لا تكنْ مع الاحتلال ضدّهن... (1)
باسل الأعرج باسل الأعرج

لا تكنْ مع الاحتلال ضدّهن... (1)

كتب الشهيد والمثقّف الفلسطيني المشتبك باسل الأعرج هذه المقالة في مدوّنته الشخصية في شهر أيار 2012. ولقيت بعد استشهاده انتشاراً واسعاً، كما أعيدَ نشرها في كتاب «وجدتُ أجوبتي» الذي جمع فيه أصدقاء الشهيد كتاباته، وصدر بالتزامن تقريباً عن دار رئبال في القدس المحتلة، وكذلك عن دار «بيسان للنشر والتوزيع» في بيروت. فيما يلي نصّ باسل على قسمين، وأضيفت عناوين فرعية لمقتضيات شكل النشر في الجريدة.

أحاديث تلاحقك حيثما ذهبت؛ في المقاهي، السيارات، في انتظارك عند طبيب الأسنان، صباحاً وأنت تلقي التحية على عامل النظافة. تسمعها ساخرةً ممَّن يناولك علبة السجائر في البقالة، في استراحة شرب القهوة في مكان العمل، على طاولة العشاء، من زميلك أيام الدراسة الذي فاقت ثروته المليون خلال سنتين، يلقيها على مسمعك المريض وأنت تُقدِّمُ له مستعجِلاً دواء ضعفه الجنسيّ.
تقرأ في الفيسبوك، التويتر، في الصحف، ومواقع الإنترنت والمدوَّنات، بالفصحى أو العاميّة الممتلئة بالأخطاء الإملائية، وبالحروف الإنجليزية أحياناً.
في الإعلان التجاري عند حاجز قلنديا، في ثورة البناء العقاري في قلب مدنٍ ممسوخة، في لوحة إعلان (بالعبرية) لمرأب تصليح السيارات، في قائمة الطعام في مطعمك المفضّل وفي عينَي مسؤولٍ مصابٍ بعقدة ستوكهولم.
أحاديث وأقوال، تلميحات وكتابات، كلّها تَسخَرُ وتحقِّر وتبخِّس عملَ وشخوص النشطاء ضدّ الاحتلال والفساد السياسي، لكنّ هذا كلّه عالم، والتحقير الساخر من نشاط الإناث، عالم آخر يوازيه.
في الأيام الأولى لإضراب الأسرى عن الطعام، تسلَّقَتْ فتاةٌ مركبةً عسكرية «إسرائيلية» لتفريق المظاهرات (بوئيش) قاذفةً للمياه ذات الرائحة الكريهة. وغير الاعتداء الجسدي الذي تعرّضتْ إليه، الفتاة ورفيقاتها، والأسلحة الكيماوية لتفريق المظاهرات وغيرها من أشكال التنكيل، تعرّضن أيضاً لسيلٍ هائل من التعليقات المستفِزّة من قبل أبناء شعبهنّ.
في السياق ذاته انتشرت صورٌ لصبايا يرشقن الجيش بالحجارة عند سجن عوفر، فاشتعلت على أثر هذه التعليقات موجة نقاشات (وكعادتنا، يتحول النقاش إلى السباب والشتم) واستفزَّتْني تصريحاتُ بعض النشطاء أكثر مما استفزَّتني التعليقات المسيئة.

[مراحل القهر]

تنشأ عند أبناء المجتمعات المقهورة، والواقعة تحت الاستعمار خاصةً، علاقة ازدراء ضمنيّة للذّات والآخَر (داخل المجتمع) فتُصَبُّ على غيرهم من أفراد المجتمع، حيث يعكسون العار والمأساة ضمن منهجيّة.
عندما يجاهر المقهور بمقولاتٍ مسيئة لغيره من الواقعين تحت القهر ذاته، إنما هو يعبّر عن مدى شعوره بالضعف والدُّونيّة والذنب، وذلك من أجل الحصول على توازنٍ نفسيٍّ والتخلُّص مما يحيط به من توتّرٍ وانفعال.
ويمرّ المقهور في ثلاث مراحل حسبما يعرضها مصطفى حجازي:
أولاً، مرحلة الرضوخ والقهر؛ حيث تدوم هذه المرحلة لفترة طويلة نسبياً، ويشكل زمن الرضوخ والاستكانة - الفترة المظلمة - في تاريخ المجتمع عصرَ انحطاطٍ تكون فيه قوى التسلّط الخارجي - الاستعمار - والتسلُّط الداخلي - سلطة أوسلو مثلاً - في أوج سطوتها، فيكره الإنسان ذاتَه ويوجّه عدوانيّتَه تجاه نفسه ومَن يقبع تحتَ مستوى القهر ذاته... ثم يزيح هذه العدوانية ليمارسها تجاه الأضعف منه، وفي حالتنا الاجتماعية تمثِّلُ المرأةُ رمزاً للضَّعف، وتصبح أكثرَ مَن تُصَبُّ عليه عدوانيةُ القول والفعل.
ثانياً، الاضطهاد؛ يحوِّلُ الإنسانُ حالةَ الغليان العُدوانيّة التي كانت موجَّهةً ضدَّه إلى الآخرين بعد عدم تمكنه من كبتها أو التخلّص منها، ويبحث عن مخطئٍ ليحمله وزر ذلك الشعور، ليتخلّصَ من عقدة الذنب والدُّونيّة والعار، واضطراب الديمومة - أي عدم قدرة الإنسان على التمكّن من قوى المكان والزمان، وبالتالي فقدان سيطرته على مصيره - لتخفيف التوترات الداخلية في نفسه.
ثالثاً، الانتفاض والتمرد؛ حيث يسعى المقهور للتخلُّص من كلّ هذه العُقَد عبر الانتفاض والرّفض ومواجهة المتسلِّط والقهر، عبر الكفاح المسلَّح أو المقاومة غير العنيفة.

[الوعي والوعي الزائف]

الوعي، كما يعرّفه علماء النفس - حالة عقلية يتميّز بها الإنسان بملكات المحاكمة المنطقية، الذاتية، الإدراك الذاتي، الحالة الشعورية، الحكمة/العقلانية، القدرة على الإدراك الحسّي للعلاقة بين كيانه الشخصي والمحيط الطبيعي به.
بالمحصلة، إنّ الوعي هو ما يكون لدى الإنسان من أفكار ووجهات نظر ومفاهيم عن الحياة والطبيعة حوله.
أما الوعي الزائف، فهو أن تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع، أو غير واقعيّة وتقتصر على جانبٍ معيّن.
إلا أنني أميل جداً إلى تعريف الصديق خالد بركان للوعي: ليس بمقدار القراءة والكتابة وحفظ المعلومات بقدر ما هو الالتزام بالمسؤولية الفردية في الانحياز المطلق للحقّ والأفكار النبيلة والالتزام بقضايا وحقوق البشر والدفاع عنها.
عانى مجتمعنا من سياسات تجهيل وصهرٍ وكيٍّ للوعي الفردي والجمعي مدَّةَ سنواتٍ طويلة، وتمّ استبدالُه بوعيٍ زائفٍ ساهمت إجراءات الاحتلال مساهمةً كبرى في سبيل ترسيخ هذه الأفكار، ولا ننكر مسؤولية السّلطة والإعلام المتواطئ وأشباه المثقَّفين والكتّاب ومؤسسات المجتمع المدني التابعة لمنظومة التمويل الخارجي، ولم يحظَ المواطنُ الفلسطينيّ بحقِّه الكامل في صياغة وعيِه السليم، فيولَد ويعيش ويموت في ظروفٍ غير طبيعية، فكيف نطلب منه مواقف طبيعية؟

[القهر والتخلّف]

يقسم مصطفى حجازي الخصائص الذهنية المتخلّفة للمقهورين على النحو التالي:
أولاً، الخصائص الذهنية المنهجية: وتتميز باضطراب منهجية التفكير من جهة وقصور للفكر الجَدليّ من جهة أخرى، ويتجلّى اضطراب منهجية التفكير بما يعانيه الذهن المقهور من قصور الفكر النقدي، فهناك عجزٌ في الجمع في سياقٍ واحدٍ بين الأوجه الموجبة والسالبة (المتضادّات)، ويعجز عن الذهاب بعيداً في تحليل الأمور لأنه لا يدرك أنّ لكل ظاهرةٍ مستوياتٌ من العمق ويكتفي بالمستويات السّطحية التي تشكّل عادةً قناعاً يُخفي الحقيقة، ويطلق أحكاماً قطعيّة نهائية بشكل مضلل. أمّا ضَعف الفكر الجَدليّ فهو لُبُّ الذّهنية المقهورة فهي جامدةٌ قَطعيّة أحادية الجانب تُخفِقُ في إدراكِ الترابط والتفاعل بين الظواهر وما ينتج عنها من حركيّةٍ وتغيير.
الخصائص الذهنية الانفعالية: طُغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوصٍ على مستوى العقلانية ظاهرةٌ مألوفة في الأزمات، ولكنّها عند المقهور تكاد تكون هي الأسلوب الأساسي ويعيش في حالةٍ من التوتر الانفعالي ممّا يمنعُ من التصدّي العقلانيّ الموضوعيّ للمشكلات والأزمات الحياتية.
تُوضِّحُ الخصائصُ الذهنية للمقهورين طريقةَ التفكير والنقد والجدل، وتعطينا لمحةً قويّة عن كيفية النقاش الذي يحدث وعدم تمركزه حول الموضوع والتّشتت وطبيعة الاستنتاجات الغريبة أحياناً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1163
آخر تعديل على الأحد, 25 شباط/فبراير 2024 23:21