كومنترن القرن الحادي والعشرين بين الواقع الطبقي للعولمة وتثوير الحركة السياسية (3)

كومنترن القرن الحادي والعشرين بين الواقع الطبقي للعولمة وتثوير الحركة السياسية (3)

في المادتين السابقتين أشرنا إلى ضرورة تشكيل إطار أممي يحمل طرحاً يجيب عن أسئلة الانتقال الحضاري النقيض رداً على الأزمة الحضارية للرأسمالية على أساس الاستهلاك والفردانية المنحدرة نحو البربرية. وضرورته اليوم ليس فقط بسبب التشابك والتقارب الكبير في نمط الحياة (على قاعدة اقتصاد السوق والإنتاج البضاعي المفرط) والمهام عالمياً (على قاعدة أمراض وتناقضات نمط الحياة المهيمن)، بل أيضاً بسبب قدرته على تعويض تجفيف العنصر البشري الذي يسمح بتشكيل نواة المشروع النقيض وتجميع العناصر الحية واسعة التشتت على قاعدة العولمة وتداعياتها (عالمية سوق العمل والتهجير القسري). وهذه المادة استكمال مع أمثلة مباشرة.

في إبداع الأدوات

بداية لا يمكن أن ينفصل تحليل الواقع والجديد فيه عن أدوات العمل التنظيمية-السياسية المباشرة. وكما هو واضح من كل الأدبيات التي تعالج التحولات الاقتصادية-الاجتماعية للعقود الماضية وما تركته من تحولات ثقافية-اجتماعية-قيمية-ممارسية-معرفية-نفسية... إن عمق التحول كبير جداً. وملامحه الرئيسية مختلفة منها تسارع الحدث على أساس حدة التناقض، شمولية الانتقال عالمياً وتزامنه، حدة الاستقطاب العالمي بين المراكز والأطراف، وبين الأطراف نفسها كذلك، الذي هو في الجوهر تركز لمراكز القوى المنتجة عالمياً، وانزياح القوى العاملة معها، والتوسع المفرط لأسلحة الوعي والدعاية، والإفراط في النمط الاستهلاكي-الفرداني، وتعاظم الاتجاهات الفوضوية والتدميرية، والتهتك والتفتت لما أنتجته مرحلة الصعود الثوري في القرن الماضي ومكافئها المؤسساتي من دول وأحزاب وأجسام اجتماعية نضالية وتضامنية في أغلب المجتمعات، والانحدار لما يكافئ “الوجود الرث”. في ظل هذه الملامح لنمط الحياة الحالي وشروط الممارسة التي يحصل فيها الصراع، والتي كثفتها بعض الأدبيات في مقولات “نمط الحياة السائل” للدلالة على عمق التهتك في أسس الانتظام العام الممارسي والعقلي، لا يمكن أن تبقى أدواته وأطره دون تطوير متلائم معها.

أمثلة مباشرة

هذا الواقع يعطي العنصر البشري ملامح محددة، فهذا العنصر لا يمكن التفكير بأي حركة ثورية دونه. ومن ثم يجب أخذه ضمن مساره التاريخي التراكمي. أولاً، سمحت مرحلة التوازن والاستقرار النسبي بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك الوضع الصراعي في ظل واقع ثقافي نقيض للاشتراكية وفي كونه مختلفاً عن الفردانية-الاستهلاكية كما هي اليوم، سمحت بإنتاج عنصر بشري كاف للحركة الثورية التي هي في الجوهر حركة فكرية لافتتاح الأفق وتحويل الممكن-الضروري إلى واقع، ومن ثم هي حركة تنظيمية بمعزل عن الشكل الذي تأخذه هذه الحركة وهويتها المعلنة. هذا العنصر البشري “الناجي” دخل المرحلة الليبرالية المفرطة ولعب دوراً في إنتاج عنصر بشري جديد ضمن العقود الأولى من الليبرالية المفرطة منذ التسعينيات، أي منذ انهيار التوازن السابق. ولكن الملامح الخاصة التي أشرنا إليها وتحديداً التسارع الكبير عمل بالضد من ثبات العنصر البشري القديم بل تشتيته، وبالضد من تشكيل عنصر بشري نقيض ينتمي إلى حركة التاريخ، بسبب الهبوط السريع لشروط الحياة عالمياً مع غياب الحاضن العلني للحركة الثورية (سكناً وتمويلاً وعملاً) كما كان في عقود الاتحاد السوفييتي والدول المتحالفة والصديقة. وقتها كان التشتت يحصل بشكل لا يقطع أوصال الحركة. لنأخذ مثالاً، أوروبا في عصر الفاشية، وقتها شكل الاتحاد السوفياتي تحديداً مساحة “المنفى واللجوء” للعناصر الحية من الحركة الثورية الأوروبية. ألم تكن سورية مثلا في حالتنا العربية مركز لجوء عناصر الحركة الفلسطينية واللبنانية في ظل الظرف الفلسطيني-الأردني-اللبناني عالي التوتر؟ بينما اليوم وخلال العقود الماضية حصل تشتت العناصر الحية بشكل فردي-معيشي لا تشتتاً سياسياً مباشراً. كم رفيق فقدنا منذ التسعينيات بسبب التهجير الاجتماعي-الاقتصادي، هذا التهجير الذي تسارع خلال العقد الماضي. وبالتالي فإن العنصر الموروث اليوم يواجه حدوده التاريخية بالمعنى العمري-الزمني، بينما العنصر البشري الجديد يواجه كوابح كبرى في تجديده. وهذا يعني بشكل تلقائي الارتفاع النوعي لوزن هذا العنصر أينما وجد. ويعني بالضرورة تجميعه.

عنصر الربط مع الجديد

لا يعني تركيزنا على العنصر البشري الثوري تقليدياً، أي ذلك الحامل لعقل الماركسية وفكرها، لا يعني انحصار العنصر الحي بهذا العنصر فقط. على العكس، هناك في المجتمع وزنا كبيراً من العنصر البشري الحي، الذي يحاول لعب دور ما في وجه الانهيار الحضاري القائم. ولكن هذا العنصر الحي ضعيف المرجعية الفكرية النظرية والتاريخية الضرورية للإجابة عن الأسئلة. وهو ما يجعله بطيئاً وغالباً محافظاً بالإجابة، وبالتالي تأتي إجاباته أقل من قياس الإجابات التي تحتاجها المرحلة، وبالتالي أقل تمثيلاً للقوى البشرية التي تقدر هذه الإجابات على تنظيمها وتأطيرها وتحرير طاقتها وتوجيه هذه الطاقة. ومن هنا ضرورة ربط وتوليف العنصر البشري الحي المنتج ضمن الحركة الفكرية-النظرية، أي العنصر المتبلور وعيه بالشكل التجريدي والتعميمي الكافي (لنسمّه المستوى الذاتي من العامل الذاتي)، مع العنصر البشري الحي المتبلور موضوعياً (لنسمّه العنصر الموضوعي من العامل الذاتي). هذا التفريق بين مستويات العامل الذاتي، ذلك العامل القادر على التنظيم والقيادة والوعي الذي اعتادت أدبيات الماركسية على تسميته، بين المستوى الذاتي والمستوى الموضوعي، يفرضه التعقيد الكبير في حركة الواقع نفسها. فحجم الأزمة يفرض استجابات موضوعية بشرية ومؤسساتية للدفاع في وجه النموذج الحضاري المنهار في ظل ارتفاع كبير في وزن الفرد ووعيه واستعداده العقلي الموضوعي للانخراط بسبب من حاجات إثبات الذات، ولكن هذه القوى البشرية تفتقد للمستوى الواعي-النظري الكافي للهجوم، وهذا ما يؤمنه العنصر الحي تركة الأطر الثورية التقليدية كحامل لفكر الانتقال، أو أقله، حامل لعناصر فكر هذا الانتقال التي تحتاج إلى صياغة متجددة. اليوم نرى الكثير من النماذج الصحفية والعلمية و”الناشطة” تقارب الأزمة ولكن سيرها يجري تجريبياً. فهي تتعرف على المنتج النظري للفكر الماركسي ضمن سيرها وليس بشكل قبلي. بينما هناك الكثير لم يحصل، وإن صادفو هذا المنتج وبقوا يسيرون “على عماها التجريبي” ولكن وضوح الوقائع عالمياً سمح لهؤلاء بالوصول إلى خلاصات ناضجة حتى ضمن عقلها التجريبي. هذا البطء التجريبي إضافة إلى احتمال الوصول إلى خلاصات متقاربة بسبب حدة الأزمة ومحدودية الإجابات الممكنة عليها، يمكن تعويضه عبر دمج بين هذه العناصر وربط العامل الذاتي ومستواه الموضوعي مع عقله (مستواه الذاتي) الذي وحده يملك مستوى التجريد الكافي للإجابة عن أسئلة الانتقال الحضاري مع قاعدته الإنتاجية والممارسية المباشرة. ومن هنا ضرورة أن يكون تركيز العنصر البشري المتبقي عالياً جداً إضافة إلى وحدته وترابطه.

أسئلة تقنية

ألا يمكن اليوم الدعوة والعمل على تشكيل إطار جامع يربط بين العناصر الحية التقليدية عالمياً، كبعض الشخصيات والتنظيمات الناجية صاحبة الرؤية والفعالية (التي تلتقي اليوم صدفياً فقط)، قادرة على تجميع باقي العناصر الحية الموضوعية (من تجمعات بشرية جاهزة التنظيم ولكن ضمن الأطر المحافظة التقليدية للمجتمع القائم كالمؤسسات الدينية والعائلية والفنية والعلمية وغيرها، والتي هي أساساً فاعلة ولكن تصب طاقة فعلها في ردود أفعال متطرفة تثبت الانقسام بدل الفعل التقدمي)، لتشكيل منارة نقيضة قادرة على تقديم الإجابات الضرورية وجدول أعمال مواجهة الانهيار الحضاري والانحدار باتجاه البربرية؟! طبعاً هذا ممكن، ويمكن الاعتماد في ذلك على أكثر العناصر الحية تنظيماً لتشكيل تلك الرافعة الأولية وإطلاق المبادرة وفتح أفق الحركة لتتطور، مع منصتها (أو منصاتها) الإعلامية عالية التركز. غير ذلك فإن الحركة إن لم تكن تؤخر تطورها، بالتالي ترفع من حدة النزف الخاص، ومن الخسائر الاجتماعية العامة، فهي تنتحر، فضرورات الانتقال دقيقة جداً ولها جدول أعمالها الدقيق أيضاً، فالتدمير يحصل وفقاً لهذه الضرورات أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1139