(أوراسيا)-(آسيا) وداعاً بريجينسكي!
بقلم بيب إيسكوبار بقلم بيب إيسكوبار

(أوراسيا)-(آسيا) وداعاً بريجينسكي!

تطرح تطورات الصراع العالمي بين القوى الصاعدة، والقوى الهابطة، تغييراتٍ كبرى في المشاريع الاقتصادية المطروحة عالمياً، حيث لم يعد من الممكن لدى تلك الصاعدة، روسيا والصين بشكلٍ أساسي، التعويل على المشاريع الاقتصادية الغربية التي تنتمي لفترة الهيمنة والقطبية الأحادية، ما يجعلها محكومة بإنجاز مشاريعها الاقتصادية الخاصة، وبإنجاز تغييرات هيكلية في اقتصاداتها، لتقود الاقتصاد العالمي، وتستقطب البلدان الأوروبية المأزومة، ليس «تقسيطاً» بل دفعةٌ واحدة. 

يتغير الوضع العالمي، بما يفسح المجال لنسخةٍ جديدة من الحرب الباردة. القصة الحقيقية، الآن وفي المستقبل المنظور، وضمن انحرافاتها التي لا تعد ولا تحصى، وبالنظر إلى إبطال تفجيرات عدة في الطريق، هي جديدة: الاتحاد الأوراسي يمضي قدماً.

سيُبقي مشروع «طريق الحرير» الصيني بالغ الطموح، على التقاطع بين الصين وروسيا، التي تقود الاتحاد الاقتصادي الأوراسي «EEC»، وسيكون هناك يوم تستيقظ فيه أوروبا لتجد أن ازدهاراً تجارياً ومحوراً تجارياً أخذ يمتدُّ من سانت بطرسبرغ إلى شنغهاي. وبوجهٍ مماثل، يُذكر ما قاله بوتين في ألمانيا قبل سنوات قليلة، من رؤية أكثر شمولية، تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك.

روسيا على محور الشرق.. الصين على محور الغرب

تشتغل بعض أصوات العقل في الولايات المتحدة، على تفكيك السلبيات بشكلٍ رئيسي، مشيرةً إلى مخاطر الحرب الباردة الثانية. في غضون ذلك، يقدِّم الباحث، ديمتري ترينين، من مركز «موسكو كارنيجي»، خارطة طريقٍ للتجمُّع الأوراسي.

ستتوطد العلاقات الاستراتيجية الروسية- الصينية، من تجارة الطاقة إلى الدفاع، وصولاً إلى تطوير البنية التحتية.. إلخ. فمثلما «ستكون روسيا محور الشرق»، «ستكون الصين محور الغرب». ومن الناحية الجيوسياسية، هذا لا يعني تبعيةً روسيةً إلى بكين، بل ارتفاعاً في العلاقات التكاملية والتكافلية. 

بات التزايد المطّرد للانجذاب العالمي نحو «بريكس» (المفردة التي باتت تستخدم كشتيمة في واشنطن) واقعاً، إذ يعادل نفوذها الآن ما كان لمجموعة «السبعة الكبار» من نفوذ سابقاً. أما بنك بريكس الجديد للتنمية، والذي سينطلق قبل نهاية 2015، فهو بديل رئيسي لصندوق النقد الدولي، وللآليات الأخرى المتحكَّم بها من مجموعة السبعة الكبار «G7».

في مؤتمرها المزمع عقده في الصيف القادم في روسيا، لا بد أن تشمل «منظمة شنغهاي للتعاون» الهند وباكستان كأعضاء رسميين ضمنها، وإيران ضمناً بعد رفع العقوبات، والتي من المفترض أن تنضم رسمياً مع بداية 2016. في نهاية المطاف، فإن منظمة شنغهاي للتعاون تزدهر، بوصفها مفتاح التطور الأساسي سياسياً، والتعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني عبر آسيا.

وستبقى فكرة بوتين، حول «أوربا الكبرى» في الانتظار. إنها «أوروبا الكبرى» الممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك- وهو ما يعني الجمع بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي- في الوقت الذي تسرع فيه الصين في مشروع «طريق الحرير الجديد»، بطرقه البحرية والبرية.

العامل الألماني: «قائد الأوركسترا»

تعتمد فكرة «أوربا الكبرى»، الممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك، على حل المعضلة الألمانية. فالصناعيين الألمان، يرون الأعاجيب من قدرة روسيا بتزويد ألمانيا- أكثر من الاتحاد الأوروبي مجتمعاً- بقناة جيوسياسية واستراتيجية مميزة تصلها بآسيا والمحيط الهادئ. لكن هذا، إلى الآن، لا ينطبق على السياسيين الألمان. إذ أن المستشارة، أنجيلا ميركل، وبغض النظر عن بلاغتها، تستمر بالسير على الحبال الأمريكية.

استراتيجية خط «أنابيب غاز ستان» (نسبةً إلى الدول التي تنتهي أسماؤها بـ«ستان») الروسية كانت موجودة بالفعل- من خلال (السيل الشمالي والسيل الجنوبي)– إلى أن دفع التفاف أوروبا -غير القابل للإيقاف- موسكو إلى إلغاء السيل الجنوبي، وإطلاق السيل التركي (الذي سيزيد، في النهاية، تكلفة الطاقة بالنسبة لأوروبا). بالمقابل، ستحظى أوروبا عملياً بإمكانية الوصول الحر إلى الموارد الروسية، كسوق داخلي.

ألمانيا هي قائد الأوركسترا الفعلي لقطار الاقتصاد السريع هذا. وبوصفها قوة تصدير، هناك مخرج وحيد أمامها، ولن يكون نحو الغرب ولا الجنوب، بل الشرق. وبذلك وفي مشهد استثنائي سال لعاب أوركسترا كاملة من الصناعيين عندما زار الرئيس الصيني، شي جين بينغ، ألمانيا في ربيع 2014، مقترحاً شيئاً ما لا يقل عن سكة حديد سريعة تصل «طريق الحرير الجديد» من شانغهاي إلى دويسبورغ وبرلين.

هناك نقطة مفتاحية يجب أن لا تغيب عن الألمان: وهي الفرع الحيوي لطريق الحرير الجديد المتمثل بسكة الحديد السريعة عبر سيبيريا. إذاً، أحد «الطرق الصفراء» (نسبة للنهر الأصفر العظيم في الصين) للبريكس نحو بكين وشانغهاي سيعزز ازدهار موسكو، بوصفها نقطة وصل استراتيجية.

«إمبراطورية الفوضى..» والتكامل الأوراسي

لا تحتاج سياسة التوجه غرباً في الطرق البرية التي تتبعها بكين، إلى تدخل قوى عظمى- بكل سرور- من الطريق العابر لسيبيريا إلى طريق خط السكك الحديد العابر لجمهوريات آسيا الوسطى، واصلة إلى إيران وتركيا. وبالإضافة إلى هذا، فإن روسيا ترى هذا بوصفه تكافلاً بيولوجياً، إذ تجد منفعةً متبادلة في انضمام جمهوريات آسيا الوسطى مجتمعة إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والحزام الاقتصادي حسب وصف بكين، إلى طريق الحرير الجديد.

واحدٌ من الجوانب الرئيسية للشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، هو أنهما يعتبران أن سياسة واشنطن الخارجية، المفككة بشكل كبير، تعدُّ راعياً أساسياً للفوضى. فما ينطبق على روسيا والصين بالتحديد، هو في أساسه فوضى، على مبدأ «فرق تسد». ترى بكين أن واشنطن تحاول زعزعة الاستقرار في محيط الصين (هونغ كونغ، التيبت، شينجيانغ)، وتتدخل بشكل فاعل في نزاعات بحر الصين الجنوبي. وترى موسكو أن واشنطن مهووسة بتوسيع غير محدود للناتو، وتقاتل بوحشية لمنع الجهود الروسية في «التكامل الأوراسي».

وهذا يعني بالتالي زوال الاستراتيجية الجيوسياسية الروسية السابقة. لا داعي بعد الآن لأن تحاول موسكو أن تشعر وكأنها جزء من نادي النخبة الغربي مثل (الثماني الكبار G8)، ولن تكون هناك شراكة استراتيجية مع الناتو بعد الآن. بكين، والتي كانت دائما خبيراً بالتخطيط المبكر للأحداث، ترى أيضاً كيف أن واشنطن تشيّطن ليس بوتين وحده بل روسيا ككل، ما يشكِّل عرضاً تجريبياً لما يمكن أن تتعرض له الصين في المستقبل القريب.

أسئلة إشكالية ومعركة رابحة

تعرف بكين مسبقاً ما الذي كانت تهمس به موسكو: النزعة الإقصائية لواشنطن، سواء أكانت تتراجع أم لا، لن تقدم لبكين ما يتناسب أو يحترم مصالحها الوطنية.

في الفصل العظيم من انعدام التوازن العالمي, ستقبل الرهانات على فكرة هل ستستخدم موسكو تهديد الأزمات الثلاثية (العقوبات، وحرب أسعار النفط، والمضاربة على سعر الروبل)، لتفرض تغييراً هيكلياً بقواعد اللعبة، وتطلق استراتيجية تطوير اقتصادية؟ 

أما الموضوع الآخر غير المستقر، فهو ما إذا كان الرئيس الصيني، مسلحاً بالقوة الناعمة والكاريزما والكثير من النقود، سيكون قادراً على أن يقوم، بشكلٍ مشترك، بتعديلات على النموذج الاقتصادي، وأيضاً كسر القطيعة مع الغرب، بما لا يؤدي في نهاية المطاف إلى إبعاد الصين عن شركاء محتملين في إنشاء طريق الحرير الجديد.

النقطة الأخيرة غير المتوازنة هو ما إذا (أو متى إذا حصل) ستقرر بروكسل أن تتعهد باتفاقٍ حيوي متبادل مع روسيا، ليكون بمواجهة الوضع الحالي القائم على الخصومة التي تتجاوز حدود القضايا الجيوسياسية. فألمانيا، وتحت قيادة ميركل، تبدو كاحتمال وكأنها أخذت القرار بأن تبقى خاضعة للناتو، وبالتالي ستكون «قزماً استراتيجياً».

إذاً، ما نراه الآن هو صناعة آسيا الكبرى، من شانغهاي إلى سان بطرسبورغ، تتضمن طهران بشكل مؤكد- عوضاً عن أوراسيا الممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك. فأوراسيا الكاملة ربما لن تتحقق (على الأقل الآن). لكن مشروع «آسيا الكبرى» يمضي في الطريق، وسيكون هناك تسونامي من المحاولات التي سيقوم بها المشبوهون الاعتياديون لكسر مشروع آسيا الكبرى أيضاً.

سيكون من المذهل مراقبة ما سيجري، كيف ستتمكن موسكو وبكين من إسقاط الغرب بالمعنى السياسي والتجاري والإيديولوجي دون المخاطرة بحرب؟ كيف لهم أن يتعاملوا مع ضغط كبير بهذا الشكل؟ كيف سيروجون لاستراتيجيتهم في المساحات الكبيرة في الجنوب العالمي، عبر خطوط العرض الآسيوية العديدة؟

إلى الآن، هم ربحوا إحدى المعارك. وداعاً زبيغنيو بريجينسكي، حلمك بالهيمنة على رقعة الشطرنج الكبرى قد انتهى.

 

 عن موقع «Asia Time» بتصرف