الكتابة الأكاديمية: قاموس رتيب وبارد

الكتابة الأكاديمية: قاموس رتيب وبارد

في لغة الشارع، نلاحظ أحياناَ ظهور كلمات تسود وتنتشر دون سببٍ معروف، منها مثلاً «لايك» و«حبيت» اللتان انتشرتا للتعبير عن الإعجاب بأمرٍ ما، أو حينما يقال «شغّال» إجابةً على سؤال: «كيفك؟». لكن الحقيقة أن الكلمات الشائعة لا تقتصر حدودها على لغة الشارع، بل تتجاوزها إلى اللغة الأكاديمية والفكرية، بحيث نرى موضوعات وكلمات تسود وتنتشر ضمن أوساط محددة، وتصبح أشبه بأطر لا بد من استخدامها إن أراد المرء أن يبدو «مفكراً» و«عميقاً».

أن تتحدث مثل «المثقفين»

كثيراً تَسْخر شرائح واسعة من المجتمع من الطريقة التي يتحدث بها المثقفون. لكن ما هي هذه الطريقة حقاً، وما أبرز سماتها؟ أي بصيغة أخرى: كيف تتحدث مثل مثقف؟

لكي نقترب قليلاً من الإجابة عن السؤال، يكفي ملاحظة أن اللغة الأكاديمية أو التخصصية، كما تسمى تهيمن على الأوراق البحثية والمقالات التخصصية من حولنا. فعلى سبيل المثال، ودون سبب واضح، تنتشر في مجال الدراسات الثقافية موضة استخدام اللاحقة اللغوية: (ات)، كما لو أن إضافة هذه اللاحقة لأية كلمة يكسبها مزيداً من العمق والوقار، ومن الأمثلة على ذلك كلمات: فضاءات، ممارسات، اشتغالات، نظاميات، خطابات، مقاربات. في المقابل، وفي مجال العمل التنموي والأوراق والمنشورات الصادرة عن مؤسسات المجتمع المدني نلحظ وجود كلمات شائعة أخرى، يأتي في صدارتها: تنمية، استدامة، تمكين، حوكمة، هيكليات. وكما لو أن الأمر لا يمكن أن يزداد جموداً وتعقيداً: نلحظ أيضاَ شيوع استخدام تركيبات لغوية معقدة، تبدو للوهلة الأولى مبهمة تماماً وعصية على الفهم. كما لو أن العمق هنا يعني بالضرورة اللف والدوران حول المعنى قبل إصابته، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «جهات فاعلة غير دولاتية»، و«إستراتيجية تنمية تضمينية». فطريقة صياغة هذه العبارات كفيلة بتكريس الشعور لدى القارئ بأنه غير مؤهل لفهم عما يدور الحديث، وبالتالي فالكلام غير موجه له، ولا ضرورة لكي يتعب نفسه في فهمه.

الكتابة المملة كشرط أكاديمي

في كتابه نظام التفاهة ينتقد المفكر آلان دونو النمط السائد في الكتابة الأكاديمية، ويقول معلقاً على ذلك: «وحده الأسلوب المحايد، والهادئ والمضبوط هو ما يجعل من نثر المرء جديراً بالعلم، كلما كان ذلك ممكناً ينبغي أن تكون الكتابة مملة». ويضيف، بأن الكتابة الأكاديمية ينبغي لها ادعاء الارتباط بالمعرفة بحيث تبقى دائماً في المنطقة الوسطى لأنه: «كل ما عدا ذلك سيتسبب بحالة من عدم الارتياح». ويضيف دونو أيضاً، بأن الباحثين كثيراً ما يتلقون نصائح بتجنب الكلمات المُثقلة بأية شحنة عاطفية، فبدل تعبير «الثورات السياسية» يُنصح باستخدام كلمة مقاومة، وبدل «الطبقات الاقتصادية» يقال فئات اجتماعية. يلحظ الكاتب أيضاً نزوعاً لاستخدام تركيبات لينة ومبهمة كاستخدام مصطلح «حوكمة سيئة» بدلاً من نهب وجرائم.

ليست لغة خشبية بل بلاستيكية!

في وصف هذا النوع من الكلمات، يمكن لنا استبدال تعبير «اللغة الخشبية» بعبارة «اللغة البلاستيكية» الذي يعني أن اللغة يجب أن تكون مُعلبة رتيبة ومتشابهة، وقابلة للاستخدام مرةً بعد مرة. فالأمر وفق بعض الباحثين لا يقتصر على الاختيار المحدد للكلمات، وإنما يرتبط أيضاً بنبرة أو إيقاع النص ككل. الأمر هنا يشبه معبراً أو مصفاة تدخل عبرها الأفكار والأطروحات مهما اختلفت لتخرج جميعها متشابهة. ولهذا يشبّه باحثون آخرون هذا النمط من الكتابة بالشيفرة السرية التي يتداولها أعضاء نادٍ مغلق. يحمي هذا الغموض النص من النقد، بحيث لا يستطيع القارئ الجزم إن كان ما يقرأه ملهماً ومهماً أو هو محض تفاهات. وبذلك يمكن القول: إن اللغة الأكاديمية اليوم أمست تكثيفاً صادقاً لجوهر فكرة العولمة الثقافية، وامتداداً لما يسمى «ثقافة استهلاكية» لكن ما يتم استهلاكه هنا هو الكلمات والأفكار بدلاً من السلع.

وظيفة اللغة المعلّبة

يطرح كتاب نظام التفاهة سؤالاً مهماً مفاده: «من ذا الذي يود أن تبقى الأمور على هذه الشاكلة؟ ومن هو المستفيد من هذه النبرة الإلزامية؟». لكن الكتاب ذاته يبدو عاجزاً عن تقديم إجابة وافية للسؤال المطروح. من اللافت هنا في السياق العربي، أن الكثير من هذه المصطلحات تم اشتقاقها لتلائم مصطلحاً موجوداً باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية وغيرها. ولهذا ربما يتساءل البعض عن دلالات هذه الظاهرة التي تتجلى بالتخلي عن اللغة الأصيلة والحية للتعبير عن ظاهرة أو قضية مُعاشة لصالح مصطلح يتم استيراده وتداوله وتكريسه عبر الإعلام والمؤلفات المطبوعة والمؤتمرات وغيرها من أساليب تداول ونقل المعرفة.

في الوقت الذي تلعب فيه اللغة عادة دور الجسر الذي يوصل المعنى: تتحول هذه المصطلحات والتعبيرات إلى جدار يمنع نقل المعارف ويتركها مُحتكرة من القلة القليلة التي تألف وتتقن استخدامها. كما أن هذه المصطلحات تتحول مع الوقت إلى كلمات مفتاحية تحدد مسارات البحث والعمل المدني. إذ يكفي مثلاً وضع كلمة «تمكين» قبل أية شريحة اجتماعية (امرأة، طفل، ذوو الإعاقة) كي يمتلك المرء عنواناً بحثياً أو مقترحاً لمبادرة اجتماعية يجدها جديرة بالتنفيذ على أرض الواقع.

ومع الوقت يبرمج المجتمع نفسه على اعتبار أن القضايا المهمة والجديرة بالطرح أو التي تستحق الدفاع عنها والعمل عليها، هي فقط القضايا التي تدور في فلك تلك المصطلحات. وهنا تتحول الكلمات من مجرد تعابير إلى طريقة ونهج تفكير.

من جانب آخر، قد يتجلى الخطر الحقيقي هنا في تكريس فكرة أن الكلمات يجب أن تكون «باردة»، أي: مُفتقدة للشحنة والحرارة، وغير قادرة على تحفيز الناس وتحريك مشاعرهم ودفعهم للعمل والحركة. وهذا مجدداً ينافي الوظيفة الذي وجدت الكلمات من أجلها. وكخلاصة يمكن القول: إن العولمة الثقافية لا تكتفي بتحديد الموضوعات التي ينبغي على الناس التفكير بها والعمل عليها، وإنما تحدد لهم أيضاً طرائق وأساليب التعبير عن تلك الموضوعات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1013
آخر تعديل على الإثنين, 12 نيسان/أبريل 2021 14:12