في تحوّلات جدلية التسارع والبطء

في تحوّلات جدلية التسارع والبطء

تكتسب عملية الصراع السياسي ملامحها من الاقتصاد السياسي للمرحلة التاريخية. وهذا قول بدهيّ. ولكن عند التماس مع إحداثيات هذه العملية على المستوى الممارسي، أي بعيداً عن التنظير العام، تنكشف ظواهر محددة تعطي للعملية الصراعية طابعاً محدداً، يمكن أن يغني التصور العام عن المرحلة، لا بل قد يغني التصور حول تطور الصراع السياسي في مختلف البنى الاجتماعية ضمن النظام العالمي ككل، حسب خصوصية تلك البنى. ومن هذه الظواهر هي قضية التسارع/ البطء الزمني في تشكّل الاستعداد للوعي والشخصية الثوريتين بالمعنى الفردي.

دور الفرد في التاريخ

عالج جيورجي بليخانوف، في كتابه: دور الفرد في التاريخ، العلاقة بين الفردي والاجتماعي الموضوعي، وكيف أن الفردي الخاص يعكس فيه الجانب الاجتماعي الموضوعي العام، ولكن ضمن فعالية ما ينزع حكماً صفة السلبية عن عملية الانعكاس تلك. ولكن وفي ذات الوقت يؤكد عن لا إمكانية هذه الفعالية الفردية أن تتخطى الاجتماعي الموضوعي، بل تتحرك ضمن الشروط التاريخية الموضوعية للبنية الاجتماعية. أي، أن دور الأفراد مهما كانت قدرتهم لا يمكن أن تؤثر في الواقع إلا ضمن شروط هذا الواقع نفسه. وهنا وبشكل أدق، لا يمكن لهذه الصفات أن تظهر إلا لأن أساسها الممارسي موجود في البنية الموضوعية بشكل قبلي. ولهذا بالفردي والموضوعي الاجتماعي يتوحدان في هذه العقدة التي يتجاهلها الفكر الليبرالي اليوم في إظهاره تجرّد الفردي عن الموضوعي، وإعطاء الحرية للفرد وقدرته بغض النظر عن الظروف التي يتحرك فيها هذا الفرد. هذه الاتجاه الليبرالي «الفرداني» السائد يظهر اليوم في مقولات الطاقة الكامنة والعمل على تحريرها، أو في تقديم طروحات حل القضايا الفردية في حدودها الفردية، إما عبر التفاوض أو التأقلم أو التحدي للوقائع، وهذا يتم تعميمه في المجالات الفردية المهنية، أو العاطفية، أو السياسية التي هي أبرز مؤشر عن هذا الإتجاه الفرداني المراهق والمتطرف في ذات الوقت. وتطرّفه هذا نابع من محاولة تضخيمه للجانب الفردي إلى مستويات كبيرة، فيصبح الخاص أعلى من العام الموضوعي، ويكتسب ملامح «التفوق» والتعالي والتميّز التي كلها صفات تطرّف في التصور الخاص عن الذات، مؤسسة لتطرف ممارسي في المقابل. ولكن حتى لا نحيد عن فكرة المادة الأساس التي هي قضية التسارع والبطء لناحية تشكل الوعي والشخصية الثورية، سنحاول تقديم نماذج تاريخية عمّا هو مقصود. والمقصود بالثورية هنا: هي تلك التي تنخرط في عملية صراعية يتم فيها تملك الجانب الموضوعي وعلاقاته عبر فكر علمي انطلاقا من الظرف التاريخي نفسه، بالاستناد الى تراكم الخبرة الإنسانية في هذا الجانب. وفي مرحلتنا تقف الماركسية اللينينية كأساس في هذه الخبرة التاريخية للحركة الثورية.

نماذج تاريخية

عند مراجعة المراحل التاريخية السابقة على المرحلة النيوليبرالية، أي المراحل التي كانت فيها للبورجوازية ملامح ثورية، أو مرحلة صعود التيار الثوري البروليتاري في القرنين السابقين، أو حتى عندما صارت البورجوازية فئة مسيطرة، في ظروف صراعية اجتماعية كانت فيها الحدود الطبقية أكثر حدة بالمعنى المباشر الظاهر(وغير مموهة كما عملت الليبرالية على ذلك، أو سابقاً على مرحلة وجود الاشتراكية كقوة فرضت تنازلات على الرأسمالية في منتصف القرن الماضي عبر نموذج دولة الرفاه)، فإن الشخصيات التي لعبت أدواراً فكرية وسياسية وعند ظهورها على مسرح التاريخ كانت عن عمر مبّكر. فسيمون بوليفار دخل كاراكاس محرراً عن عمر الـ 40 عاماً، أما نابوليون بونابارت الذي عايش تنصيبه بوليفار عندما كان في أوروبا فكان عمره 30 عاماً عندما وصل إلى حكم فرنسا، أما روبيس بيير انتخب زعيم اليعاقبة عن عمر 31 عاماً وصار شخصية سياسية. أما لينين فقد نفي أول مرة نتيجة نشاطه السياسي عن عمر 25 عاماً، وبلور ملامح الحزب في بداية الثلاثينيات من عمره. أما ستالين فنفي لأول مرة عن عمر 23 عاماً، حيث كان ثورياً ملتزماً، أما ماو تزي دونغ فكان في صلب قيادة الصراع الأهلي الصيني عن عمر الـ 34.

المرحلة النيوليبرالية

بعد التحول الذي حصل في منتصف القرن الماضي، عبر رسوخ التوزان الطبقي عالمياً، وتحسن مستوى الحياة نسبياً نتيجة هذا التوازن، إن كان في الدول الاشتراكية أو في دول المركز الرأسمالي عبر الرشوة التاريخية التي قامت بها الرأسمالية، وبعد أن طبعت الليبرالية المجتمعات ثقافياً، تأخر «العمر الثوري» إلى حد كبير. فالهدوء النسبي الذي طبع البنية الاجتماعية، والظروف الأقل حدة عما سبق من مراحل، أخرت ولادة العناصر الفردية بملامح ثورية. فالمراحل العمرية من الطفولة وحتى الدراسة الجامعية الدنيا والعليا كانت أكثر استقراراً وشملت الغالبية من الفئات الاجتماعية. هذا التأخير اشتد في العقود الأخيرة منذ التسعينdات، أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تحديداً، وهيمنة الثقافة والعلاقات ونمط الحياة الليبرالية. هذا التأخير مترافق مع التراجع الثوري للقوى السياسية المنظمة، أنتج فقراً شديداً في تبلور العنصر الذاتي من العملية الصراعية. وهذا ليس بعيداً حتى عن الدول الصاعدة كروسيا والصين، وإن كان بشكل نسبي عن بقية دول العام. فالعلاقات السوقية والثقافة الليبرالية أثرت بشكل كبير على تبلور الشخصية والوعي الفرديين. ولكن يبقى لهذه الدول إرث عقود طويلة من الاشتراكية التي ما زالت ترمي بوزنها على قطاعات، تحديداً في قلب جهاز الدولة والمجتمع. ولكن ولادة العنصر الثوري لا تجري بشكل إرادوي بيراقراطي عبر مؤسسات بناء الكادر فقط، بل هي ناتجة عن تجربة حياتية معقدة غنية، هي التي تصنع ملامح الوعي من حيث الأهداف والرغبات والمعاني التي تحرك الفرد في مشروعه الحياتي الاستراتيجي.
ونتيجة لهذا التأخير، في ظل أزمة عميقة ومتسارعة ومكثفة الأبعاد تطال البشرية، فإن المرحلة الحالية هي فعلا مرحلة ثبات توازن عالمي جديد، ولكن والأهم: هي أرضية غنية لولادة وتبلور العنصر الفردي الذاتي الذي يحمل ملامح وعي وشخصية أكثر ثورية مما سبق في العقود السابقة. وهذا ليس ذاته في كل البنى الاجتماعية، بل سيكون أسهل في بنى من غيرها. وتحول الفردي إلى عنصر مؤثر مرهون بظروف محددة تنظيمية لا يمكن إلا أن تكون عالمية. أي أن عملية الفعل الفردي يجب أن تكون أممية الطابع، لتعويض النقص الخاص في كل بنية، وللاستفادة من الوزن الثوري في البنى الأخرى، فهذا هو تحديداً فعل قانون تفاوت التطور الذي يكتسب اليوم ملامح جديدة يفعل فعله في العملية الثورية. وإذا ما أردنا أن نتوسع في بعض الاستنتاجات، فإن النقص المرحلي للعنصر الفردي الثوري سياسياً، نتيجة «هدوء وسهولة» بعض قطاعات المجتمع، فإنه يمكن أن يتم توفيره من قطاع الجيش في الدول الصاعدة تحديداً، فهذا القطاع هو الذي يقف اليوم على تخوم الصراع التاريخي بين عالمين. أخذاً بعين الاعتبار أن البطل الفرد ليس هو اليوم الطاغي كما كان طاغياً في المراحل التاريخية السابقة. بل إن التعقيد الذي طال المجتمع يفرض العمل الجماعي المؤسساتي أكبر من ذي قبل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1030
آخر تعديل على الإثنين, 09 آب/أغسطس 2021 23:17