الاغتراب عن العائلة

الاغتراب عن العائلة

انطلاقاً من ضرورة قدرة العائلة على تأمين جزء صغير من احتياجاتها وحاجاتها للاستمرار والبقاء على قيد الحياة، لا بد من وجود فردين أو ثلاثة أفراد على الأقل يعملون من أجل تلبية ما تيسر لهم من محددات البقاء لهذه العائلة المؤلفة من خمسة أفراد، وذلك في ظل الارتفاع المخيف لتكاليف تجديد قوة العمل والتكاليف المعيشية وتحديداً في ظل العوامل والمتغيرات الحالية التي تحولت من ظروف وعوامل ومتغيرات قاسية إلى ظروف قاتلة ومدمرة بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معنى بل وأكثر من ذلك.

لا بد من التذكير بأن مفهوم العائلة أو حتى العائلة قد تشكلت ونشأت بسبب أسباب تاريخية جوهرها الجانب الاقتصادي وتحديداً مع ظهور الملكية الخاصة للأراضي ووسائل الإنتاج، وذلك من أجل أن تضمن العائلة حياتها وبقاءها من خلال العمل ضمن هذه الأرض، وبالتالي فإن الأساس المادّي لظهور ونشأة العائلة والاستمرار بهذا الكيان الروحي والعاطفي هو ضمان وجودها والقدرة على تأمين احتياجاتها.
إلا أن الرأسمالية كنظام اقتصادي لا يرى هذه العائلة إلا كأحد أهم الأدوات التي تساعد على رفع معدلات الربح والاستغلال، وعندما تصبح العائلة معيقة لهذا الرفع في معدلات الربح، لا تتردد الرأسمالية في تدمير هذه المؤسسة وتفكيكها بما يتناسب ومصالحها الربحية والاستغلالية وذلك تحت شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ضاربة في تفكيكها وتدميرها لهذا الكيان الروحي، كل هذه الشعارات الرومنسية من أجل شعارها الوحيد (استمرار الربح) حتى ولو كان على حساب التضحية بالمنظومة الأخلاقية ككل، وذلك تأكيداً على ما قاله ماركس قبل 150 سنة (إن الرأسمالية مستعدة لارتكاب أي جريمة من أجل نسبة ربح 300%) فكيف هو الحال في ظل نسب أرباح تتجاوز هذه النسبة بأضعاف مضاعفة.
استناداً إلى ما سبق نوضح قصة العم أبي إحسان، وهو رجل سبعيني يعمل على التكسي العمومي، متزوج ولديه ستة أولاد، ولسوء حظه أن التكسي التي يعمل عليها ليست ملكه، وإنما يعمل سائقاً مأجوراً وهو في هذه المرحلة من حياته. يعمل أبو إحسان يومياً حوالي 12 ساعة في الريف الدمشقي وذلك في ظل الأزمات المتعددة منها ندرة المحروقات، ندرة رواد هذه الوسائل الخاصة للنقل بسبب انعدام الدخل، إلخ. يبلغ دخله اليومي تقريباً حوالي 30,000 ليرة وفق طريقة العمل المتعارف عليها، علماً أن له من إجمالي دخل المركبة 30% تقريباً، وبالتالي يقدر دخله الشهري بحوالي 900,000 ليرة تقريباً. بالمقابل فإن الحد الأدنى للمعيشة يتجاوز 2,000,000 ليرة أي إن نسبة التغطية تقدر بـ 36% تقريباً.
طبيعة عمل العم أبي إحسان لا تتناسب إطلاقاً مع خصوصيته العمرية بما لها من تأثيرات جسدية ومرضية على صحته، ناهيك عن أمراض الضغط والقلب المرتبطة بهذا العمر، فإنه يعاني أيضاً من مشكلات العظام والعمود الفقري بسبب ساعات العمل الطويلة على كرسي هذه المركبة الخاصة. علماً أنه من المفترض وفي هذا العمر وفي ظل وجود ستة أولاد لا بد له أن يتقاعد ويرتاح في البيت من أجل أن يقضي بقية حياته بعيداً عن ضغوط العمل والمعيشة وإرهاقها. ولكن على ما يبدو ما زال هذا العم يقاتل وحيداً في سبيل تأمين معيشته وأدويته، فقد وضح لنا أن أولاده الستة هم أيضاً منغمسون في حرب المعيشة وتأمين الاحتياجات الدنيا. لديه ولدان يعملان في وظائف الدولة في القطاع العام، ومعروف ما هو وضع هذه الفئة المجتمعية علماً أن الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز 92,000 ليرة شهرياً، وله أيضاً ولدان في الخدمة الإلزامية وأيضاً رواتبهم حوالي 100,000 ليرة شهرياً ولكن هذا الراتب لا يكفي متطلبات المعيشة فقط، حيث وضح لنا العم أبو إحسان أنه يدفع لولديه شهرياً ما يقارب 400,000 ليرة إضافة إلى رواتبهم، في حين أن ابنه الأصغر طالب جامعي يعمل في إحدى الأراضي الزراعية بمنطقته، وذلك بعد دوامه في الجامعة من أجل تأمين مصروفه التعليمي من محاضرات وغيرها. ختم العم أبو إحسان حديثه بأنه كان يتخيل حياته في هذا العمر ستكون حياة مريحة إلى حد ما وخصوصاً أن لديه ستة أولاد سيساعدونه على مواجهة الحاجات المعيشية، وسيحملون الأعباء عنه، وسيبعدونه عن هذا الكرسي الذي ينهك عظامه ويأكل صحته.
إذاً وبعد هذا السرد الموجز لحالة هذه العائلة البائسة يتضح لنا حجم وتنوع الاغتراب الذي يعاني منه كل فرد من هذه العائلة، أولاً اغتراب العم أبي إحسان عن عمله، واغترابه عن أولاده، بالإضافة إلى اغتراب الأولاد عن عائلتهم، وكما نرى أنه في أحسن الأحوال فإن أكثر الأفراد رفاهية وتنعماً لا يغطي من معيشته إلا 15% بأحسن الأحوال.
وضع هذه العائلة كغيرها من الغالبية العظمى للعائلات السورية، مغتربة عن بعضها البعض، مفككة، وحتى مهترئة، كل فرد من أفرادها يناطح وحيداً همه نفسه وحياته بعيداً عن إخوته أو والديه، قد يظهر عليها انعدام الجانب الروحي والعاطفي، قد تكون خالية من المشاعر العائلية بشكل كلي، بدلاً من أن تكون العائلة الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه مجمل أفرادها هرباً من وحشية الظروف الخارجية، أصبح أفرادها بحاجة إلى ملاذ آخر يلجؤون إليه من التزاماتهم تجاهها، هذا الهرب والاغتراب عن العائلة والتزاماتها، ليس رغبةً حقيقية وليس انحطاطاً أخلاقياً إنما هو لعدم توفر الإمكانية المادية، وأساسه العجز المادي المخيف والمرهق. ولا بد لنا في هذه النقطة من ذكر أهم العبارات الفلسفية (إن الوجود المادي يحدد وجودنا الروحي، إن الوجود الاجتماعي يحدد وعينا الاجتماعي). ولسوء الحظ فإن الرأسمالية تعي تماماً هذه العبارات والقوانين وهي مستعدة للتضحية بكل ما هو متاح من أخلاق وعواطف ومشاعر، وكل ذلك من أجل السعي الأعمى وراء مراكمة الأرباح حتى لو على حساب تدمير وتفكيك أهم الكيانات عاطفيّة، وإن مثل هذه الإجراءات على الأجيال القادمة جيلاً وراء جيل– ومع اشتداد وتائر النهب والاستغلال– من شأنه أن ينهي ويقضي على هذا الكيان ويحول المجتمعات الإنسانية إلى مجتمعات حيوانية تسعى وراء غرائزها واحتياجاتها في سبيل البقاء على قيد الحياة في ظل الأوضاع الاقتصادية والمادية القاسية والمرعبة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1100