ومستوى تشابكه بين قوى الإنتاج العالمي. والمهمة التي تضعها الولايات المتحدة أمامها- بأن تبقي الصين في حلقة متدنية من هذه السلسلة- محفوفة بالمخاطر.
ضمن حلقات إنتاج هذه الرقائق، هنالك حلقة مفتاحية تسمّى: رقاقة المنطق: Logic chip، القطعة السيليكونية الأغلى والأكثر تعقيداً التي تعطي المعدات ذكاءها. هذه القطعة الحساسة صمّمت في الغرب عبر شركة أبل الأمريكية، وشركة كوالكوم وعدة شركات أخرى بمنشآت عالية التطور. ولكن التصميم الذي أنجز وتمّ ومحميّ بحقوق الملكية ليس شيئاً دون إنتاج هذه الرقائق عالية الدقة، وهي التي تنتج اليوم في تايوان وتقريباً في شركة واحدة فقط: شركة TSMC في تايوان.
تايوان الجزيرة التي تعتبرها الصين جزءاً منها، والتي تورد لها الولايات المتحدة السلاح، هي قلب صناعة التكنولوجيا العالمية اليوم، وهذا الخطر المتمثل بالاعتماد العالي على شركة واحدة ترتبط بكل الدول والشركات العالمية مسألة تسعى الصين إلى حسمها، وتحاول الولايات المتحدة أن تمنع هذا الحسم.

لماذا شركة واحدة تنتج 92% من الرقائق الدقيقة؟

الترانزيستورات، الناقلات التي تعطي الرقاقات وظيفتها، صغيرة للغاية وبمقاسات النانومتر، وهي مليارات الأجزاء من المتر. وبالمقاس الـ 5 نانومتر للرقائق فإننا نتحدث عن قطعة أصغر من فيروس، وتعبر هذه التكنولوجيا اليوم نحو الـ 3 نانو متر. كلما كانت الناقلات أصغر كلما أمكن إعطاء الرقاقة قدرات معالجة أعلى، ولكن صنع مثل هذه الرقاقات ليس خارج المقدرات العلمية للمجتعات البشرية، بل محدود بحدود السوق والربح.
تقلّص عدد الشركات في مجال صنع الرقاقات الدقيقة إلى حد بعيد رغم العمر القصير للصناعة، وعوضاً عن 25 شركة في عام 2000 وصلنا اليوم إلى ثلاث فقط: سامسونغ الكورية الجنوبية، TSMC التايوانية، وإنتل الأمريكية.
فعملياً، القيمة الاستثمارية المطلوبة لتصنيع معمل أشباه موصلات تقارب: 15-20 مليار دولار خلال خمس سنوات. وهذا ما يعني أنه ينبغي تشغيل المنشأة لـ 24 ساعة وسبعة أيام، لتنتج مئات ملايين التجهيزات سنوياً، والتي يجب أن تباع بمعدلات سريعة جداً، وإلا فإن المستثمرين سيخسرون المال. وليست الكلفة الأساسية هي المشكلة بمقدار ما هي إدارة اقتصاديات هذه السوق الضخمة، بحيث يكون الاستثمار مربحاً. وشركات قليلة استطاعت أن تدرك الآليات الاقتصادية أو السوقية الأساسية التي يمكن أن تُدخلها هذه اللعبة وتبقيها رابحة.
تبدي إنتل الأمريكية اليوم مؤشرات تراجع ملحوظ، ورغم أنها هيمنت على الصناعة لثلاثين عاماً مضت، إلّا أنها بدأت تغلق منشآت إنتاجية تابعة لها في الولايات المتحدة، وأعلنت أنها كشركات أخرى ستنقل إنتاجها إلى خارج أمريكا وإلى TSMC على وجه التحديد.
أمّا بالنسبة لسامسونغ الكورية الجنوبية فإنها بمقياس الكميات تنتج كميات أكبر، ولكنها تركّز على رقائق الذاكرة، وليس على رقائق المنطق التي تعتمد على TSMC في إنتاجها. ومع تراجع إنتل، وتخصص سامسونغ، تبقى الشركة التايوانية الوحيدة في العالم، أو الأساس في إنتاج رقائق المنطق على الأقل خلال الفترة القريبة القادمة. والشركة عملياً قد انتصرت في السوق العالمية ليتم إنتاج 30% من رقائق المنطق عبر مهندسي الشركة في تايوان، وتصنع بالعموم 92% من الرقائق عالية الدقة التي يستهلكها العالم، وتستولي على 56% من مبيعات الرقائق العالمية بمختلف مستوياتها، بينما 10% إضافية تنتجها شركات تايوانية أخرى، ويتوزع الباقي عبر العالم.

السلسلة العالمية المتشابكة لصناعة واستهلاك الرقائق

الشركة التايوانية ترتبط بالصناعات العالية الأمريكية لحد بعيد، ورغم أنّها حلقة أساسية لإنتاج أيفون، وطائرات f35، ومختلف الإنتاج الأمريكي للتجهيزات الإلكترونية والعسكرية. إلّا أنها أيضاً تعتمد في آلات ومعدات تصنيع الرقائق على شركات أمريكية معدودة وغير مشهورة الاسم، وهي التي تنتج لها آلات صناعة الرقائق.
أمّا بعلاقة الشركة التايوانية مع الصين فهنالك جانب سوقي آخر، وهو أن الصين هي المستهلك الأكبر للرقائق عالمياً، فمعظم ما ينتج عالمياً ينتقل ليستخدم ويجمّع ويركّب في الصين.
والجميع، الولايات المتحدة، وتايوان، والصين وأطراف أخرى ترتبط بسلسلة الإنتاج العالمية الأكثر شمولية وتعقيداً، وهي: سلسلة صناعة الرقائق.
فمن التصاميم والآلات الأمريكية إلى تايوان، ومن تايوان يتم نقل الرقاقات إلى فيتنام لإنجاز مرحلة، ومن فيتنام يتم نقل الرقاقات شبه المنجزة إلى الصين، لتدخل في تصنيع السلع النهائية، ومن الصين تتنقل إلى الاستهلاك العالمي. هذا عدا عن كون الصين حلقة مستقلة في إنتاج الرقاقات الأقل دقّة، والتي تستخدمها شركات أمريكية مثل: كوالكم وغيرها. ليضاف إلى كل هذا، أن الصين هي أكبر سوق استهلاك للمعدات الإلكترونية والتجهيزات عبر العالم، وما ينتج عالمياً إذا لم تتوجه حصة هامة منه للمستهلكين في الصين فإنّه قد يصبح خارج اللعبة الاقتصادية الحساسة نتيجة مستوى تكاليفها وتعقيد شبكة إنتاجها وتوزيعها.

الولايات المتحدة:
اللعب على (سلسلة النار)

وسط كل هذا التشابك العالمي لسلسلة إنتاج الرقائق، تعتبر الشركات الأمريكية الأكثر ارتهاناً لآليات السوق العالمية، وهي إن كانت تمتلك ميزة التصميم التي قد يصعب تجاوزها حتى الآن، فإنها لا تستطيع أن تتجاوز حدود السوق العالمية وحاجتها لمنتجين آخرين وللاستهلاك الصيني! ولن تستطيع أن تنتج في حدود دول المركز بالتكاليف ذاتها ولن تستعيد معاملها للداخل الأمريكي... ومع هذا فإن الولايات المتحدة تلعب لعبتها السياسية الإستراتيجية الخطرة لتقييد التقدم الصيني التكنولوجي، عبر فرض العقوبات على توريدات كل ما يتعلق بالرقائق وحجبها عن السوق الصينية، وأكثر من ذلك تلعب لعبة خطرة سياسياً في تايوان، عبر توريد السلاح إليها، وتحدّي التحذير الصيني بأن الصين قد تلجأ إلى القوة العسكرية إذا ما حاولت تايوان الانفصال التام.
لقد فرضت أمريكا عقوبات على هواوي ومنعت توريد الرقائق إليها، وشملت معها 60 شركة صينية أخرى. وبالتالي، أصبح من الصعب على الشركة التايوانية أن تورّد للصين العديد من المنتجات التي يدخل في تصميمها شركات أمريكية، وتقلصت مبيعات TSMC للصين بنسبة 70% في عام 2020. ولكن هذا التقلص عميق الأثر على الشركة الأوحد عالمياً، والتي تعتمد عليها شركات التكنولوجيا الغربية بشكل شبه كلي، وهذا يهدد السلسلة العالمية الحساسة. ولكنه يدفع الصين نحو خيار وحيد فقط: إمّا الاستقلال التكنولوجي عن تايوان، أو ضمّ تايوان بشركتها.
ويبدو أن الصين حتى الآن تلجأ إلى الخيار الأول، وتبقي الخيار الثاني رهناً لمستوى تصعيد الغرب العسكري والسياسي في شرق آسيا.
في الاجتماع الأخير للحزب الشيوعي الصيني في 2021، أعلنت الصين أنها ستستثمر 1,4 تريليون دولار إضافية للوصول إلى الاستقلال التكنولوجي الكامل. وللصين ميزة أساسية، أنها تستطيع أن تتجاوز حدود قواعد السوق التي تضطر الشركات الأخرى للامتثال لها. فالشركات الصينية مدعومة مالياً بإستراتيجيات حكومية نحو الاستقلال، وهي بهذا تتجاوز حدود التمويل المحكوم باستعادة الربح في وقت قصير، ومدعومة بقدرتها على تعبئة الطاقات البشرية العلمية الصينية وغير الصينية، فمثلاً في العام الماضي وحده: انتقل 3000 مهندس رقائق من تايوان للعمل في الشركات الصينية، وكذلك يتم رصد حركة الموارد البشرية من الولايات المتحدة إلى الصين، والأهم، أن الصين تستطيع إلى حد ما أن تكون أكثر استقلالية عن السلسلة العالمية من حيث التوزيع، فهي المستهلك الأكبر للرقائق والمستهلك الأكبر للبضائع العالمية التي تدخل الرقائق في إنتاجها. والتحدّي الأساسي أمام الصين هو: القدرة على اختصار الزمن، واستيعاب وتجاوز المعارف العلمية التي احتكرها الغرب لعقود... إنّه أمر شاهدناه في مجالات أخرى تجاوزت فيها الصين بوقت قياسي، وقد لا تكون الرقائق استثناء

معلومات إضافية

العدد رقم:
1023