في «التوازن الجديد»  «وسط آسيا» تمشي على حبل مشدود

في «التوازن الجديد» «وسط آسيا» تمشي على حبل مشدود

في خطوة تعكس التوجه الاستراتيجي لواشنطن، زار وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، دول آسيا الوسطى الخمس، كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، في الفترة ما بين 28/10/2015 و3/11/2015.

هي المرة الأولى التي يقوم بها وزير خارجية أمريكي بزيارة إلى جمهوريات آسيا الوسطى الخمس جميعها في الوقت نفسه، وتؤشر هذه الزيارة إلى الأهمية البالغة التي يوليها البيت الأبيض لشؤون آسيا الوسطى، في وقت يرتفع فيه منسوب التصعيد الأمريكي في بحر الصين الجنوبي، على جبهة الشرق الأقصى للقارة الآسيوية.

يعتبر الباحث الصيني في الشؤون الاستراتيجية، يانغ جين، في مقال له في صحيفة الحزب الشيوعي الصيني، أنه «بعيداً عن نظرية المؤامرة القائمة على التربص الأعمى للخصوم عند كل حركة، ورغم أنه ليس بالشيء المفاجئ أن يقوم وزير الخارجية الأمريكية بزيارة أي بلد أو منطقة، إلا أن جولة كيري في آسيا الوسطى، وفي هذا الوقت، إنما تعكس واقعاً جيوسياسياً جديداً معبئاً بالاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة».

التحولات الأمريكية

 على جبهة آسيا

يرى جين أنه، في وقت سابق، أمنت الولايات المتحدة الأمريكية مستوى معيناً من الولاء لها في وسط آسيا، وضمنت وجود «حلفاء ثابتين» لها في هذه المنطقة، عن طريق «حربها على الإرهاب» في أفغانستان، غير أنه اليوم، وفي زمن تنسحب فيه واشنطن تدريجياً من البلاد، فإن عصر آسيا الوسطى المهمين عليها أمريكياً بات جزءاً- أليماً على الأغلب- من الماضي.

ووفقاً لعدد متزايد من الباحثين الاستراتيجيين، فإنه، وبعد انتهاء حرب أفغانستان التي خلقت لواشنطن مستنقعاً وسخاً، حولت الولايات المتحدة تركيزها الاستراتيجي صوب منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وعلى أساس هذا التحول، الذي بدأت ولادته منذ سنوات، فسر هؤلاء الباحثون، بصورة معقولة لكن غير مكتملة، انخفاض النشاط الدبلوماسي الأمريكي في منطقة وسط آسيا، منذ بدء حرب أفغانستان، إلى ما قبل زيارة كيري الأخيرة.

الآسيويون يقرأون التوازنات

وحسب الكاتب، فإنه خلال أكثر من عشرين عاماً من العمل الدبلوماسي المستقل (بعد تفكك الاحاد السوفييتي)، أصبحت دول آسيا الوسطى على دراية ومهارة تامة في تقنيات الدبلوماسية التي تمارسها القوى الكبرى، فهي تنظر إلى التوازنات الدولية والعلاقات ما بين الدول الكبرى بوصفها عاملاً هاماً في الأمن الوطني والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي. فلم تنفك دول كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان عن التمسك بتوازن السياسة الخارجية مع القوى العظمى، فيما أعلنت تركمانستان حالة «الحياد الدائم». وعلى الرغم من اختلاف الأساليب الدبلوماسية فيما بينها، إلا أن الغرض الأساسي من تلك الوسائل لدى هذه الدول هو الحفاظ على التوازن في العلاقات مع القوى الكبرى لتحقيق المصالح الوطنية العميقة.

نحو موسكو.. بحثاً عن الاستقلال

استناداً لما تعتبره واشنطن مصالح مهمة لها في المنطقة، استثمرت الولايات المتحدة الكثير من الموارد في آسيا الوسطى. غير أن بعض التحركات الدبلوماسية الأخيرة تسبب الحذر من البيت الأبيض، بما يتجاوز حدود المصالح الاقتصادية البحتة. إذ تصدّر الدبلوماسية الأمريكية دعاة «القيم الديمقراطية» إلى هذه المنطقة بشكل متكرر، ما دفع بلدان آسيا الوسطى للاستياء على نحو متزايد من قبضة الولايات المتحدة التي تحاول تقويض سياساتهم الباحثة عن نوع ما من الاستقلال النسبي، فقامت هذه البلدان في فترة ما بعد الحرب بتفتير علاقاتها مع واشنطن، لاسيما بعد المحاولات المتكررة لإدخال «الثورات الملونة» إلى كل من قرغيزستان وأوزبكستان.

وتبعاً للخبرة الدبلوماسية في قراءة موازين القوى، واستناداً للروابط التاريخية والجيوسياسية والاعتبارات الاقتصادية العملية، وجدت دول آسيا الوسطى نفسها مدفوعة في أوائل هذا العقد نحو جهود حثيثة لتطوير العلاقات مع روسيا. وهذا ما رأيناه في انضمام كازاخستان وقرغيزستان إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بما عززه من تكامل فيما بين دول آسيا الوسطى وروسيا، وبما حققه من انفراج كبير في هذا السياق.

الضغط على التكامل الأوراسي

بعد ذلك، لهثت الولايات المتحدة وراء هدف بائس لكنه ليس هامشياً، فمن خلال إشعالها للأزمة الأوكرانية في بدايات عام 2013، وما أعقبها من عقوبات اقتصادية فرضها الغرب على روسيا، وحرب شعواء في أسعار النفط، عولت واشنطن على إعاقة التكامل الأوراسي ودفع دول آسيا الوسطى نحو تخفيف اهتمامها بهذه العملية التي تقودها روسيا. لكن فشل الهدف المتمثل بدفع الاقتصاد الروسي نحو التباطؤ الاقتصادي السريع والمفاجئ، أجبر البيت الأبيض على إيجاد مخرج لإنجاز الضغط على المشروع الأوراسي.

وإن كان واضحاً أن زيارة كيري الأخيرة ستعمل على زيادة المدخلات الأمريكية في المستقبل في منطقة آسيا الوسطى، بهدف مواصلة الضغط على الفضاء الجيوسياسي الروسي في أوراسيا، إلا أن التحليل المنطقي يقضي بفهم أن الآثار الطويلة الأجل لهذه الاستراتيجية العالمية التي تعتمدها واشنطن سوف تظل رهينة التوازنات الدولية التي من المحتم أنها لن تتغير بجولات دبلوماسية يقوم بها كيري..!

كتلة منفصلة: كابول والمدار الروسي

تعتبر روسيا أن لوجود «الدولة الإسلامية» في أفغانستان تهديداً خطيراً لآسيا الوسطى، وتستند المخاوف الروسية هذه إلى محاولات هذا التنظيم الإرهابي التغلغل في جهاز الأمن الروسي، بالاعتماد على بعض مقاتليه الروس وبعض المسلحين الساخطين في الجمهوريات السوفييتية السابقة، كما أشار إلى ذلك رئيس جهاز الأمن الفدرالي الروسي، ألكسندر بورتنيكوف، في شهر تشرين الأول الماضي.

وفي باكستان وأفغانستان والشيشان، يملك المسلحون سطوة كبيرة على محافظات تخار وقندوز وبدخشان وفارياب، وكل هذه المناطق هي محاذية تماماً لحدود وسط آسيا. كما يتصاعد تقدم التنظيم في كابول بشكل بطيء، لكن بثبات. وفي وقت يتجهز فيه المقاتلون، تتجه بوصلتهم نحو الحدود الشمالية من البلاد، حيث يجري تجنيد المقاتلين بشكل حثيث.

بدورها، اقتربت الحكومة الأفغانية من روسيا للحصول على دعم عسكري قادر على التعامل مع «الدولة الإسلامية» وحركة «طالبان»، حيث اقترح الرئيس الأفغاني، أشرف غني أحمدزي، مؤخراً وجود آلية مشتركة لمكافحة الإرهاب على المستوى الإقليمي، وهي تهدف إلى محاربة الإرهابيين المحليين والأجانب.

إن اقتراح «غني أحمدزي» ليس هو فقط ما يشوش الولايات المتحدة، إنما العلاقات المتنامية بين كابول وموسكو مزعجة بشكل كبير للسلطات الأمريكية. في الآونة الأخيرة طلب مسؤولون أفغان من القيادة الروسية أسلحة «فتاكة وغير فتاكة»، بشكل يتجاوز حدود التنسيق الملزم مع واشنطن، فيما كان الرد الروسي بأنه يحمل قائمة الطلبات الأفغانية على محمل الجد، على ألا تطأ القوات الروسية الأرض الأفغانية.

نحن أمام تغير واضح في التوجهات الأفغانية، فما الرد الذي من الممكن أن تقوم به الولايات المتحدة على ذلك؟ وهل التراجعات الاقتصادية للأخيرة تسمح لها بشراء ذمم دول الفضاء الأوراسي؟!