أمريكا وليس «إسرائيل» من يريد تأديب «العصاة»
جوناثان كوك جوناثان كوك

أمريكا وليس «إسرائيل» من يريد تأديب «العصاة»

كيف يمكن للسياسيين والدبلوماسيين ووسائل الإعلام وحتى مجتمع حقوق الإنسان أن يبقينا جاهلين سياسياً، مطيعين وسلبيين حدّ منعنا من تحدي سلطتهم وكذلك الوضع الراهن الذي يستفيدون منه؟ الجواب، من خلال تحريف الواقع باستمرار لنا ودورهم في تشكيله. وهم يفعلون ذلك بنجاح كبير لأنّهم يسلطون الضوء علينا من خلال التظاهر بأنهم يتوقون إلى جعل العالم مكاناً أفضل.

ترجمة: قاسيون

يمكن طرح مثال نموذجي على كيفيّة قيامهم بهذا النوع من الخداع عبر قراءة تقريرٍ نُشر في نهاية الأسبوع في صحيفة Guardian التي يُفترض أنها «تقدمية»، بعنوان «يواجه العالم «خطراً متزايداً» بارتكاب فظائع جماعية بسبب التقاعس العالمي». تشير الفقرة الافتتاحية إلى أن نشطاء حقوق الإنسان يخشون أن «يتخلّى المجتمع الدولي عن جهود التدخل لوقف الفظائع الجماعية، مما يؤدي إلى مخاوف من أن مثل هذه الأحداث قد تصبح هي القاعدة في جميع أنحاء العالم». من الناحية العملية، تجلى هذا «الفشل»، وفقاً للتقرير، في تخلّي الدول الغربية عن مبدأ المسؤولية عن الحماية - أو «مسؤولية الحماية». إنّه المبدأ الذي استُخدم مع الذرائع «الإنسانية» المرتبطة به لتبرير تدخل الولايات المتحدة وحلفائها منذ التسعينيات بطرق مختلفة في كوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا وسورية، مما أدّى إلى عواقب وخيمة.
قيل لنا إن سياق مخاوف مجتمع حقوق الإنسان يتلخّص في الانتهاكات المتزايدة لاتفاقية الإبادة الجماعية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد تم اعتماد كليهما في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة لمنع تكرار المحرقة النازية والفظائع واسعة النطاق التي ارتكبت ضد المدنيين على جانبي القتال.
من الممكن أن يفترض المرء أنّ مثل هذه المخاوف قد تصاعدت - مما أدى إلى إثارتها في الأمم المتحدة - بسبب أبشع جريمة إبادة جماعية في العصر الحديث، المذبحة المتواصلة التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون في غزة على مدى شهرين، والتدمير الوحشي للمنازل لطرد الناجين من غزة إلى مصر. ولكن على نحو غير عادي، لا يبدو أن هذا هو الشغل الشاغل «للمجتمع الدولي» وفقًا لـ Guardian، فيما يلي الأزمات العالمية التي أدّت وفقاً للتقرير إلى ارتفاع حادّ في الفظائع،
«إنّ القتل الجماعي للمدنيين في سورية وأوكرانيا، واعتقال أكثر من مليون من الأويغور وغيرهم من المسلمين في الصين، أعقبته جرائم حرب في إثيوبيا، واستئناف التطهير العرقي في إقليم دارفور السوداني بعد 20 عاماً من بدء الحرب والإبادة الجماعية هناك».
هل لاحظتم أيّ شيءٍ مهمّ في هذه القائمة؟ إنها تشتمل فقط على «الفظائع الجماعية» التي يرتكبها أولئك الذين ليسوا ضمن نطاق التبعية الإمبريالية الأمريكية. إنّ المذبحة الجماعية للمدنيين في غزة، والتي ظلت تتصدر عناوين الأخبار لعدة أسابيع، لا يمكن للتقرير التغاضي عنها، ولهذا ورد ذكرها بهذا الشكل «إن قتل حماس لـ 1200 [إسرائيلي]، معظمهم من المدنيين، في 7 تشرين الأول، وما تلا ذلك من غزو [إسرائيلي] لغزة، بحيث كان النساء والأطفال يمثلون معظم القتلى الذين يقدر عددهم بـ 16000 شخص، قد زاد من الفوضى الدموية».

الجلّاد والضحيّة في خانة واحدة!

الخداع هنا متعدد، وليس فقط لأن غزة يجب أن تكون على رأس قائمة الاهتمامات، وليس في أسفلها. تمّ تصميم الإطار الصياغي في هذه الفقرة - كما هو الحال دائماً في التقارير الغربية - لخلق تكافؤ زائف بين تصرفات حماس وتصرفات «إسرائيل»، وتوليد شعور بأن المذبحة الجماعية التي ترتكبها «إسرائيل» ضد الفلسطينيين سببها أفعال حماس. لا داعي للتأكيد على أن هروب حماس من سجن غزة - وعواقبه الوخيمة المتوقعة - سبقته عقود من الانتهاكات العسكرية «الإسرائيلية» للفلسطينيين الخاضعين للاحتلال العسكري، وحصار غير قانوني دام 16 عاماً على أراضيهم، مما أدى إلى حرمان أكثر من مليوني شخص من الفلسطينيين من حريتهم وحقوقهم الأساسية وكرامتهم.
هناك أيضاً فرقٌ واضحٌ بين العنف الاستثنائي لمرة واحدة الذي تمكنت حماس من إحداثه في 7 تشرين الأول، وبين تكثيف إسرائيل للعنف الهيكلي في قطاع غزة الاحتلال والحصار المستمر منذ عقود. من الواضح أن هذه الأشياء ليست نفسها، وأنّها لا تشكل حتّى تهديدات غامضة قابلة للمقارنة لوضع اتفاقية الإبادة الجماعية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لكن هناك مشكلة أعمق بكثير تتعلق بتأطير هذه المخاوف. إن مشكلتنا هنا ليست «التقاعس العالمي» عن الفظائع الجماعية. بل على العكس من ذلك الدعم الغربي المكثف، وخاصة الولايات المتحدة، لمثل هذه الفظائع والتواطؤ فيها. الولايات المتحدة ليست عاجزة في مواجهة الإبادة الجماعية الجارية. إنّها تسهّل ذلك بنشاط. في الواقع، الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في إسرائيل سيكون مستحيلاً ليس فقط من دون تواطؤ الولايات المتحدة، بل أيضاً من دون مشاركتها النشطة.
إن المذبحة الجماعية للمدنيين في غزة تحدث لأنّ الولايات المتحدة قدّمت القنابل الثقيلة التي دمرت المباني الشاهقة في غزة وقتلت أطفالها. وتحدث هذه المذبحة لأن الولايات المتحدة أرسلت سفناً حربية إلى المنطقة لترهيب الدول المجاورة والجماعات المسلحة لحملها على التزام الهدوء بينما يُقتل المدنيون في غزة. فحزب الله في لبنان، على سبيل المثال، قادر تماماً على إنهاء «التقاعس العالمي»، من خلال إشراك «إسرائيل» عسكرياً وسحب القوة النارية الإسرائيلية بعيداً عن غزة. ولكن لا أحد في «المجتمع الدولي» يرغب في هذا النوع من «التحرك».
لكن هناك سبب وراء إثارة «المجتمع الدولي» لمخاوفه بشأن «الجرائم الوحشية» الآن، في حين يقلل أو ينكر أسوأ جريمة وحشية ممكنة - الإبادة الجماعية - في غزة. ذلك لأنّ هجوم حماس على «إسرائيل» في 7 تشرين الأول يمثّل لحظة خطيرة للهيمنة الغربية على النظام العالمي. لا يتعلّق القلق في الحقيقة بتزايد الفظائع الجماعية. فالغرب لا يبالي بارتكاب الفظائع عندما يرتكبها أو يساعد الآخرين على ارتكابها. يتعلّق الأمر بالصعوبة المتزايدة التي يواجهها الغرب في إبقاء بقية العالم ضعيفاً ومكبوتاً من خلال استخدام فظائعه. إنّ الإخفاقات العسكرية الأمريكية في أفغانستان وسورية وأوكرانيا ــ والثقة المتزايدة بالنفس من جانب روسيا والصين ــ تضع حدوداً جديدة لتفوق واشنطن.
الحقيقة هي أن هجوم حماس ـ رغم ما خلفه من عواقب مروعة ـ كان بمثابة إشارة إلى مستقبل مختلف بالنسبة للعديد من هؤلاء الذين عاشوا لعقود من الزمن تحت سيطرة الولايات المتحدة وحلفائها، أو في كثير من الأحيان تحت سطوتها. وهم يرون أنه من الممكن، حتى كطرف مظلوم وضعيف، أن يُصيب الهيمنة العالمية المتسلطة وأعوانها.
إن ما يراه الغربيون المتميزون الراضون عن أنفسهم من «عنفٌ بربري» يفهمه الآخرون باعتباره «ثورة العبيد». لهذا السبب، كما حدث بعد غزو روسيا لأوكرانيا، يرفض قسم كبير من بقية العالم الانضمام إلى الغرب وينظرون إلى مواقفه كنوع من النفاق الخالص.
لا تكمن الأهمية بالنسبة لواشنطن في وقف الفظائع التي ترتكبها «إسرائيل»، بل في التأكد من أنّ «إسرائيل» تعيد تأكيد قدرتها على تلقين درسٍ لأولئك الذين قد يلهمون لشنّ ثورة العبيد الخاصة بهم. وراء الكاميرات، تقوم أمريكا بمعايرة مدى الوحشية التي تحتاجها «إسرائيل» لإرسال الرسالة الصحيحة إلى العالم غير الغربي، لا يمكنك الفوز، لهذا يجب أن تطيع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1153
آخر تعديل على السبت, 06 كانون2/يناير 2024 21:39