لماذا الخوف من الحركة الشعبية؟

لماذا الخوف من الحركة الشعبية؟

وجدت الحركة الشعبية نفسها بعد مضي حوالي ثمانية أشهر على ولادتها، بعيدة كل البعد عن مساعي القوى المختلفة من المعارضة والنظام والأطراف الإقليمية والدولية في ما يسمى «حل الأزمة» في سورية، فما يتضح حتى الآن أن هذه الأطراف ساعية لتصفية حسابات قديمة مع بعضها البعض، على ضوء معطيات جديدة من أبرزها ولادة الحركة الاحتجاجية السلمية، وقيام بعض الأطراف الخارجية بدفع مسلحين إلى صفوف الحراك بهدف تسخيره في خدمة سياساتها، وعنف مفرط من جانب الأجهزة الأمنية أضرّ بالحراك السلمي أكثر بكثير من استهدافه للمجموعات المسلحة...

وإلى ما هنالك من مستجدات هي بالنسبة للقوى السياسية المذكورة ليست أكثر من أوراق للتفاوض حول مستقبل السياسات الخارجية لسورية وحول تداول أو «انتقال» السلطة في سورية، وليس حول المسألة الاقتصادية- الاجتماعية مثلاً، التي تمس الجماهير مباشرة، ولم يظهر أي اختلاف حولها بين القوى السياسية المتصارعة، وذلك شأن كثير من المطالب التي لمّا تصغ سياسياً بعد، فالحراك يُنظر إليه كخزان للدماء فقط، وليس كرحم لنشوء فضاءٍ سياسيٍ جديد يعكس واقع سورية الحالي، الذي لم يعد يعكسه الفضاء السياسي القديم، المتكون من القوى السياسية المذكورة، بما تعانيه من ترهل.

 نشأت القوى السياسية التقليدية (معارضة- نظام) في سورية، في ظل هيمنة جهاز الدولة - الذي كان يتضخم باطراد- على حساب المجتمع ومن خلاله خلال العقود الأربعة الماضية، وقد كانت الجماهير خلال تلك المرحلة تابعة إلى حد كبير سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لهذا الجهاز، ولا تشارك في صنع قراراته إلا بشكل محدود، وخصوصاً في ظل نقص الحريات السياسية، وتلك كانت سمة أنظمة كثيرة في بلدان العالم الثالث آنذاك، لذا كان ينشأ دائماً لدى القوى السياسية ميل للدخول في جهاز الدولة والهيمنة عليه ومن خلاله على الجماهير، وتكونت العقلية السياسية لتلك القوى على أساس أن العلاقة بين الحزب والجماهير تتم حصرياً عبر جهاز الدولة، وهذا أسس لاحقاً للقطيعة الطويلة بين الجماهير والأحزاب التي اعتمدت مبدأ العمل من فوق لفوق، وكان آخر همها علاقتها مع الجماهير ذات الدور  الثانوي في مسرح السياسة آنذاك.

واليوم لم يتغير موقف الكثير من القوى السياسية التقليدية السلبي من الجماهير على الرغم من تحرك الشارع ذاتياً وبروزه كقوة لا يستهان بها، ذلك أن التهافت للهيمنة على جهاز الدولة ما يزال الهاجس الأكبر  للعديد من القوى، فبعض قوى المعارضة لم تجد في ما يحدث حتى الآن إلا ما يؤكد حقها التاريخي في السلطة الذي حرمت منه، وفي مقلب آخر يقض مضاجع بعض قوى النظام الخوف من انفلات السلطة من قبضاتهم، فيزاودون لإيقاف أي مسعى إيجابي لتعديل مواد الدستور المتعلقة بالسلطة كالمادة الثامنة، وفي المحصلة نجد أن معظم القوى المذكورة ترسم لمستقبلها السياسي بالطريقة السابقة نفسها التي لا دور للجماهير الناشطة سياسياً فيها إلا بما يخدم الاستراتيجيات السابقة نفسها، وهذا يدلل على أن تلك القوى لا ترى نفسها في المستقبل إلا هي ذاتها ساكنة وغير خاضعة لأي تغيير موضوعي ينال من بنيتها بما يكيفها ويهيئها لتكون جزءاً من الفضاء السياسي الجديد.

سيكون منطقياَ خوف القوى المتشددة في النظام من الحركة الشعبية، وخصوصاً رموز وأركان الفساد الكبير، التي ترى في الحركة الشعبية السلمية والمطالبة بالتغيير طرفاً قادراً على فضح ذلك الفساد ومحاربته بكل الطرق الحضارية والسلمية، أن تسعى بحجة وجود المسلحين، وهم موجودون، إلى ضرب السلمي قبل المسلح بخلط مقصود، حتى تفلت تلك القوى من سيف التغيير الذي سيبقى مسلطاً على رقابها طالما الاحتجاجات السلمية قائمة ومستمرة حتى تحقيق المطالب.

وبالوقت نفسه فإن بعض قوى المعارضة المطالبة بالتدخل الخارجي تمارس دور قوى الفساد نفسه في جهاز الدولة، وذلك بدفع الحركة الشعبية إلى التطرف والتسلح ورفع شعارات غير واقعية  بهدف رفع منسوب الدم واستدراج التدخل الخارجي، وتهيئة المناخ النفسي- الاجتماعي له، مستفيدة من عنف صنوها الآخر في النظام، لذا فهي منطقياً عدو للحركة الشعبية لا يختلف بالجوهر عن قوى الفساد داخل جهاز الدولة، وهي لن تعترف إلا  بحركة شعبية ترفع شعارات مطالبة بالتدخل الخارجي وتدويل الأزمة على الطريقة الليبية، أما الشعارات الرافضة للتدخل الخارجي والمطالبة بالوقت نفسه بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية فهي «مؤامرة» من النظام وصنيعة يديه.

ولكن أن تذهب بعض القوى في المعارضة التي تعلن رفضها للتدخل الخارجي، بمواقف تتناقض مع ما تعلن، فهو أمر غير مفهوم، والمقصود هنا هو الموقف الرافض من جانب هيئة التنسيق الوطني للفيتو الروسي- الصيني الذي منع الغرب من تكرار السيناريو الليبي، والذي كان عملياً أفضل حماية ممكنة للمدنيين في حينه، فهل كان هذا الموقف تحت ضغط القوى المتشددة في المعارضة؟ أم كان مسايرة للشعارات المتشددة في الشارع التي تحاول وسائل الإعلام الخارجية دمغ الحراك بها؟ أم هو تعبير عن صراعات داخل الهيئة حول الموقف من الخارج؟ أم هو سلوك انتهازي سياسي عبر رفع شعار جذاب كرفض التدخل الخارجي، ورفع شعار نقيض لكسب المطالبين بالتدخل الخارجي بالوقت نفسه؟؟

بغض النظر عن حقيقة هذا الموقف الملتبس، إلا أنه بكل الأحوال ليس في مصلحة الحركة الشعبية لأنه يعبر عن موقعين مختلفين عن بعضهما تماماً، ولأن من يحاول إرضاء الجميع في الوقت نفسه، سيتلقى الضربات من الجميع في وقت آخر، ولأن ما يجري اليوم في سورية يفرض على جميع الوطنيين والشرفاء التعامل بروح المسؤولية مع الحراك الشعبي ومع الوطن بالوقت نفسه..

  وفي ظل ذلك الحيف الذي يلحق بالحركة الشعبية السلمية، من كل حدب وصوب، سواء أعداءها أومن يدعون صداقتها، لم يعد مطلوباً منها أن تبحث عمن يمثلها أو يرشدها أو يفرض عليها الشعارات، فهي قادرة على تمثيل نفسها، وصياغة مطالبها وشعاراتها، وهي كما ورد في أحد بياناتها: «شخصية إعتبارية لا يحق لأي حزب أو شخص طبيعي تمثيلها أو النطق باسمها»، ومنها سينبثق الفضاء السياسي الجديد الذي سوف يرسي قواعد نظام سياسي جديد تتحقق فيه مطالب السوريين في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية...