إنجلز: بين سرعة الصّوت وتسارع الأزمة

إنجلز: بين سرعة الصّوت وتسارع الأزمة

في مقاله «دروس انتفاضة موسكو» يشدّد لينين على فكرة أساسية من مقدمة إنجلز لكتاب ماركس «الصراع الطبقي في فرنسا»: «إن التكتيك العسكري رهن بمستوى التكنيك العسكري، فإنجلز هو الذي كرّر هذه الحقيقة ووضعها ممضوغة في أفواه الماركسيين». وكان لينين في مقاله يدرس تطور فكرة التكتيكات التي تسلكها الفئة المنتفضة انطلاقاً من مرحلته التاريخية والتحولات التي طالت بنية أجهزة الدولة (وحكماً أدوات القمع في يد جهاز الدولة العسكري) وشروط الصراع الطبقي بالضرورة، من مرحلة المسدسات في الدفاع عن المتاريس إلى مرحلة المدافع مثلاً. فما هو تطور هذه المسألة تاريخياً من انتفاضة موسكو وصولاً إلى الأسلحة الحديثة والمرحلة التي تطورت إليها الإمبريالية؟ وهل هي اليوم مطروحة في شكلها النظري على غالبية القوى الثورية؟!

في الثورة البلشفية والحرب العالمية الثانية

تتركز كل الخبرة الناضجة في تجربة الثورة البلشفية ليس لأنها تختزل كل الحركات الثورية في العالم، بل بكل بساطة لأنها هي من طبعت تلك الحركات اللاحقة بملامحها، لا بل يجب القول: إن كل الحركات الثورية من كوبا إلى فييتنام إلى الصين لا يمكن فهمها بمعزل عن الحالة التي كانتها الثورة البلشفية إلى جانب تلك الحركات التالية تاريخياً لها، فالثورة السوفييتية كانت حاضرة في كل الحركات الثورية التي تبعتها. وهذا حديث آخر سنمرّ عليه في سياق المادة ربطاً بهدف المادة نفسها.
بعد «دروس انتفاضة موسكو»، وخلال الحرب الأهلية التي تلت الثورة البلشفية، ومن بعدها في الحرب العالمية الثانية ، أي: في المرحلة التي انطبع الصراع الطبقي بها بملامح الإمبريالية والصراع معها في تداخل كبير بين الوطني والاقتصادي الاجتماعي- تطوّرت الفكرة، مع لينين: في سياق تطوير الجيش الأحمر للدفاع عن الحركة في مواجهة قوى الثورة المضادة والجيوش الإمبريالية التي حاولت قتل الثورة، حيث أشار لينين في غير مرّة إلى الانتباه إلى تكنيك الجيش عند التفكير السياسي في مسألة من المسائل، ومنها الصلح مع ألمانيا وقتها، حيث قيّم سرعة نقل المدافع إلى الحدود آخذاً بعين الاعتبار سرعة أحصنة الجر ربطاً بسوء حالة الطرقات، وعليه حاجج بضرورة الهدنة مع الألمان. ولاحقاً كانت ذروة التعبير عن فكرة ربط التكتيك بالتكنيك، هي خطّة ستالين التسليحية قبل الحرب، ولاحقاً في السلاح الدفاعي الردعي متكثّفاً في السلاح الجوّي والصاروخي بعيد المدى، ومن ثم السلاح النووي الرّادع الذي اعتبر نقطة وصول ضرورية لإقامة التوازن العالمي. وهكذا، وفي المنصّة التي وصل إليها الخط البروليتاري الاشتراكي تاريخياً، انحكمت حركة النقيض الطبقي الرأسمالي بتقدم تكنيك الاشتراكية، بينما كان سابقاً تقدّم التكنيك لدى الطبقة المسيطرة الرأسمالية هو الذي يحكم تكتيك القوى الثورية التي كانت تسعى إلى اللّحاق بتكنيك النقيض الرأسمالي.

حتّى سقوط الاتحاد السوفييتي وبعده بقليل

بقي هذا التكنيك «الثوري» الموروث حاكماً للتوازن السياسي العالمي حتى انهيار الإتحاد السوفييتي. ولكنه لم يتغيّر بالكامل بعد انهيار السلطة السوفييتية- ولا نقول انهيار كامل الكيان المادي لموروث الثورة السوفييتية إن كان في جهاز الدولة أو الجيش أو المجتمع، وعلاقاته التي نشأت نتيجة للانتقال الثوري نفسه طوال عقود من التجربة الاشتراكية. ما بقي من هذا التكنيك هو السلاح النووي أولاً، ومن ثم السلاح الصاروخي والجو- فضائي الإستراتيجي الروسي الذي لعب دوراً بارزاً في المعركة الإمبريالية على يوغسلافيا مثلاً. ولكن الضعف الذي طال الفضاء السوفييتي بكامله، ومن ثم الفراغ الذي تركه التراجع الثوري في العالم، انفتح المجال للخصم لكي يتقدم بتكنيكه الاتصالاتي والفضائي والجوي والتقليدي، وينزله إلى مساحة الصراع السياسي.

التطور في النظام العالمي، وتكنيك وتكتيك الخط المتقدم

انطلاقاً من فكرة تناسب التكنيك مع التكتيك، ربطاً بشروط الصراع الطبقي-الوطني عالمياً- إن الحركة المضادة للإمبريالية التي هي في الوقت ذاته حركة انعتاق تحرري اقتصادي- سياسي، ورثت واعتمدت على التكنيك الموروث من مرحلة التقدم الثوري السابق، وخضعت في الوقت ذاته لتعقيد العلاقات وترابط البنية العالمية بشكل كبير طوال عقود من توسع النيوليبرالية.
ففي لحظة تاريخية تمظهرت في أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في مرحلة عودة ظهور الأزمة الرأسمالية، أطلّ الخط النقيض للإمبريالية في شكله التاريخي الحالي. فالمعركة التي خاضتها الإمبريالية على الشعوب والدول التي امتدت منذ الـ 2008 (لحظة انفجار الأزمة) توقفت بالمعنى التاريخي على تخوم فعالية التكنيك الموروث إيّاه، وما طال هذا التكنيك من تطوير لدى الطرف الروسي تحديداً، وما قدّمته الصين من تطوير لتكنيكها العسكري. فإذا كان المطلوب تدمير روسيا والصين كقوتين قادرتين على قلب العلاقات العالمية، لكي تنفّس الرأسمالية العالمية عن أزمتها، فإن هذا أولاً غير ممكن بسبب الردع النووي والسلاح الإستراتيجي الدفاعي الصاروخي والجوي لدى هاتين الدولتين. وثانياً: فإن هذا التكنيك أصبح يحمل بعداً عالمياً ربطاً بترابط العالم الشديد في المرحلة الراهنة. وكان تكثيف ذلك في التدخل الروسي في الأزمة السورية تحديداً، أو في السلاح المتطور الذي وصل إلى قوى مقاومة، كالسلاح المضاد للدبابات (كورنيت) الذي استخدمته المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني ضد دبابة الميركافا، أو في المساندة العسكرية الروسيّة لفنزويلا في سياق تدميرها من قبل الغرب.
إذاً، إن الصراع الطبقي في شكله التاريخي الراهن ضد الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية، وحماية عملية الانتقال العالمي الضرورية، لا يمكن فصله اليوم عن المستوى الذي وصله التكنيك المضاد للإمبريالية، وأية حركة سياسية في العالم اليوم وانطلاقاً من الشكل الذي تخوض به الإمبريالية الحرب على الدول والشعوب، لا يمكن لها أن تفكّر وتمارس (وهنا تكنيكها) خارج هذا السياق وخارج هذه العلاقة مع التكنيك «الصَّديق» الروسي والصيني تحديداً. وهذا ما يحتّم موقفاً سياسياً متلائماً مع ضرورة الخضوع لمعادلة التكنيك نفسها، إن شاء العقل السياسي للقوى التي تطرح قضية التغيير أم لم يشأ ذلك. هذا ما فهمته العديد من الدول التي تناور تاريخياً، لا لكي تقوم بعملية تغيير كما نقول باتجاه الاشتراكية، بل لكي تحمي موقعها في مرحلة التفتيت الممنهجة، فعدد الدول التي استوردت السلاح الصاروخي الروسي أس 300 وأس 400 ليس بقليل من تركيا إلى الهند.

عنصر السرعة والتفوّق

من مميزات التكنيك المواجه للإمبريالية اليوم ليس فقط في كونه كابحاً يقيم التوازن، بل في كونه متفوقاً أيضاً (باعتراف الولايات المتحدة نفسها)، إنه أصبح متقدماً بالمعنى النوعي. فالمرحلة الحالية وبسبب عمق الأزمة وحدّتها هي مرحلة تسارع تاريخي، يبدو أنها أعطت ملامح ضرورتها إلى التكنيك. فعلاقة التلاؤم الضروري للتكنيك المضاد للإمبريالية مع تكتيك الإمبريالية فرض عليه ضرورة السرعة، ليس فقط لناحية عدم قدرة العدو على ردعه لسرعته (بعد وجود منصات صد الصواريخ البالستية المطوّرة سابقاً) وصولاً إلى سرعة 20 ماخ (أسرع 20 مرة من سرعة الصّوت)، ولكن أيضاً لضرروة التلاؤم مع حاجة الإمبريالية إلى التصرف السريع، كونها أساساً في معركة مع الوقت، ومع موعد أفولها. للإشارة، كان الاتحاد السوفييتي على بعد خطوات قليلة من تطوير السلاح فرط الصوتي، ومن المفيد القول: إن سلاح ما قبل فرط الصوتي هو صاروخ «موسكيت» (وهو صاروخ بحري) (سرعة 3 ماخ) الذي تم إدخاله في الخدمة أواخر السبعينيات.
فالسلاح فرط الصوتي الروسي اليوم هو ذروة التكنيك على الساحة العالمية، مثل: أفنغارد (الطّليعة) وهو صاروخ يطلق من البرّ (سرعته حوالي 27 ماخ، الذي يقدر على قطع المسافة من موسكو إلى نيوورك في 13 دقيقة تقريباً) والذي تسلح به لأول مرة جيش صواريخ الراية الحمراء في منطقة الأورال الجنوبية في روسيا- وسارمات (الشّيطان) وكينغال (الخنجر القنّاص) وهو صاروخ يطلق من الجوّ، وتسيركون (صاروخ بحري)، وهناك السلاح الرادع أس-500. وهناك الصاروخ فرط الصوتي الصيني «دونغ فانغ» (رياح الشرق).
قضية السرعة في المجال العسكري أشار إليها مثلاً وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منذ عدة أيام في إشارته إلى مزايا الجيش الروسي وقدرته على الانتقال العمليّاتي السريع.
إن حركة الصراع (وتكتيكها) التي نسي البعض جوهرها الطبقي التاريخي اليوم لا يمكن فكّها عن التكنيك ومستوياته. فالمستوى الأكثر تقدماً اليوم للصراع في العالم هو الذي يجرّ وراءه كل مستويات الصراع الأخرى، في صراع عالمي يكتسب طابعه الأممي الأكثر اكتمالاً في المرحلة الراهنة. أما البقاء على متاريس الشوارع فذلك شبيه بالعودة إلى تكنيك العصر الحجري سياسياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1014