تأثير هموم العمّال المادّية على إضعاف إنتاجيّة عَمَلهم

تأثير هموم العمّال المادّية على إضعاف إنتاجيّة عَمَلهم

«يمكن للمخاوف بشأن المال أن تخلقَ أعباءً نفسية، مثل: القلق أو التوتر أو الحزن، مما قد يُلحق الضرر بالقدرة على العمل بفعالية. أجرينا تجربة ميدانية مع عمال التصنيع بالقطعة في الهند. قمنا بترتيب توقيت استلام الدخل عشوائياً، بحيث يكون لدى بعض العمال في يوم معين نقود أكثر من غيرهم... فوجدنا أنّ العمال الذين حصلوا على رواتبهم مقدّماً زادوا إنتاجهم بنسبة 6,2% في الساعة. كما ارتكبوا أخطاء أقلّ في عملية التصنيع، مما يدل على أنّهم صاروا أيضاً أكثر انتباهاً في العمل» – كانت هذه خلاصة دراسة أجراها خبير اقتصادي سلوكي وزملاؤه في كلية الأعمال بجامعة شيكاغو، ونشرها في مطلع العام الحالي (2021) مركز أبحاث خاص في الولايات المتحدة يسمى «المكتب الوطني للبحث الاقتصادي» NBER.

الباحث الرئيسي في الفريق الذي قام بالتجربة هو سيندل مولايناثان (بالاشتراك مع زملائه: سوبريت كاؤور وسوانا أوه وفرانك شيلباخ). ومولايناثان هو خبير اقتصادي سلوكي في كلية الأعمال بجامعة شيكاغو. وفي مؤلفات سابقة له بالاشتراك مع عالم النفس برينستون إلدار شافير، وجدوا أنّ الفقر مثل الطفيلي، يستهلك الطاقة العقلية للعمال، والتي لولا الفقر لكان يمكن استخدامها بشكل أكثر فائدة.

تأثير التحفيز المادي الباكر

في تجربتهم الميدانية قام الباحثون بدراسة 408 عمال على مدى أسبوعين في مصنع في أوديشا في الهند. يصنع العمال في المصنع الأطباق التي تستخدم لمرة واحدة في المطاعم المحلية. ويقول المؤلفون: إن العمال في هذا الجزء من الهند يقسمون وقتهم بين العمل الزراعي خلال موسم الزراعة والحصاد، وبين القيام بأعمال أخرى في الجزء الآخر من العام. وقد أجرى الباحثون الدراسة في فترة زمنية من ذلك الجزء من العام الذي كان العمال فيه يعانون من أعلى مستوى من الضائقة المالية والمديونية.
كانت تجربتهم الرئيسة بسيطة للغاية: لقد أعطوا مجموعة من العمال بشكل عشوائي جزءاً كبيراً من أجرهم في وقت مبكر من فترة عملهم بدلاً من أن يعطوهم إياه بعد نهاية العمل. في المتوسط​​، تم منحهم 1400 روبية (أو حوالي 20 دولاراً). كان هذا معادلاً لما كسبوه في الشهر السابق، واستَخدمَ جزءٌ كبيرٌ منهم الأموالَ لسداد ديونهم المستحقة.

راقب الباحثون بعد ذلك أداء العمال أثناء العمل، وقارنوهم بمجموعة من العمال الذين لم يتقاضوا رواتبهم مقدّماً. وجد الباحثون أنّ العمال الذين حصلوا على رواتبهم مقدَّماً كانوا أكثر إنتاجية بشكل ملحوظ، حيث زادوا إنتاجهم من الأطباق بنسبة 6,2% في الساعة. ولوحظ التأثير الأكبر لهذا التحفيز مع أفقر العمال. والأكثر من ذلك، أنّ المنتوجات التي صنعوها كانت أقلّ عرضة لارتكاب الأخطاء في تصنيعها، مما يشير إلى أنهم صاروا أكثر تركيزاً وانتباهاً في العمل.
استنتج المؤلفون، أنّ مَنْحَ العمال حوافزَ مقدَّماً (بشكل سلفة نقدية في هذه التجربة) قد ساعد في تخفيف نسبيّ للعبء الذّهني والنفسي لمشكلاتهم المالية، ممّا حقَّق انفراجاً نسبياً للهموم، فصاروا أكثر إنتاجية.
ويقول الباحثون الذين قاموا بالتجربة: إنها تتوافق أيضاً مع نتائج دراسات أخرى حول العواقب النفسية للفقر، لكن الجديد في تجربتهم هذه أنها أجريت في ظروف عمل حقيقية وواقعية بخلاف التجارب السابقة التي كان يتم إجراؤها في بيئات اختبارية.

مناقشة النتائج

كتب الباحثون في آخر دراستهم الخلاصة التالية:
لقد بدأنا للتو في فهم العواقب النفسية للفقر على النتائج الاقتصادية. أما الأبحاث المبكرة فركزت إلى حد كبير على المقاييس المختبرية التي تقيس: الإدراك، أو الرفاهية المبلَّغ عنها ذاتياً، أو المؤشرات الحيوية، مثل: الإجهاد (كما في نتائج أبحاث متعددة أجراها آخرون بين 2013 و2020). ويعتبر الدليل على سلوكيات المجال الاقتصادي خطوة تالية ضرورية لفهم الآثار المترتبة عن هذه السلوكيات على النتائج الاقتصادية.
إنّ المكاسب هي إحدى هذه النتائج، وهي مهمة بشكل خاص لأن آثارها منتشرة على نطاق واسع. على هذا النحو، فإن تأثير الهموم المالية على المكاسب يمكن أن يُغير في نهاية المطاف تفكيرنا حول العوائق التي تَحول دون الهروب من الفقر والسياسات ذات الصلة. على الرغم من أن هذه الدروس ماضية في الطريق، وتتطلب قدراً أكبر من العمل التجريبي، فإننا نقترح ثلاث طرق.

أولاً: قد تدفعنا هذه التأثيرات إلى إعادة النظر في برامج التحويلات النقدية (المشروطة وغير المشروطة). بالنظر إلى النتائج التي توصّلنا إليها، يبدو أنه من المفيد إعادة النظر في سياقات أخرى بحثاً عن تأثيرات مباشرة مماثلة. على سبيل المثال: توثيق الزيادات في المعروض من العمالة في المزرعة وإنتاج الحصاد بعد انخفاض السيولة للمزارعين في زامبيا؛ هذه الزيادات مصحوبة أيضاً بتحسينات محتملة في عملية صنع القرار.
غالباً ما تُعزى هذه التأثيرات إلى التفسيرات الكلاسيكية الجديدة، مثل: قيود الائتمان (ماتسوياما، 2011، غاتاك 2015). وتشير مشاهداتنا إلى أنّ التأثيرات المباشرة للتغيرات في الضغوط المالية ربما تكون قد ساهمت في التأثيرات الملحوظة في هذه الظروف. علاوة على ذلك، قد يكون لهذه البرامج عوائد اجتماعية أوسع.

ثانياً: قد نرغب في التفكير بشكل أكثر تحديداً في نماذج إنتاج العمال التي تتضمن التأثيرات التي وجدناها. على سبيل المثال: يمكن أن تشير نتائجنا إلى تفسير مختلف لأجور الكفاءة. قد تضطر الشركات إلى دفع رواتب أكثر طواعية للعمال، ليس لتعزيز التغذية (كما في دراسة داسجوبتا وراي 1986)، أو تجنب المخاطر الأخلاقية (دراسة شابيرو وستيجليتز 1984)، أو تحسين اختيار العمال (دراسة فايس 1980)، بل من أجل تعزيز التركيز والإنتاجية في العمل. يمكن أن يكون فصل الآلية الدقيقة لتأثيرنا مفيداً لفهم طبيعة هذه العلاقات بشكل أفضل.

أخيراً، إذا أدّى الفقر إلى انخفاض الإنتاجية، فإنه يخلق آلية «تضخم الدخل السلبي» أو «صدمات الثروة». في مواجهة الكارثة، سيكون الناس أقل إنتاجية عندما يكونون في أمس الحاجة إلى المال. هذه المشكلات خطيرة بشكل خاص بالنظر إلى أنه في معظم البلدان الفقيرة، يعتمد الأفراد بشكل خاص على ما يجنونه في العمل من أجل تأمين الاستهلاك السلس، أو التمويل الذاتي للاستثمار الإنتاجي في مؤسساتهم (كوتشار، 1999). وبناءً على ذلك، إذا كان للفقر تأثير سلبي على الإنتاجية، فإن فوائد الحدّ من التقلبات (على سبيل المثال من خلال التوظيف المستقر، أو برامج أجرة العمل العامة) أو التخفيف من الضعف المالي (على سبيل المثال من خلال الحصول على الائتمان أو التأمين ضد البطالة) يمكن أن تكون أكبر مما هو متوقَّع في الأدبيات الاقتصادية التقليدية.

ملحوظة ختامية

في هذه الدراسة كان لافتاً للانتباه بشكل خاص الإشارات التي أوردها الباحثون، في الخلاصة أعلاه، إلى أنّ موضوع التأثير النفسي للفقر على إنتاجية العمل، لا يلقى بشكل عام اهتماماً كافياً في الدراسات الاقتصادية السائدة. أما بالنسبة لنا فلا نستغرب هذا كثيراً، ولا نستغرب أنْ تكون الفكرة رغم أنّها «بدهيّة» إلى حدّ ما، ويحسّ بها العمال بشكل طبيعي في حياتهم اليومية، لكن على ما يبدو ليس من مصلحة الأنظمة الرأسمالية ترويج هذه الحقيقة العلمية كثيراً، لأنها ببساطة تتعارض مع محاولات رأس المال دائماً أنْ يلقي باللوم في ضعف الإنتاجية على «تقصير العمّال» و«عدم تطوير قدراتهم ذاتياً»، وعدم اتباعهم ما يكفي من «تعاليم التنمية البشرية» وما إلى ذلك... في حين يتمّ التغاضي والتعامي وحرف الانتباه عن الدور السلبي الكبير لتأثير الإفقار وضعف الأجور، على الإنتاجية، أيْ: عن الدور الهدّام للاستغلال الرأسمالي بالذات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1014