«راند - النصرة»... صندوق باندورا!

«راند - النصرة»... صندوق باندورا!

أصدر مركز راند الأمريكي للأبحاث (RAND Corporation) الشهر الماضي، الجزء الرابع من سلسلته «سلام لأجل سورياً»، والذي صاغ بقدر لا بأس به من الوضوح ما أسماه (انتقالاً سياسياً من تحت إلى فوق)!

هذا الطرح أو (الحل) الأمريكي «غير الرسمي» تسانده بقوة التصريحات والأفعال الأمريكية الرسمية. وينطلق (الحل) من فكرة أن إحداث أي تغيير حقيقي في سورية في الأجل القريب أمر مستحيل، ولذلك ينبغي إحداث تغييرات جزئية ومن (تحت إلى فوق) تفتح الطريق للتغيير الحقيقي... لاحقاً.

التغييرات الجزئية – يشرح تقرير راند – تستند إلى المجالس المحلية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، كشريك أساس؛ إذ تقوم الخطة على أساس إجراء انتخابات داخل «المجتمعات المحلية» تحت رقابة دولية، على أن يتم الاتفاق على «مبادئ ومعايير» تلتزم بها هذه المجالس، وتنال شرعية واعترافاً دولياً على أساسه، وتقوم المجالس المنتخبة بدورها بتقييم الاحتياجات الأساسيّة، ولاحقاً تصبح هذه التقييمات أساساً لعملية توزيع الأموال المخصصة لإعادة الإعمار، ودون أية مصادفة، يتقاطع هذا التصور العام مع الطروحات التي تسربت عن «مبادرة ماكرون»، وبغير مصادفة أيضاً، يتقاطع مع تركيز دي مستورا على «الدستور والانتخابات مدخلاً» بل و»حصان طروادة» للدخول إلى القلعة وصولاً إلى الحل السياسي. ولرفع المسؤولية عن الغرب في هذه المسألة لا بد من اتهام روسيا ليل نهار، وبأن دي مستورا يخضع لتوجيهاتها ويسير بمشيئتها، وأنها هي التي تريد الانحراف عن 2254 وتحاول تحييد الانتقال السياسي لمصلحة انتخابات ودستور وغير ذلك...).

يبرر تقرير راند طروحاته عبر الافتراض: أن من شأن هذه العملية (من تحت إلى فوق) «أن تخلق أساساً لحكم لا مركزي»، و«تساهم في تطوير قيادات جديدة على المستوى الوطني، وهذا سيحد من سلطة نظام الأسد بشكل ما».

بكلام أوضح، فإنّ خطة راند تقول باسم الأمريكيين ما يلي:

فليبق النظام السوري كما هو في الأماكن التي يسيطر عليها. وهذا يتطلب (أ- استمرار المعركة) و(ب- عدم الدخول في حل سياسي شامل)، والأمران يخدم بعضهما بعضاً، و(سنجد) من يدعم هذا الاتجاه بشكل موضوعي بين الأطراف السورية المختلفة المستفيدة من الأزمة، والمتخوفة من التغيير، ومن الحل السياسي.

فلنحول سيطرتنا على المناطق التي (لنا) من سيطرة عسكرية مؤقتة إلى سيطرة سياسية طويلة الأمد عبر بوابة المجالس المحلية وإعادة الإعمار، و(«ما سنقوم به هو التحول مما أسميه بنهج الهجوم لاستعادة الأراضي، إلى إرساء الاستقرار. سترون المزيد من الدبلوماسيين الأمريكيين على الأرض»- جيم ماتيس 29/12/2017).

سيؤدي ذلك إلى تقسيم أمر واقع؛ حيث نصنع ضمن مناطقـ(نا) «سوليديرات» متعددة ضمن «مناطق خضراء» متعددة، (يذكرنا هذا بحديث مسؤولين غربيين في شهر نيسان الماضي عن الرقة - لاس فيغاس الشرق، ويذكرنا أيضاً بتقارير إسكوا - عبدالله الدردري). وسنستفيد من الموارد الطبيعية لمناطقـ(نا) أقصى استفادة ممكنة، بما يسمح بإنتاج إعادة إعمار وهمية لمناطق مسلوبة الإرادة، عبر القروض والديون والقيادات التحاصصية صغيرة الشأن والقدر.

بالمحصلة، فإنّ استمرار الحرب يعني استمرار الاستنزاف، (وليسمح لنا القارئ أن نستطرد قليلاً مع الحلم الأمريكي) وفتح احتمالات تفجير أكبر نتمنى أن يحدث في كل من: تركيا والعراق وإيران وأبعد من ذلك... إضافة إلى سورية بطبيعة الحال. وهذا كله سيؤخر تظهير ميزان القوى الدولي الجديد، مع احتمالات ضعيفة بمنعه من الظهور نهائياً... وهذا بدوره سيمنع انهيار الدولار...

يتعلق نجاح الخطة بأسرها، باستمرار المعركة وعدم الوصول إلى حل سياسي شامل، أي: بعدم تطبيق القرار 2254؛ وهنا يأتي دور النصرة التي عليها أداء مهمتين «جليلتين»:

تحمل مسؤولية عمليات خرق خفض التصعيد، أياً كان الطرف الذي يقوم بها، سواء كان طرفاً إقليمياً، مثل: تركيا أو «إسرائيل» خاصة، وغيرهما بطبيعة الحال، أو داخلياً: معارضة ونظاماً؛ إذ أن الأطراف الرسمية جميعها، غير قادرة على تحمل مسؤولية خرق خفض التصعيد بشكل علني، فهي غير قادرة على التلاعب العلني أمام الروس.

تغطية الخروقات التي تقوم بها أطراف داخلية مختلفة من «فصائل معتدلة» أو من أطراف في النظام، تسمح بإبقاء الروح في طروحات (الحسم العسكري) و(الإسقاط)، وبالتالي تنعكس على عقلية وتركيبة وأداء وفدي المعارضة والنظام في جنيف؛ الأمر الذي يحافظ على جنيف (كما هو حتى الآن) منصةً استعراضية يحاول كل طرف أن يسجل فيها نقاطاً على الطرف الآخر، بوصفها منصة ثانوية وملحقة بمعركة أساسية هي معركة (حسم - إسقاط) العسكرية الدائرة على الأرض.

ومن هنا، يظهر بشكل واضح، لماذا اعتبر لافروف (27/12/2017) أن (المهمة الرئيسية لمحاربة الإرهاب هي الآن في «دحر جبهة النصرة»).

وإذا أسمينا المشروع السابق اختصاراً مشروع (راند- النصرة)، فإنّه بمجمله يسعى إلى تقسيم سورية بالمعنى الفعلي، رغم بقائها قانونياً دولة واحدة، أي: أنه يسعى إلى تحقيق (هدف الحد الأدنى) بإنهاء وظيفة الدولة السورية، بينما الحد الأعلى الذي لم يعد وارداً هو إنهاؤها.

الترياق الشافي ضد (راند- النصرة) وما شاكلها من ألاعيب، ليس إلا القرار 2254 كاملاً، والذي يبدأ بتشكيل جسم الحكم الانتقالي، ومن ثم الدستور، فالانتخابات؛ لأن البدء بجسم الحكم التوافقي الشامل، يعني إعادة توحيد سورية أرضاً وشعباً ضمن مشروع بناء واحد ومتكامل، وعابر لكل التقسيمات الظرفية القائمة، مشروع يسمح بإبراز الصوت الوطني السوري الجمعي في مختلف القضايا، وليس بتفريقه وتشتيته بين (معارضة) و(موالاة)، وبين مناطق نفوذ ومحاصصات وأمراء حرب وطوائف وعشائر وقوميات. وبغير ذلك فإنّ الحرب لن تتوقف.

أخيراً، فإنّ مشروع (راند- النصرة)، يشبه بطريقة ما الأسطورة الإغريقية عن «صندوق باندورا»... تروي الأسطورة أن زيوس جمع الشرور البشرية كلها وأقفل عليها في صندوق أعطاه لامرأة خلقها اسمها باندورا، وأوصاها بعدم فتحه تحت أي ظرف كان، ولكنها فتحته كرمى لزوجها العاصي إبيميثوس، وبذلك انتشرت الشرور في عالم البشر. وتروي الأسطورة أيضاً: أن باندورا سرعان ما اكتشفت فظاعة فعلتها فسارعت لإغلاق الصندوق والعفاريت لا تزال تخرج منه، فاستطاعت بإغلاقه سريعاً أن تبقي شراً واحداً حبيساً هو «انقطاع الرجاء»، فبقي بذلك الأمل موجوداً بين الناس رغم انتشار الشرور. لكن أمريكا بفتحها صندوق باندورا طويلاً، وعن سابق إصرار ومعرفة وتعمّد، أطلقت هذا الشر أيضاً؛ شرّ انقطاع الرجاء، الذي تتمتع الشعوب بحصانة تاريخية ضده، والذي سينقلب خيراً مطلقاً حين يصيب أمريكا نفسها... وهو قاب قوسين من ذلك.

معلومات إضافية

العدد رقم:
0
آخر تعديل على الثلاثاء, 30 آب/أغسطس 2022 10:53