كرّ أو فرّ؟ كيف نستجيب للخطر؟

كرّ أو فرّ؟ كيف نستجيب للخطر؟

في مجال علم النفس، يقال بأن المرء وحينما يجد نفسه في موقفٍ ضاغط أو خطر، يهدد حياته، يقوم بأحد شكلين من أشكال الاستجابات: إما الكرّ أو الفرّ، أو ما يعرف باللغة الإنكليزية بـ (Fight Or Flight Response).

يشرح خبراء علم الأحياء وعلم النفس هذا النوع من الاستجابات بالقول: إن شعور الكائن الحي بالتهديد يُنشط لديه الجهاز العصبي، ويؤدي إلى استجابة ضغط حادة تهيئ الجسم للقتال أو الفرار. بحيث تكون هذه الاستجابات بمثابة تكيفات تطورية لزيادة فرص البقاء على قيد الحياة ضمن المواقف المهددة. هذا وتم توصيف هذا النوع من الاستجابات للمرة الأولى من قبل عالم النفس الأمريكي والتر كانون عام 1920.
ولذلك يمكن القول عموماً: إن الكائن الحي، وحينما يجد نفسه في موقف خطر غالباً ما يتجمد في مكانه غير قادرٍ على الحركة، أو يسارع للبحث عن ملجأ يحميه، أو على العكس من ذلك يبادر لمهاجمة مصدر الخطر كي يحمي نفسه.
للحقيقة، فهم الطريقة التي تعمل بها هذه الاستجابة وتأمل الظروف التي تولدها أمرٌ مثير للاهتمام. ليس من منطق أخذ درس في علم الأحياء والاستجابات الغريزية عند الكائنات الحيّة. بل لأن لاستجابات «الكر والفر» هذه إسقاطات شديدة الأهمية على حياة الأفراد والمجتمعات. وعلى الطريقة التي يتصدى فيها الناس للشعور بالتهديد، ليس فقط الخطر الجسدي الذي يهدد بقاءهم، بل الخطر المعنوي والسياسي والاقتصادي الذي قد يهدد وجودهم وحياتهم على المدى البعيد.

وأنت كيف تستجيب؟

هناك عبارة تقال على سبيل المزاح مفادها: «أنت كشخص لا تعرف إن كنت من جماعة المواجهة أم الفرار حتى توضع في ظرف مفاجئ يُشعرك بالتهديد، وعندها ستكتشف من أنت فعلاً. الأناس الذين تعرضوا لمواقف شبيهة سيفهمون المعنى وراء هذه الجملة. ففي الحقيقة استجابة المرء قد تحمل له قدراً كبيراً من المفاجأة، فهو قبل تلك المرة الأولى لن يعرف نفسه حقاً، ولن يفهم الطريقة التي يدافع فيها جسده عن نفسه أمام الخطر.
سواء كان الأمر يتعلق بمشاجرة في الشارع، أو حادثة سرقة أو تحرّش، تتيح تلك الخبرات جميعها للمرء فرصة فهم الطريقة التي يستجيب فيها غريزياً أمام خطرٍ محتمل. أحياناً ما يشعر المرء بالفخر، حينما يجد في داخله قوة كامنة لم يعلم بوجودها، خرجت فقط لحظة الإحساس بالخطر. وفي أحيانٍ أخرى تخيّب استجابته ظنّه، وتجعله يخجل من الانكفاء والهرب الذي استسلم له بعد أن وجد نفسه عاجزاً عن المجابهة.

الخبرات السابقة لفأرة

كثيراً ما اهتم العلماء بتحديد الدوافع والظروف التي تؤثر بالثواني القليلة التي تسبق اتخاذ قرار المحاربة أو الفرار. وبالطبع كانت الفئران ضحايا هذا الشكل من التجارب، بعد وضعها في وعاء زجاجي ووصل أدمغتها بأسلاك كهربائية ومن ثم تهديدها ومراقبة كيفية استجابتها، ما بدا مثيراً أن الفئران التي تمت إخافتها في السابق كانت أكثر عرضة للاستجابة بعدائية ظهرت عبر هزها لذيلها. ما معنى ذلك؟ ربما يمكن تفسير النتائج بالقول: إن ما بدا مخيفاً في المرة الأولى أمسى أقل إثارة للقلق في المرات التالية؛ أي إن الشجاعة قد تكون مكتسبة.

كرٌّ وفرٌّ أمام الأخطار الوجودية

حينما يتجاوز المرء حدود تأمل الاستجابة البيولوجية بذاتها، ويحاول مثلاً صياغة استنتاجات حول الطريقة التي تستجيب فيها شعوب بأكملها للشعور بالتهديد، يجد أن الأمر هنا بات أكثر تعقيداً؛ إذ تدخل هنا سلسلة من العوامل والمتغيرات التي تحدد شكل الاستجابات الجماعية للخطر، منها التاريخ والخبرات السابقة، أو التربية والإرث الثقافي الذي كثيراً ما يثمن فعل الفرار، المعبر عنه بمقولة «الهريبة ثلثين المراجل» أو «امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة».
كما أن البطء الذي يحكم الحياة الاجتماعية وحركة التاريخ، يلعب دوره هنا؛ ربما كان الأمر أسهل لو أن الأمر لا يعدو كونه مجرد لحظات، وعلى الجسد أن يقرر فيها إذا ما كان عليه التجمد أو الهرب أو الهجوم. لكن في حياة المجتمعات الأمر مختلف، وحتى مفهوم الخطر، أو العوامل المهددة للحياة، مختلفة أيضاً، فالخطر قد يمتد سنوات ويهدد الحياة بصورة تدريجية وغير مباشرة كسياسات الترهيب والتجويع والظلم الاجتماعي. كل هذا ربما يربك جسد الكائن الحي الذي اعتاد على فهم الأخطار المباشرة، وليس الأخطار التي تهدد وجوده على المدى البعيد.
قد يكون من المثير للسخرية إدراك أن أجسادنا ستعمل بصورةٍ أحسن وأكثر فاعلية لحمايتنا من وحشٍ يهاجمنا في الغابة، أو حينما نجد أنفسنا أمام أفعى أو نمر مثلاً، رغم أن هذا الاحتمال الآن بات غير مرجح ضمن شكل حياتنا الحالية. لكن الأجساد ذاتها تكون أكثر استرخاء وبطئاً عند مواجهة مفهوم الخطر بشكله المعاصر، كقوى سياسية خطيرة، أو منظومة عالمية مجحفة. مع ذلك، يعود الجسد للانتفاض أمام الأسلحة والقصف والطيارات والقنابل، لأن هذا التسليح، كجزء من المنظومة التي تتخفى خلفه، هو الجزء الوحيد الذي تفهمه أجسادنا وتستجيب لخطره.
رغم أن استجابة «الكرّ والفرّ» قد تبدو عفوية أو غريزية إلى حد بعيد، على صعيد فردي أو جماعي، إلّا أنها قابلة للتطوير والتحوير؛ إذ إن فهم هذه الاستجابة بمعناها الغريزي الضيق، أو بمعناها الاجتماعي أكثر اتساعاً، وتساعد المرء على فهم نفسه وتقييم الدرجة التي نجح فيها في تطوير دفاعاته أمام أي خطرٍ كان، بحيث يسعى إلى تحويل استجابته من الفرار إلى المجابهة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1014