المعاني دورها وأزمتها
مروة صعب مروة صعب

المعاني دورها وأزمتها

يعتقد البعض أن البحث في معنى الحياة هو ترف لا تمتلكه الطبقة العاملة والفقيرة فهي منشغلة في قضاء يومياتها. هذا صحيح إلى حد ما وحزين إلى حد كبير. من يعتقد هذا ينظر إلى معنى الحياة على أنه سؤال فلسفي غير مرتبط بالعمل والدراسة والعلاقات الاجتماعية والمواقف من القضايا وأي نشاط نقوم به أفراداً أو جماعاتٍ. فللطبقة الغنية الترف والوقت الذي يسمح لها بالتفكير و»الفلسفة».

سؤال معنى الحياة له عدة أبعاد، مرتبط بالواقع الاجتماعي والثقافي والتاريخي، معقد لمن لا يستطيع الإجابة عنه، بالمقابل هو بسيط لمن يستطيع الإجابة عنه. فلنتخيل سلة ترافقنا منذ ولادتنا، نضع فيها أي شيء يلمس حواسنا، جميع المعاني من اللغة، العلاقات الاجتماعية، الثقافة، الكلمات، والأشياء. معاني الذات والغير والمحيط والدين والفرح والحزن والوقت، معاني كل ما هو موجود في إدراكنا. هذه المعاني جميعاً تشكل تعريف الأفراد لمعنى الحياة. وكلّما كبرت السلة كلما كانت الإجابة عن السؤال أبسط. ومع الوقت والعمر نقوم باستبدال المعاني القديمة التي أصبحت بالية بنظرنا بالجديدة.
ليونتيف ونظرية النشاط
يقول ليونتيف: «تمثل المعاني شكلاً مثالياً لوجود العالم الموضوعي، وخصائصه، وصلاته، وعلاقاته، التي تكشف عنها الممارسة الاجتماعية التعاونية، وتتحول وتخفى في اللغة. ولهذا السبب فإن المعاني في حد ذاتها، أي المعنى المجرد عن أدائها في الوعي الفردي، ليست «نفسية» بقدر الواقع المعترف به اجتماعياً الذي يكمن وراءها».
ما يعنيه ليونتيف أن المعاني هي الخلاصة أو النتيجة عن أي نشاط نقوم به يتأثر بالعلاقات والتفاعلات الناتجة عن المحيط الاجتماعي (أو المجتمع)، تقسيم العمل، الأدوات الموجودة، القواعد الموضوعة حول هذا النشاط، الموضوع، والهدف. أي إن المعاني هي نتيجة ما يسمح به الوضع الاجتماعي والثقافي. فمثلاً كلمة «فلسفة» في التعبير العامي في بعض الدول العربية تدل على من يقوم بتفسير الأحداث بطريقة غير واقعية ومضخمة وهذا الفعل هو إحدى الآليات الدفاعية (غير الواعية) المستخدمة للتقليل من القلق والشعور بالذنب نتيجة عدم معرفة كيفية تفسير الحدث. تأتي هذه الآلية من أن العارف بالشيء أو الذي يستطيع تفسيره وفهمه له مركز أعلى في المجتمع مقارنة مع غير العارف. بينما كلمة فلسفة Philosophy بالإنكليزية تعني فلسفي بالمعني النظري ولا تستخدم للتعبير عن فعل اجتماعي.

المقاومة كمثال

منذ السابع من تشرين الأول نشاهد ذهولاً في المجتمعات الغربية حول المقاومة الموجودة في فلسطين. كيف لإنسان أن يظل صامداً في ظل ما يحدث هو بالفعل لشيء عظيم. لا أعتقد أن أياً من النظريات النفسية والاجتماعية، حتى نظرية النشاط أعطت هذا المفهوم حقه، لكونها أتت من خلفية تاريخية واجتماعية مختلفة. ولكون تفسير خاصية معينة تكون الأنسب عند من يمتلكها أو يستعملها. ولكن نظرية النشاط هي الأقرب لوضع تفسير اجتماعي ونفسي لمفهوم المقاومة.
فكل فرد عاش في هذه البقعة الجغرافية التي تسمى الشرق الأوسط، وكل فرد كان له علاقة بهذه البقعة بسبب قومي أو ديني أو جغرافي أو سياسي أو اجتماعي، تشكل عنده مفهوم المقاومة بفعل الواقع المفروض هنا. وهذا المفهوم هو أقوى في هذه البقعة الجغرافية لأنها إلى اليوم محتلة وتقاوم.
فعل المقاومة أعظم من تعريف فعل مجرد، هو مفهوم ديناميكي ومتقدم لمعنى الحياة. فهو استناداً إلى نظرية النشاط، نشاط يتأثر بالموضوع (الإنسان الذي يعيش تحت الاحتلال)، الهدف (التحرير أو الخروج من الاحتلال)، الواقع الاجتماعي والتاريخي (الاحتلال، الموقع الاجتماعي متدنٍّ مقارنة مع المحتل)، تقسيم العمل (ضمن نشاط المقاومة)، القواعد ضمن النشاط نفسه (مثل عدم وجود سبل أخرى)، والأدوات المتاحة (مقاومة مسلحة، صمود، دعم ...).
وفعل المقاومة يدل على الحياة ومعناها. من نحن في هذه الحياة (الموضوع)، كيف نريد أن نعيش فيها، ما هي قيمتنا، ما هو دورنا فيها، وما الذي يمكننا أن نقوم به، تلخص لماذا أصبح مفهوم المقاومة يعكس معنى الحياة. كما تلخص لماذا هذا المفهوم مرتبط بواقع ونشاط معين. من دون واقع الاحتلال لَما وُجد التعبير بحد ذاته، ومن دون نشاط المقاومة لما أصبح هذا الفعل يعكس معنى للحياة.
كما أن مفهوم المقاومة بحد ذاته، من التعريف اللغوي إلى الفلسفي/الاجتماعي غير متشابه عند جميع الشعوب. حتى لو أمكن لمن لم يعرف فعل مقاومة في حياته أن يفهم التعبير لغوياً فهو غير قادر على فهمه عملياً. تماماً كيف للعديد أن يفهموا فعل القتل لغوياً ولكن لا يستطيعون فهمه عملياً لكونهم غير قادرين على القيام به أخلاقياً. ونلاحظ أن تعبير مقاومة موجود في المصطلحات العربية للدلالة على مفهوم الوقوف في وجه شيء ما والصمود، فنقول نقاوم المرض وهو تعبير غير موجود في لغات أخرى.

أزمة «معنى الحياة»

وصلت الرأسمالية في السنوات السابقة إلى حائط مسدود وأزمة مفاهيم ووجود. فقام علم النفس السائد بمحاولة إيجاد مخارج. طبعاً، جزء من هذا مقصود لحرف علم النفس عن «الطريق الصحيح» (وهو دوره في تحسين حياة الشعوب). فكان التركيز على البحث في معنى الحياة. ولأن معنى الحياة طرح، كما يطرح أي مفهوم في علم النفس السائد، منفصلاً عن المفاهيم الأخرى وعن الواقع التاريخي والاجتماعي للشعوب، أصبح هناك العديد من النظريات التي تعترف جميعها بعدم قدرتها على تبسيط المفهوم. وبين الفينة والأخرى تظهر مقالات نظرية تشدد على ضرورة وضع تعريف وآلية بحثية عن معنى الحياة تستطيع أن تقيس المفهوم الفعلي عند الناس وليس الكمي أو الموضوع مسبقاً نظرياً. وهذا ما يسفر عن الذهول الذي أحدثته المقاومة بجميع أشكالها عند المجتمعات الغربية. كان لعلم النفس السائد الدور في تحريف المفاهيم النفسية والاجتماعية، وضخ أفكار ومفاهيم تتناسب مع فئة صغيرة جداً من المجتمع. فتغربت هذه المفاهيم، عن الشعوب والمجتمعات لتصبح غير مرتبطة بهم. فعلم النفس السائد اليوم، مثل أي استحقاق آخر، فشل في تأدية دوره أو حتى إيجاد تفسيرات مقنعة لما يحدث. لاحظوا الدناءة في الحملة الإعلامية الغربية والصهيونية، فهم غير قادرين على استيعاب كيف تكون الحياة أقوى من الموت بعدما أغرقوا عقول البشرية بالموت والدمار لسنين.

1153-31

معلومات إضافية

العدد رقم:
1153
آخر تعديل على الإثنين, 18 كانون1/ديسمبر 2023 06:56