العمالة النفطية السورية بين الجذب الخارجي والتطفيش المحلي

تجري الآن مقابلات لاختيار 150 من أفضل العاملين في صناعة النفط والغاز في سورية لصالح شركة غازكو الإماراتية، وهؤلاء هم الدفعة الأخيرة من عدة دفعات جماعية وفردية هاجرت من سورية إلى الخليج العربي وعدة بلدان أخرى كنيجريا وكازاخستان، مع صمت وزارة النفط وتشجيعها الضمني، لأسباب شرحها الوزير وهو أن نصبح دولة مصدرة للعمالة الماهرة كمصر وكأن تلك العمالة الماهرة والخبيرة هي شيء متوفر وفائض عن الحاجة.  

ففي ظل الارتفاع الكبير في أسعار النفط مع ما رافقه من وفرة مالية هائلة واشتداد المنافسة بين الشركات النفطية على أسواق و مناطق إنتاج النفط والغاز، تلك العوامل أدت إلى التوجه لتطوير حقول النفط والغاز القائمة وحتى تلك المهجورة لعدم جدواها الاقتصادي سابقاً والبحث عن مشاريع جديدة مع استخدام أحدث تكنولوجيا الاستكشاف والحفر ففي ظل التكنولوجيا التي كانت موجودة في السبعينات كان من خلالها معدل استخراج النفط من الحقل محدودا بنسبة30%، أما التكنولوجيا الحالية فإنها تسمح باستخراج 60% من النفط الموجود في الحقل، وفي المستقبل متوقع أن تصل نسبة الاستخراج إلى 80 في المائة..
هذه الظروف (بالأحرى تلك المليارات المدفونة في باطن الأرض) دفعت الشركات النفطية إلى الاهتمام بمواردها البشرية وتطويرها والبحث عن أفضل الخبرات الخارجية بأي ثمن لتسريع تنفيذ خططها ودراساتها في ظل توقعات السوق النفطية المتفائلة جداً التي جعلت نسبة المخاطرة معدومة تقريباً.
قامت الشركات النفطية العالمية ومنها العربية بتغيير في أساليب عملها فلجأت إلى استقطاب العمالة الماهرة في كل مجالات ومراحل صناعة النفط والغاز في مجالات الحفر والصيانة والإنتاج والتسويق والإدارة بدءاً من ألف تلك الصناعة إلى يائها، وذهبت وفود تلك الشركات وخصوصاً الخليجية منها تجوب البلدان والدول تبحث عن أفضل خبرات صناعة النفط والغاز ممن يطلق عليهم تسمية الخبراء، وعلى كافة المستويات والاختصاصات، لأن حجم المشاريع المعلن عنها في أبو ظبي وقطر يتجاوز عشرات المليارات.
الخبير ليس بالضرورة حامل الشهادات العليا فقط، بل هو المهني الماهر أو الفني الذي يدير عمله بكفاءة كبيرة أو المهندس المتقن لعمله، معيار الخبرة يعد من أهم مطالب الشركات الُمشغلة، والسؤال هنا هو عن الشركات والمهام التي كنت تؤديها، طبعاً شهادات التدريب العملية ومهارات استخدام الحاسب وإجادة اللغة الإنكليزية بالإضافة لثقافة الأمن والسلامة المهنية هي بديهيات لايمكن لأي شخص يقدم نفسه للعمل في شركات النفط أن لا يمتلكها وإلا فعليه ألا يُقحم نفسه في منافسة غير مجدية، وخصوصاً أن الأجور والمزايا المعروضة كبيرة جدا، لذلك لا نجد من بين المتقدمين من عمال الشركة السورية للنفط التي لاتزال تعلن عن مناقصات شراء الزيتون والعطون وسائر الأطعمة لزوم كيس الطعام اليومي الموزع على موظفي حقول رميلان وغيرهم، ولا يزالون يستخدمون التبن في تقنيات الحفر.
في سورية تتجه أنظار شركات النفط الخليجية إلى العاملين في شركات إنتاج النفط المشتركة بالمقام الأول كشركة الفرات وشركة دير الزور للنفط، كون تلك الشركات تعتمد خطط تدريب وتأهيل داخلية وخارجية على مدار السنة بمواصفات عالمية، لكل العاملين وبما يتناسب مع نوع  العمل والمؤهلات وكذلك القدرات الفردية مما أدى لنشوء عمالة ماهرة، تتعامل وتتواصل مع أحدث تكنولوجيا الحفر والصيانة والإنتاج، ولكن بسبب عدم مقدرة تلك الشركات على إعطاء الحوافز المنافسة أو حتى المناسبة لخبراتها الوطنية، بسبب عقلية وصائية ترى في صرف التعويضات ورفع الرواتب لهؤلاء هو دلال زائد يجب عدم تعويد العاملين عليه وتقارن دائما ما يأخذه غيرهم من عمال الدولة وبما يأخذونه فتجد بأنه أكثر من كاف، وذلك بغض النظر عن طبيعة العمل في النفط و مخاطره المهنية وطبيعة السلعة الإستراتجية المنتجة التي يعتمد عليها إقتصاد البلد والتي لا تحتمل أي تهاون أو تقصير والخطأ فيها قد يكون مكلفاً جداً إذا لم يكن مدمراً، إن الخبرة هنا هي نتاج متراكم لسنوات كثيرة وظروف عمل قاسية، وهي كذلك نتيجة جهد فردي وجماعي.
وبالتالي فإن كلفة تدريب مشرف الحفر يكلف على مدار ثلاث أو أربع سنوات بما يتجاوز ال70 ألف دولار، طبعاً للمقارنة فهي أجرة عمل حفارة نفطية لمدة أسبوع، وكلفة تأهيل وتدريب مشرف في خدمات الآبار أو مشرف صيانة تتجاوز ال50 ألف دولار، ولكن بالمقارنة مع الفائدة العملية وأسعار النفط فهي لا شئ تقريباً، فمنذ عدة سنين تقريباً تم إنتهاج سياسة إحلال العناصر الوطنية محل الأجنبية عبر تكثيف التدريب والتأهيل، وهكذا كان وتم تحقيق وفر كبير في رواتب وأجور كانت تدفع للخبراء الأجانب، أستخدم جزء منها في التدريب ، وتم تأهيل العشرات، ولكن بالمقابل لم يطرأ تحسن على دخل العاملين وظل مرتبطاً بزيادات الأجور العامة،(مع اجتهاد قانوني يستمر عدة أشهر لاستثناء العاملين في القطاع المشترك النفطي من شرط نسبة مساهمة الدولة الـ75% المذكور في كل مرسوم لزيادة الأجور) وهنا تم اختراع أنواع من المكافآت الدورية كتعويض الخبرة لسد الفرق والإبقاء على العاملين، ولكن أبت العقليات المتخلفة في بعض الأنساق الإدارية العليا إلا أن تدلي بدلوها فتم تقليص أعداد المستفيدين وحجم المبالغ تدريجياً والتأخير المتعمد في صرف تلك التعويضات، بحجة الدارسة والتدقيق، وهنا لابد من ذكر الدعاوي العمالية المرفوعة أمام القضاء الإداري للحصول على طبيعة العمل والاختصاص والعمل الصحراوي والجهد الإضافي، التي تضاعف الراتب لمن حصل عليها منذ عدة سنين قبل أن يوعز رئيس الوزراء السابق للقضاء الإداري بتجميد تلك الدعاوي، والمستمر حتى الآن بحيث خلقت تلك الازدواجية فئتين من العاملين الفرق بين رواتبهما يصل أحياناً إلى ضعفي الراتب، بحيث تجد عاملاً عادياً راتبه ضعفي راتب مهندس أو رئيس قسم فني.
هذا الواقع جعل أغلب العاملين المهرة يفكرون في الهجرة وخصوصاً عندما يكون الحد الأدنى للراتب 3000 دولار شهرياً عدا عن مزايا السكن والسفر، وبعض الرواتب تصل  حتى 10000 دولار شهرياً، بالمقابل لايزال تعويض طبيعة العمل هو 123 ل س وطبيعة الحقول 148 ل س.
أحد الأمثلة القريبة على نظرة الجهل والإستهتار التي يدار بها قطاع حيوي من صناعتنا الغازية هو ما يحدث في معمل غاز دير الزور- الطابية (كونوكو سابقاً) حيث تم استلام المعمل جاهزاً من شركو كونوكو سوريا بعد أربع سنين، وتم تكليف العناصر الوطنية بإدارة المعمل الذي يعد بحق من أحدث معامل الغاز في المنطقة وأرباحه اليومية تتجاوز المليوني دولار، ولكن الجانب المحزن في الأمر أن الحكومة تعتبر أن العاملين هم عبيد عندها، أثناء إدارة المعمل الأجنبية كانت تبلغ قيمة الأجور والتعويضات حوالي 800 ألف دولار شهرياً وهي الآن أقل من 80 ألف دولار، إن دخل العاملين السوريين قد انخفض إلى أكثر من النصف كون الراتب الآخر من كونوكو قد توقف، والشركة العامة للغاز هي أعجز من أن تصرف قرشاً واحداً فوق الراتب الشهري مما جعل العاملين يتحسرون على أيام كونوكو (الأمريكية) وحجم المكافآت والرفاهية والعز، هذا الوضع السيئ جعل جميع العاملين محبطين تواقين لترك العمل، أحد العاملين ذكر لنا أنه خلال اجتماعهم مع وزير النفط بعد استلام المعمل طلب منهم زيادة الإنتاج وخفض النفقات، فهم لا يعرفون حتى الآن كيف لهم أن يزيدوا إنتاج معملهم الحديث، ولكنهم يفكرون بالتبرع بكامل رواتبهم للوزارة كي يخفضوا النفقات، إن حال معمل الطابية هو حال أغلب منشآتنا النفطية التي تعمل تحت إدارة وصائية لا هم لها إلا إحباط وتطفيش مواردها البشرية على العكس من جميع شركات النفط في كل العالم، وهنا يصدق المثل القائل بأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، فإن قوى الفساد والبيروقراطية التي تستورد العمالة الخارجية عبر شركات تشغيل هي ملك لأسماء معروفة تتقاضى عمولات شهرية، تعمل على تطفيش عمالتنا الوطنية إلى الخارج.
إن إغراءات العمل في الشركات الخليجية لا يمكن أن تقارن بما هومتاح في سورية، ولايمكن وقف نزيف الهجرة إلا بتحسين وضع العاملين، وهنا نقصد بشكل رئيسي الذين يتوقف عليهم إنتاج النفط بكل مراحله وليس غيرهم من العمالة الزائدة التي تجعل من حاجب المدير أهم من مشرف الحفارة.